المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لأنك تعلمت... حبيبي



ربيع العمر
12 -08- 2006, 05:27 AM
لأنك تعلمت ...
الزمان : فاصل بين الحضور والغياب . المكان : برزخ بين الوجود واللاوجود .

هكذا كان الأمر ، حينما جاءت به أمه إلى الحياة وأبصر النور ، كل ما فيه حزين . لذلك ، سموه (الحزين) .

صوته لما يبكي ، كأنه ناي يطلق أفجع الرثاء ، وعندما يتكلم ، فكأنما قيثارة تعزف لحنا جنائزيا . أما عيناه ، فقد خلقتا من حزن صامت . حارت أمه في شأنه ، وعذب نفسها حالة ، التي هو فيها . حاولت أن تسميه إسما ، يخالف الحال التي هو عليها . كأن تسميه البهيج ، أو المشرق ، أو غير ذلك من الأسماء ، لعل ذلك يغير من الأمر شيئا ، لكن حاله كانت تزداد سوءا ، في كل مرة تحاول فيها أن تفعل شيئا مختلفا.

ذهبت به إلى الأطباء ، وعرضته على كثير من الحكماء . كانت الإجابة في كل مرة : "لا أمل .. سيبقى هكذا ، حزينا ، يتدفق الحزن منه ، إذا حكى ، أو نظر ، أو حتى تبسم" .

ماذا بقى ؟ تساءلت . - لماذا لا تجربين إمام المسجد ؟ قالوا لها . يقرأ عليه شيئا من القرآن ... يرقيه ببعض الأذكار . قرأ الإمام عليه مرات ، وفي آخر مرة قال : - يا أختاه ... إبنك سيعود طبيعيا يوما ما ، سيزهر الفرح في عينيه ، وسيعود صوته مثل هزار يغني على فنن ، تسألينني متى ؟ أقـول لك : لا أدري ، لكنه سيعود . تقولين كيف ؟ أقول لك : بالحب ، والحب ... ومزيد من الحب . تقولـين كيف ، مرة ثانية ..؟ أقول لك : لا أدري أيضا ، إبنك يحتاج الحب ، ليصير طبيعيا . عادت به ، وأخذت تذيقه كل أنواع الحب . علمته أن يحب الحرية ، حتى لو غلا ثمنها ، وأن يحب الحقيقة ، حتى لو عانى من أجلها .

وعلمته أن يحب (الآخر) ، حتى لو إختلف معه . صار يتطور نحو الأحسن ، يومض بريق في عينيه ، ويضيئ جبينه ، وصوته يتحول إلى ما يشبه الحداء . لكن ، ما أن يتحسن لبضعة أيام أو أسابيع ، حتى ينتكس ، ويعود ثانيـة إلى ما كان عليه ، وتتدهور حالته بسرعة ، حينما تنتابها لحظة كراهية لأحد ما . ظلت على هذه الحال ، تغدق عليه الحب فيتحسن ، ثم تعتريها حالة ضغينة ، فيعود الوضع كأن شيئا لم يكن . تعبت من هذه الحال ، فهي لا تستطيع أن تمنحه الحب متواصلا،

خاصة ذلك الحب المتعلق بالآخرين ، والأقربين على الأخص ، الذين يؤثر حبهم، أو كراهيتهم على تحسن حاله أو تدهورها . رجعت إلى إمام المسجد تشكي له ما تلاقي في سبيل ولدها .

قال لها : - كما ترين يا أختاه ، الحب هو علاج ولدك . أنا أعرف كم هو صعب أن نحافظ على قلوبنا بهذا المستوى من الصفاء والنقاء ، ولو لم يكن الحب بهذه المنزلة لما نادى الرب بين الناس ، يوم العرض : (أين المتحابون في جلالي ، اليوم أظلهم بظلي ، يوم لا ظل إلا ظلي) . لا أجد لك حلا ، إلا بأن تحملي نفسك على الحب ، وأن تدعي الله أن يساعدك على ذلك ، وأدعيه أيضا ، أن يقيض لإبنك سببا يكون فيه خلاصه .

عادت ، وقد يئست من شفائه ، فهي تعرف نفسها ، يغلبها عليها الشيطان ، فتتعرض لأحد بالكراهية ، خصوصا الأقربين . لماذا كلما كانت الحالة متعلقة بقريب ، أو حبيب ، كان التأثير أشد وأسوأ ..تساءلت ؟ أجابها الإمام : إنها الرحم يا أختاه ، معلقة بالعرش . يقول لها الرب سبحانه : (من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته) ، والكراهية يا أختاه ، تـورث قطيعة الرحم ، وتمزق الوشائج ، وتصدع القلوب ، وتغرس نصالها عميقا في الوجدان ، فلا جرم أن وطأتها شديدة على إبنك . ألا ترين أن الحب يعظم أمره على حال إبنك كلما كان شاملا لمحبوب ، أو لذي رحم . إن إبنك سيعود إنسانا سويا ، متى ما كان قلبك خاليا من الكراهية ، بل يا أختاه ، إن لم يخب ظني ، سيكون إبنك منارة لكل شئ جميل ، إذا استطعت أن تبقي شعلة الحب مشتعلة في قلبك للجميع ، لا تكدرها رياح للكراهية من أي نوع ، ولا لأي أحد . ظلت تحب وتكره ، ووحيدها ، وحبيبها ، يتردد في ذلك بين الإنتعاش والإنتكاس . تبكي وتدعو ربها أن يساعدها على الحب ، لتساعده أن يرجع طبيعيا . تدعو ربها ، أن يجعل لإبنها سببا يجعل الحب يورق في قلبه باستمرار ، ليكون انسانا طبيعيا ، وليصبح منارة لكل الأشياء الجميلة ، كما قال الإمام . (اللهم ربي إني عجزت ، وفشلت أن أكون ذلك الإنسان الذي أمنح أبني وحبيبي ما يكفيه من الحب ليعود سويا) ، هكذا كانت تدعو . وتلح بالدعاء قائلة : (اللهم ربي إني لا استطيع أن أكون له ينبوعا من الحب صافيا ، فاجعل لي وله ، من لدنك مخرجا ، يا مجيب المضطر إذا دعاه) .

كان حريا أن يجيب الله دعاءها ، وأن لا يرد تينك اليدين الممدودتيين ، في جوف الليل ، تبللهما الدموع الحارة الصادقة خاويتين . لكن متى يأذن الله بذلك ؟ هذا من أمر الغيب . لذا ظلت تدعو ، وتحاول أن تجعل قلبها مساحة للحب خالصة ... الحب فقط . ذات صباح جذبها صوت كأنه أهزوجة فرح ، يأتي من فناء البيت الخارجي . الصوت فيه من صوته ، صوت إبنها . لكن أنى يكون هو ، وصوته (نغم) ما خلق إلا للحزن والجوى ، وهذا الصوت ، الذي سمعته الآن ، يشيع البهجة في المكان . هل تراها توهمت بعد طول أمل ؟ ها هو الصوت مرة أخرى . ركضت إلى غرفته ، ولم يكن موجودا في سريره ، والصوت ما زال ينساب إلى داخل البيت عذبا نديا . اتجهت إلى النافذة ، فما هالها إلا أن رأته جاثيا في حديقة الفناء ، حول نبتة غريبة . وجهة كالضحى مشرقا ، وعيناه صافيتان كالسماء . إشرأب بعنقه نحوها ، وثغرة يفتر عن إبتسامة ، تومض كالبلور . انطلقت تجري نحوه ، فشاهدت منظرا عجيبا : إبنها يحيط بكفيه شمعة على هيئة وردة . - ما هذه يا حبيبي ، سألته ؟ لم يزد على أن قال : - أمي ... أحبك يا أمي ، وتلألأ وجهة ، بنفس الضياء الذي تنثرة تلك الشمعة . حمـدا لك يا رب ، عاد إبني إنسانا سويا . صوته ، وجهه ، عيناه ، كل شئ فيه . ضمته إليها ، فأحست بما لم تعهده فيه من قبل : دفق من الحنان ، والحب ، والعواطف الجياشة ، يسري في جسدها . حمدا لك يا رب .. حمدا لك يا رب ، إن فيض الأشياء الجميلة التي ذكرها الإمام ، تنتقل من ولدي إلي . سيكـون بإذن الله ، منارة لكل شئ جميل ، كما قال الإمام . هذه النبتة العجيبة ، التي أنبتها الله ، هي سر تغير إبني . لم يمر غير زمن قصير ، حتى شاع خبر التحول الذي طرأ على (الحزين) . لم يعد مصدرا للحزن والعناء ، كما كان من قبل . وأطلقت عليه ألقاب كثيرة ، كلها ذات دلالات لها علاقة باشياء جميلة ، من حب ، ورحمة ، وأدب ، ورقة ، وتعاون ، واحترام ، وتسامح . لكن ، لا أحد يعلم أن هذه النبتة العجيبة هي سر التحول .

كانت المرأة خائفة أن يكتشف أحدا السر ، فيعمد إلى الاستئثار بالنبتة ، أو إيذاءها ، أو ربما إتلافها ، حسدا وضغينة . لو حدث ذلك ، فلا شك أن حال ولدها ستتدهور ، ويعود لسالف أمره من الحزن والعناء . عزمت أن تخبر الإمام بالذي حدث ، وتطلعه على السر ، ففضله عليها ، وعلى ولدها لا ينكر ، كما أنه محل لأن يستودع السر ، بل قد يشير عليها برأي ، يساعدها في حفظ تلك النبتة ، التي تنطوي على سر تحول ولدها .

- يا أختاه .. قال الإمام ، إن هذا من الكرامات التي يمنحها الله لبعض عباده ، لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه . لكن ، يضيف الأمام : إن من طبيعة هذه المعجزات والكرامات ، التي هي خارقة للعادات التي اعتادها الناس ، أنها لا تدوم ، لأن دوامها مخالف لناموس الله في الكون . لذلك يا أختاه ، هذه الشمعة الوردة ، التي كانت سببا في شفاء إبنك ، لابد أن تزول يوما .

صاحت المرأة بجزع : - ويعود إبني كما كان يا إمام ؟ رد الإمام ، فقال : - إن الله أوجد هذه المعجزة ، ليتعلم منها إبنك كيف يصير إنسانا سويا . ألم تتأملي في ما وراء هذه المعجزة .. في المعاني التي تقولها ؟

- وضح يا إمام . قالت المرأة ، بصوت يملأه الرجاء . قال الإمام : - معجزة الشمعة الوردة ليست في ذاتها وشكلها ، بل في المعاني التي تحملها . الوردة تحكي البهاء ، والرقة ، واللمسة الحانية ، والعطاء الطيب ، والمظهر الحسن الجميل ، واللطف ، وصفاء الظاهر والباطن ، والعفو .. هل رأيت وردة انتقمت من قاطفها ، أو احتجت على من أمتلكها ، واستمتع بها ، واشتم رحيقها ، ثم أهملها .. أو ربما داسها ، وقد ضمها يوما ، وزعم أنه يحبها . الوردة تتألم ، حينما نضع أنوفنا في جوفها ، ونستنزف شذى قلبهـا ، لنتمتع برائحتها ، فتذوي دون صراخ حتى لا تزعجنا . هي تعطي كل هذا العطاء .. مع هذا ، هل سمعتها يوما تقول : أنا الأفضل .. أنا المصدر الأوحد للبهاء والجمال والشذى .. وما سواي عدم (انتم) بدوني .. لا شئ .

- وماذا تقول الشمعة ؟ - إنها تتحدث عن التضحية ، والإيثار ، وفناء الذات من أجل الآخر ، دون مقابل ، إلا الثواب من الله طبعا . تتحدث عن كيف يمكن أن نحترق حبا وعطاء ، من أجل إسعاد الآخرين . عن الضوء ... كيف ينداح الوهج علويا ، ويتمدد في كل إتجاه ... يتنزل على جميع الوجوه ، ويعانق كل العيون . يختلط بها ، وهو فوقها ، ومن بينها . هل (سمعته) يوما ، يحدث خربشة ، أو ضوضاء ، ليجذب نظر الناس إليه .. ليشعرهم .. ليقول لهم : أنا فوقكم .. أنا اتنزل عليكم .. (أنتم) بدوني لا شئ ..؟ تأملي الشمعة يا أختاه كيف تذوب بصمت ليبقى الآخرون ، من نحب ومن لا نحب ، يمارسون حياتهم بشكل طبيعي ، لا تكدر صفوهم الظلمـه . الشمعة تتألم ... تبكي بصمت ، حتى لا تتعكر أمزجتنا . وإذا ما جثم الظلام ، هرعنا إليها .. نتذكرها .. ونسرف في الحديث عن حاجتنا إليها ، وأهميتها في حياتنا .. فقط حينما نحتاجها .. فقط حينما يهيمن الظلام ، ولا يبقى مضيئا إلا هي .. (وحدها) ، ونحن نتخبط في ظلماتنا .ظلمات حسدنا ، وأحقادنا ، وأنفسنا المريضة ، وذاتيتنا المفرطة . هل رأيت هذه المعاني ، وغيرها كثير ، مما يجب على إبنك أن يتعلمه من هذه المعجزة التي لن تدوم ؟ لإنها ما دامت للأنبياء من قبل ، وهم خير الخلق . إن إبنك لابد أن يتعلم كـل هذا ، ليبقى طبيعيا ، ويكون أنموذجا لكل ما هو جميل . - وأنا ماذا أفعل يا إمام ؟ سألت المرأة . - أنت عليك أن تساعديه ليتمثل كل تلك القيم الجميلة ، ثم الدعاء . فببركه دعائك كأم ، سيتحقق الكثير إن شاء الله . لم يمض وقت طويل ، حتى أفاقت ذات يوم على الشمعة وقد أنطفأت ، والوردة وقد ذبلت . لم تهتم ، لأنها كانت تتوقع ذلك ، ولأنها لاحظت ، و يا للعجب ، أن الناس صاروا يصفون إبنها بأنه كالشمعة أو كالوردة ، دون أن يعرفوا سر ، القيم الجميلة التي حازها ، وغمر بفضلها القريب والبعيد . أخذته بين يديها وضمته إلى صدرها ، وقالت :

حبيبي ... ستبقى هكذا ، جميلا ، مضيئا ، مشرقا ، محبوبا ، من ربك والناس ... لأنك تعلمت.



للدكتور محمد الحضيف..

مجاهد اليامي
19 -08- 2006, 09:58 AM
شكراً ربيع العمر


لاختيارك الذي يدل على ذوقك الراقي
تحياتي

رمز الوفاء
02 -09- 2006, 07:41 PM
مشكووووور اخ ربيع




الف شكر ونحن في انتظار ابداع قادم





رمز