فراس
13 -09- 2005, 03:49 AM
كتب نواف المطيري وهوكاتب كويتي دراسة نقدية عن قصيدة انشودة المطر التي غناها باحساس يكسوه الحزن ويغلغل في جوانحه الأمل فقال
http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-09-13/Pictures/1309.cul.p24.n1.jpg
بدر شاكر السياب
تبدو تسمية "أنشودة الحزن والأمل" أقرب منها لأنشودة المطر. فالسياب في هذه القصيدة مزج ما بين إحساسي الحزن والأمل في نفسه، وربط هذه الأحاسيس ببعض المشاهد الطبيعية المحيطة به، وبالذات المطر، وهو الذي أسمى قصيدته - أو أنشودته - هذه باسمه.
يبدأ السياب قصيدته هذه بوصف عيني حبيبته، والتي قد تكون وطنه العراق، حيث يقول:
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر..
أو..
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
وللوهلة الأولى، قد يتبادر لذهن القارئ أنه أراد التغزل بجمالها الحسي، وهو الغرض الدارج لوصف العيون في الشعر العربي. ولكن بتمعن أكثر في كلماته، يزول هذا الظن. فأي جمال حسي في تشبيه العين بالغابة أو الشرفة؟!.
في البيت الأول:
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر..
تجدر الإشارة إلى أن هذا التشبيه ليس مجازيا، بل هو دقيق تماما. وهو أمر يعرفه كل من رأى غابة نخيل من بعيد ساعة السحر. حيث تتخذ شكلا نصف دائري غالبا، يشبه تماما شكل الهلال، ويكسوها الظلام والسواد.
وكذلك عين حبيبة السياب السوداء، والتي تكتسي أجفانها أيضا بالسواد، إما بسبب الكحل أو نتيجة للحزن الطويل والسهر. ويعلوها حاجب هلالي يجعلها كغابة النخيل تماما.
ولكن، أين الحزن والأمل في هذه الصورة التي أعطاها لنا السياب؟.
يكمن الحزن في كلمة "غابة".. أما الأمل فجعله السياب في كلمة "سحر".
فغابة النخيل من بعيد، تبدو مظلمة وموحشة. كذلك فكلمة "غابة" تثير في النفس الخوف من الخطر المنتظر حال دخولنا إليها. أو بعبارة أخرى، الخوف من المستقبل القريب الذي نجهله الآن. هنا أتى السياب بإحساس الخوف وما يبعثه بالنفس من حزن، ثم أعقبه بالأمل، من خلال اختياره لوقت "السحر" وهو الوقت الذي تأتي فيه أول خيوط الضوء معلنة نهاية الظلام والخوف.
فالسياب هنا يخاطب قارئ أبياته، وحبيبته معا. فهو يقول للقارئ: لا تخف من الظلام مهما كان ضخما وكثيفا، فالنور سيأتي من بعده وينتصر عليه كما في حالة غابتي النخيل والضوء الآتي وقت السحر.
وقد يكون رمز للظلام هنا بالظلم!، فهو يقول لكل المظلومين في بلده، لا تيأسوا إن زاد الظلم وطال أمده، فنور الحرية لابد أن يأتي يوما ما، ويهزم الظلم، كما يهزم الضوء الآتي وقت السحر ظلام غابة النخيل.
أما حبيبته، فهو يقول لها: إن نظرتي في المرآة، فلا يحزنك لون السواد الذي يغطي عينيك، ولا تصابي باليأس بسببه. بل انظري للنور الذي يعلو هذا السواد، وهو جبينك الأبيض. فكمية البياض في جبينك هي أكبر من كمية السواد في عينيك!.. والنور الذي يشع من جبينك، سيهزم السواد الذي يغطي عينيك، كما يهزم الضوء الآتي ساعة السحر ظلام غابة النخيل.
هي دعوة للتفاؤل والأمل يطلقها السياب هنا، على الرغم من أنه يسبقها بصورة حزينة ويائسة. ومن هنا تأتي عبقرية هذا الشاعر، حين يعطي إحساسين متناقضين في الوقت نفسه.
ولقد كرر السياب نفس الدرس الإنساني في البيت التالي، ولكن في صورة مختلفة، وذلك في قوله:
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
ولعبقرية السياب، فلقد مزج إحساسي الحزن والأمل في كلمة واحدة، وذلك في كلمة "ينأى" والكلمة التي تعاكسها بالمعنى - ولو أنه لم يذكرها - وهي كلمة "يقترب" فما هو الذي نأى وما هو الذي اقترب هنا؟.
وكيف أعطى هذا وذاك إحساسي الحزن والأمل؟!.
الذي نأى هنا هو القمر، والذي اقترب هي الشمس، مصدر الضوء الحقيقي.
فالنأي يعني البعد, والبعد - غالبا - يهيّج بالنفس إحساس الفقد والفراق. وزاد السياب هذا الألم بأن جعل النائي هنا هو القمر، بكل ما يرمز له من جمال. وبكل ما يرتبط به من مشاعر وأحاسيس مرهفة يعرفها العشاق.
أعقب السياب إحساس الألم هذا بإعطائه إشارة لحبيبته بأن الأمل ما زال موجودا.
فعندما ينأى القمر، فالليل والظلام سوف ينأى معه أيضا، فالقمر ملازم للظلام دائما. وعندما ينأى القمر، فهذا يعني أن الشمس تقترب، وهي مصدر الضوء الحقيقي، بينما القمر هو مصدر مزيف للضوء!.. فنوره مجرد انعكاس لضوئها هي!.
فهو كمن يقول للقارئ: لا تحزن ولا تيأس إن فقدت شيئا ثمينا في هذه الحياة، فقد يكون وراء فقده كسب لشيء أجمل وأثمن منه. تماما كحال القمر حين نفقده كل ليلة، وتأتي بعده الشمس، مصدر الضوء الحقيقي، لكي تنير لنا حياتنا وتعيننا على العمل والبناء.
"ليس كل ما يلمع ذهباً".. هذه حكمة مشهورة يحاكيها السياب هنا بقوله أن ليس كل نأي محزناً ولا محبطاً، فنأي القمر عن شرفتنا كل ليلة، فيه اقتراب للشمس وضيائها من هذه الشرفة. فيجب علينا ألا نفقد الأمل يوما ما، ولا نعتبر أن فقدان شيء جميل في حياتنا يعني أنها قد أصبحت بلا جمال.. لا.. فقد يكون الآتي أجمل مما مضى.
فأجمل أيام حياتنا هي تلك التي لم تأت بعد، كما قال شاعر آخر.
هي دعوة للأمل يطلقها السياب, ويمزجها بالألم أيضا أو الحزن.
وفي الجزء التالي من قرائتي للقصيدة، سوف أتكلم عن ربط السياب
لهذين الإحساسين بالمطر. وهو أمر غريب؛ إذ كيف يكون المطر، مصدر الفرح والخير مصدراً للحزن؟!. هو غريب فعلا، ولكن السياب استطاع أن يجسده بمنتهى الدقة والبراعة وهو من أدلة عبقرية هذا الشاعر.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2005-09-13/Pictures/1309.cul.p24.n1.jpg
بدر شاكر السياب
تبدو تسمية "أنشودة الحزن والأمل" أقرب منها لأنشودة المطر. فالسياب في هذه القصيدة مزج ما بين إحساسي الحزن والأمل في نفسه، وربط هذه الأحاسيس ببعض المشاهد الطبيعية المحيطة به، وبالذات المطر، وهو الذي أسمى قصيدته - أو أنشودته - هذه باسمه.
يبدأ السياب قصيدته هذه بوصف عيني حبيبته، والتي قد تكون وطنه العراق، حيث يقول:
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر..
أو..
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
وللوهلة الأولى، قد يتبادر لذهن القارئ أنه أراد التغزل بجمالها الحسي، وهو الغرض الدارج لوصف العيون في الشعر العربي. ولكن بتمعن أكثر في كلماته، يزول هذا الظن. فأي جمال حسي في تشبيه العين بالغابة أو الشرفة؟!.
في البيت الأول:
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر..
تجدر الإشارة إلى أن هذا التشبيه ليس مجازيا، بل هو دقيق تماما. وهو أمر يعرفه كل من رأى غابة نخيل من بعيد ساعة السحر. حيث تتخذ شكلا نصف دائري غالبا، يشبه تماما شكل الهلال، ويكسوها الظلام والسواد.
وكذلك عين حبيبة السياب السوداء، والتي تكتسي أجفانها أيضا بالسواد، إما بسبب الكحل أو نتيجة للحزن الطويل والسهر. ويعلوها حاجب هلالي يجعلها كغابة النخيل تماما.
ولكن، أين الحزن والأمل في هذه الصورة التي أعطاها لنا السياب؟.
يكمن الحزن في كلمة "غابة".. أما الأمل فجعله السياب في كلمة "سحر".
فغابة النخيل من بعيد، تبدو مظلمة وموحشة. كذلك فكلمة "غابة" تثير في النفس الخوف من الخطر المنتظر حال دخولنا إليها. أو بعبارة أخرى، الخوف من المستقبل القريب الذي نجهله الآن. هنا أتى السياب بإحساس الخوف وما يبعثه بالنفس من حزن، ثم أعقبه بالأمل، من خلال اختياره لوقت "السحر" وهو الوقت الذي تأتي فيه أول خيوط الضوء معلنة نهاية الظلام والخوف.
فالسياب هنا يخاطب قارئ أبياته، وحبيبته معا. فهو يقول للقارئ: لا تخف من الظلام مهما كان ضخما وكثيفا، فالنور سيأتي من بعده وينتصر عليه كما في حالة غابتي النخيل والضوء الآتي وقت السحر.
وقد يكون رمز للظلام هنا بالظلم!، فهو يقول لكل المظلومين في بلده، لا تيأسوا إن زاد الظلم وطال أمده، فنور الحرية لابد أن يأتي يوما ما، ويهزم الظلم، كما يهزم الضوء الآتي وقت السحر ظلام غابة النخيل.
أما حبيبته، فهو يقول لها: إن نظرتي في المرآة، فلا يحزنك لون السواد الذي يغطي عينيك، ولا تصابي باليأس بسببه. بل انظري للنور الذي يعلو هذا السواد، وهو جبينك الأبيض. فكمية البياض في جبينك هي أكبر من كمية السواد في عينيك!.. والنور الذي يشع من جبينك، سيهزم السواد الذي يغطي عينيك، كما يهزم الضوء الآتي ساعة السحر ظلام غابة النخيل.
هي دعوة للتفاؤل والأمل يطلقها السياب هنا، على الرغم من أنه يسبقها بصورة حزينة ويائسة. ومن هنا تأتي عبقرية هذا الشاعر، حين يعطي إحساسين متناقضين في الوقت نفسه.
ولقد كرر السياب نفس الدرس الإنساني في البيت التالي، ولكن في صورة مختلفة، وذلك في قوله:
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
ولعبقرية السياب، فلقد مزج إحساسي الحزن والأمل في كلمة واحدة، وذلك في كلمة "ينأى" والكلمة التي تعاكسها بالمعنى - ولو أنه لم يذكرها - وهي كلمة "يقترب" فما هو الذي نأى وما هو الذي اقترب هنا؟.
وكيف أعطى هذا وذاك إحساسي الحزن والأمل؟!.
الذي نأى هنا هو القمر، والذي اقترب هي الشمس، مصدر الضوء الحقيقي.
فالنأي يعني البعد, والبعد - غالبا - يهيّج بالنفس إحساس الفقد والفراق. وزاد السياب هذا الألم بأن جعل النائي هنا هو القمر، بكل ما يرمز له من جمال. وبكل ما يرتبط به من مشاعر وأحاسيس مرهفة يعرفها العشاق.
أعقب السياب إحساس الألم هذا بإعطائه إشارة لحبيبته بأن الأمل ما زال موجودا.
فعندما ينأى القمر، فالليل والظلام سوف ينأى معه أيضا، فالقمر ملازم للظلام دائما. وعندما ينأى القمر، فهذا يعني أن الشمس تقترب، وهي مصدر الضوء الحقيقي، بينما القمر هو مصدر مزيف للضوء!.. فنوره مجرد انعكاس لضوئها هي!.
فهو كمن يقول للقارئ: لا تحزن ولا تيأس إن فقدت شيئا ثمينا في هذه الحياة، فقد يكون وراء فقده كسب لشيء أجمل وأثمن منه. تماما كحال القمر حين نفقده كل ليلة، وتأتي بعده الشمس، مصدر الضوء الحقيقي، لكي تنير لنا حياتنا وتعيننا على العمل والبناء.
"ليس كل ما يلمع ذهباً".. هذه حكمة مشهورة يحاكيها السياب هنا بقوله أن ليس كل نأي محزناً ولا محبطاً، فنأي القمر عن شرفتنا كل ليلة، فيه اقتراب للشمس وضيائها من هذه الشرفة. فيجب علينا ألا نفقد الأمل يوما ما، ولا نعتبر أن فقدان شيء جميل في حياتنا يعني أنها قد أصبحت بلا جمال.. لا.. فقد يكون الآتي أجمل مما مضى.
فأجمل أيام حياتنا هي تلك التي لم تأت بعد، كما قال شاعر آخر.
هي دعوة للأمل يطلقها السياب, ويمزجها بالألم أيضا أو الحزن.
وفي الجزء التالي من قرائتي للقصيدة، سوف أتكلم عن ربط السياب
لهذين الإحساسين بالمطر. وهو أمر غريب؛ إذ كيف يكون المطر، مصدر الفرح والخير مصدراً للحزن؟!. هو غريب فعلا، ولكن السياب استطاع أن يجسده بمنتهى الدقة والبراعة وهو من أدلة عبقرية هذا الشاعر.