المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خوف..قصة مترجمة للكاتب الانجليزي ه. ي. بايتس



مجاهد اليامي
16 -12- 2003, 07:00 AM
في الأفق راحت ثلاثة أعاصير منفصلة تتبادل حديثا سوداويا. كان الكوخ الذي لجأ إليه الصغير ريتشارد وجده قد شحب لونه بفعل الظلام، وصار جوه خانقا ودافئا والأشجار المحيطة به أرجوانية مثقلة بالهسيس. كلما رانت إلى سمع الصبي أصوات قادمة من صوب الغابة رفع زوجا من أعين اتسعت وانقلبت إلى الأصفر الباهت بفعل الخوف ثم سأل جده: «ما المشكلة يا جدي، ما الذي يجعل الدنيا تظلم؟» أحيانا كان العجوز يفرك لحيته دون أن ينبس بكلمة، وأحيانا أخرى ينخر ويقول: «لا تقلق»، وفي ثالثة «أنت لست خائفا، أليس كذلك إنك صبي كبير على الخوف. اهدأ فسوف تتلف بنطالك».


لكن الصبي لم ينفك يجول بعينيه الواسعتين المتورمتين في أرجاء الكوخ، متململا على وركين مرتعشين ومبديا خوفه من الظلمة وهدير الرعد الذي كان يتسرب إلى الكوخ مذكرا إياه بأصوات الكلاب والبقرات. لذا لم يجد ما يضجر في تكرار عبارته «ما المشكلة يا جدي، ما الذي يجعل الدنيا تظلم؟».


وبعد كل مرة قال فيها عبارته كان ينقص عدد الأشياء التي تثير الاهتمام داخل الكوخ، عدا عن أنه لا يوجد في الخارج سوى تلك الأعاصير الثلاثة يتعاظم حنقه على بعضها البعض.


في الغابة راحت الأشجار تفتح أذرعها مستعدة لالتقاط المطر الآتي. وإذا تأخر ذلك رطب العجوز شفتيه الناعمتين وأخبر الصبي بأنه سيغني ثم ابتدأ بمطلع أغنية شعبية. لم يذهب إصغاء الصبي أبعد من النوتة الأولى أو الثانية، وسرعان ما عكف النغم الناعم عن مسألة سبره للهواء الراكد وقال العجوز ثانية: «اهدأ ليس هناك ما يدعو للخوف» «إذا لم حل الظلام» أصر الصبي «سوف تمطر» قيل له لم يستطع فهم ذلك «لكنها أمطرت البارحة وكانت الشمس مشرقة. فلماذا لا تشرق الآن» «الشمس غير موجوده» «إذا أين ذهبت» سأل بسذاجة «لا تقلق» ثم أرعدت مجددا وعندها تمكن الصبي بصعوبة من رؤية جده، ولما عاد الصمت من جديد قام إلى الباب واسترق النظر خارجا «لم السماء خضراء» سأل الصبي «إنها ليست خضراء» صرح الجد لكنه أصر «بل هي كذلك، إنها خضراء مثل قبعة نانسي، لما هي كذلك» «سوف تمطر»، كان الجواب «هذا كل شيء اصمت» راح الصبي ينوح. وإذا نظر عبر غشاوة دموعه بدا له أن السماء الكاحلة تضغط الأشجار على الكوخ ولن يطول الوقت قبل أن تُجدع وتدفنه تحتها. «أريد أن أذهب إلى البيت» همس الصبي لكن العجوز لم يجب. لفترة طويلة ساد صمت رطب وحار، أحس الصبي أنه يعرق وغير قادر على رؤية جده. وفجأة راحت السماء تمطر، في البداية على نحو متقطع، ثم بغزارة يصحبها صوت هسيس قوي.


«جدي، جدي» صاح الصبي ثم ركض وارتمى ما بين ركبتي العجوز الداكنتين وراح يئن «جدي، جدي» لكنه لم يلق جوابا سوى صوت شخير ناعس.


«استيقظ» همس الصبي «إنها تمطر، أريد أن أذهب إلى البيت» رفع العجوز نفسه ليسمع دوي رعد هائل وصوت الصبي مختنقا بدموعه وقطرات المطر ترمي بنفسها على النافذة بشغف كئيب.


«أريد أن أذهب إلى البيت!» صرخ الصبي «إنه المساء ولابد أن أمي قد أوت إلى فراشها». «اهدأ»، طمأنه العجوز «لم يحل المساء بعد» «إذا ما هو الوقت؟» مثل عين بيضاء بزغت ساعة في العتمة ثم تدفق لهب ثقاب مزرق فوقها تماما، ولدقائق نسي الصبي خوفه والعاصفة وهو يراقب الضوء المتشكل بهيئة ورقة شجر وانعكاسه على وجه جده وسقف الكوخ.


«إنها الثامنة فقط»، دمدم العجوز «اجلس هادئا».


لكن في تلك اللحظة بدا أن العتمة ابتلعت اللهب، ثم وكأنه بواسطة معجزة ماكرة عاد وظهر في اللحظة التالية على شكل برق مسعور جرح السماء جرحا أصفر راح بدوره يقطر دما أصفر على الغابة وأرض الكوخ، تلاه رعد كأنه وحش عظيم جلس يهدر على السطح، وبدأ الهواء الساخن المسالم يصرخ كطفل مذعور وكانت الأشجار مكروبة. كل هذه البلبلة جعلت رأس الصبي ثقيلا وساخنا بفعل الرعب، فدفنه بداخل التجويف الودود ما بين فخذي العجوز، وهناك في الظلام راح يئن ويبكي.


وبينما راح البرق والرعد ينشدان ثنائيتهما المريعة فوق رأسه جرب أن يفكر بالبيت، وبوجه أمه الهاديء، وتلك النافذة حيث يوجد بعض حشرات العث العمياء المسالمة. لكنه لم يستطع أن يستحضر هذه الصور بطريقة واضحة، وشعر أن ما يمنعه من ذلك هو الإعصار هذا العجوز الأسود المحتال، والذي لا فرصة لديه ليفلت منه إلا إذا ما تلفح بالظلام وحُسب كلبا أو كيسا. لذلك ربض مكانه جامدا محاولا عدم الإصغاء، لكن كل صوت كان يصل أسماعه بجلبة مضاعفة، وأدرك أن الإعصار مضى في حُمّى غضبه غير مبال بذعره.


مر ما يقرب الساعة، وكثيرا ما ود الصبي أن يصرخ لكنه أحس أنه يغص بالخوف والظلمة فلزم الصمت. راحت ركبتاه تبردان وسقطت إحدى رجليه ضحية نوم وخز. وحده رأسه كان دافئا وينبض بجنون مثل ساعة قديمة. ثم حدث أن انبعثت رائحة حريق من الغابة لكنها سرعان ما تلاشت ونسيها الصبي وهو يتساءل إذا ما كانت الحيوانات مذعورة مثله وأين ذهبت كل الطيور ولم هم صامتون. ثم حالفه الحظ أن يضبط التكات الفضية لساعة جده مما طمأنه.


توطد الهدوء وطغت ظلمة صافية، نهض الصبي وفتح عينيه. كان المطر قد توقف عن الهدير وسرعان ما مضى الرعد. في الخارج تدلت بيوت العناكب مثل حبال خرز رصاصية، وحمل العجوز الصبي فوق برك الماء الداكنة التي غطت الأرض. من طرف الغابة كان يمكن رؤية العواصف الكئيبة تنسحب مبتعدة يرافقها ضباب خفيف وظهرت نجمة أو اثنتان في الدرب التي سلكاها.


«إنه وقواق». قال العجوز كان وقواقا بالفعل وإذا أنصت الصبي نسي آخر مخاوفه. اكتشف أن رجله متيبسة حين حاول المشي ولما خطا بها أحس كأن ألف دبوس قد غرزوا بها لكنه ضحك لتخفيف وطأة ما حدث حكى العجوز قصصا قديمة أصغى إليها الصبي بإبهام، وإذا صار ذلك مبتذلا أخذ يد الصبي في راحته المتغضنة وراحا يعدان النجوم «واحد وخمسون.. اثنان وخمسون»، وهكذا مرة أو اثنتين برقت السماء بعيدا جدا لكن لم يكن هناك رعد. ومع ازدياد عدد النجوم بدا للصبي أن الإعصار قد فقد كل هيبته ـ ربما لأنه كان نائما حين ومضت البروق العظمى ـ وسريعا ما ستظهر القرية وعندا لا مزيد من الخوف.


«أنا لست خائفا جدي» قالها الصبي عدة من المرات، ولما دقت الساعة التاسعة وأنصت الصبي إلى النغمات المنبعثة في أرجاء الحقل المظلم لمح شهابا.


«سقطت نجمة، سقطت نجمة»، صرخ فجأة «ما أروعها».


امتلأ سعادة وقرص رجل العجوز ثم قفز في بركة ماء وصرخ من جديد «سقطت نجمة إلى الأسفل».


لكن الجد لم يجب لم يكن يؤمن عموما بالخرافة القائلة بأن سقوط نجم يعني الموت، لكنه لسبب ما لم يستطع صرف تفكيره عن الرابط ما بين الحادثين. وبينما سار نازلا التل صار ذهنه ضجرا. وفجأة تذكر زوجته وموتها ثم راح يفكر بسنه وأعضائه الواهنة واحتمال موته قبل شروق شمس يوم آخر. تدريجيا بدا وكأنه محتوم بالموت عاجلا وراح يعرق تماما كما كان يفعل الصبي، كان مهووسا بفكرة أن شيئا أسود ورهيبا يتربص به ليسلبه حياته وليس من مفر لا لروحه ولا لجسده.


زقزق عصفور أو اثنان سمعهما الصبي لكن مثل جده لم يشغل باله شيء سوى النجوم. وتذكر أن عليه أن يسأل هل كانت الحيوانات خائفة وأين اختبأت الطيور خلال الإعصار، لكنه حين نظر إلى وجه جده رأي سحنته متجهمة فلم يجرؤ سوى على قول: «هل رأيت النجمة تسقط».


لم يتلق إجابة، وإذ سارا هابطين التل صار العجوز مترعا أكثر فأكثر بخوفه من الموت ولم يقو على ضبط نفسه. لكن الصبي راح يضحك، وبينما هو ينتظر شهابا آخر تساءل وحيرة في عينيه، لم بدا جده متجهما وبائسا وصامتا ومسرعا كأنها ستمطر من جديد.

http://fozy.jeeran.com/coollogo_com_78011412.gif

ابومشعل
16 -12- 2003, 10:52 AM
اختيار جميل ياجني المنتدى
وقصة ذات اسلوب راقي
نتمنى منك اختيارات أكثر

مجاهد اليامي
16 -12- 2003, 06:45 PM
الأخ / أبو مشعل
شكرا لمشاعرك الرقيقة
آملا أن تحوز اعجاب ورضى باقي الأعضاء الأعزاء

http://fozy.jeeran.com/coollogo_com_78011412.gif