المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الليل بين الشرق والغرب



همس الروح
14 -06- 2008, 12:23 PM
الليل بين الشرق والغرب


هذا الليل الساحر الأخاذ بنجومه المتألقة وكواكبه المتلألئة المنثورة كالزهر في صفحة السماء ، وهذا القمر
المختال على عرشه في أجواز الفضاء ، هذا الليل بسكونه الرهيب ، وصمته المهيب ، وهمسه الرقيق الحاني
كم ألهم الشعراء، وكم سكب ذوب السحر في قلوب الفنانين !. هذا الليل قد حظي في الآداب العالمية بأهمية
كبيرة ومنزلة رفيعة ، وظل يلهم أرباب الشعر ورسل الفن منذ الأزل إلى وقتنا هذا وأظن أنه سيظل يلهمهم
إلى أبد الآبدين ...

من منا يخلو شعره الحديث من ذكر لليل وعتمته ووحشته ورهبته وهمسه وسكونه وطوله وسهره وسهاده فيه
من منا لم يلهمه الليل شعرا يمتلئ بالأحاسيس وبالمشاعر الفياضة ؟؟؟ ولليل أحاديثه ومتعته التي لا تعادلها متعه
فهو ملتقى الأحبة بعيدا عن العيون يستلهم منه العشاق أشواقهم الأبدية وحبهم الذي لا ينضب عبر الليالي
حتى عصر التقدم وشبكات الإنترنت لم تمنع أن يكون لليل سحره الخاص بالتواصل عبر الأسلاك بين عموم
البشر من محبين وخلافه.....

كان الليل في الشعر الجاهلي ملهما للشعراء الذين كانوا يضربون في الصحراء ويهيمون في الفلاة بين الرمال
الصفر والسماء الزرقاء ،وقد ذكر امرؤ القيس في معلقته كما ذكره طرفة بن العبد ولبيد وغيرهم من شعراء
المعلقات ، وترنم الأعشى صناجة العرب بسحره وفتنته ولكن الشاعر الجاهلي لم يجد غير " وليل كموج البحر
أرخى سدوله عليه بأنواع الهموم ليبتلي" كما هو الحال عند امرؤ القيس ولم يجد غير ليل بطيء الكواكب كما
هو الحال عند النابغة الذبياني وهكذا وغير ذلك من التشابيه والتصاوير التي يستمدها الشاعر الجاهلي من البيئة
العربية والطبيعة الصحراوية وتساير نفسيته الحرة وتجاري خياله الطليق ، فالليل يتمطى بصلبه ويردف أعجازاً
والليل لا يتقدم إلا ليتأخر ، ونجومه كأنها دواب يسحبها الليل سحبا ويسوقها النهار سوقا ، كأن بها تثاقلا من
العرج وتباطؤا من الوهن ، فهي لا تتحرك ، فهي لا تتحرك إلا بمقدر ، وهي لا تتقدم إلا بمعيار......

ولما انقضى العصر الجاهلي وجاء العصر الإسلامي وجدنا العرب يتفننون في وصف الليل تفننا ، ويتنوعون
في وصفه تنوعا ، فالليل قد انتصف عمره وقح استغرقنا شبابه والليل قد شاب رأسه وشمطت ذوائبه وتقوس
ظهره وتهدم عمره ، والليل تقوضت خيامه ، وخلع الأفق ثوب الدجى ، والليل قد تطرز قميصه بغرة الصبح
وافتر الفجر عن نواجذه وما إلى ذلك من خيالات جميله وتأملات طريفة.

ومن الطبيعي أن يتعرض الشعراء لوصف النجوم عند حديثهم عن الليل ، ولعل أظرف ما وصفت به النجوم
قول ابن الرومي :


رب ليل كأنه الدهر طـــــولا .........قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشيب ..........ليست تزول لكن تزيد

كما تعرض الشعراء لظلمة الليل ولطوله في كثير من المناسبات ولكن الفرزدق ذكر العلة في طول الليل
حين قال :

يقولون طال الليل والليل لم يطل ...ولكن من يبكي من الشوق يسهر

وتابعه بشار في هذا المعنى فقال :

لم يطل ليلي ولكن لم أنم ............ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها جودي لنا .............خرجت بالصمت عن لا ونعم
نفسي يا عبد عني واعلمي ..........أنني يا عبد من لحم ودم
أنا في بردي جسما ناحلا ............لو توكأت عليه لانهدم

وهكذا أكثر الشعراء من الشكوى من طول الليل وتفننوا في ذلك ما وسعهم التفنن فمنهم من استعدى محبوبته
على وحشة الليل ، ومنهم من طال ليله حتى نسي النهار أو سمات النهار ، ومنهم ل ساهرا لأن محبوبه ظعن
عنه فإذا الكرى يفر عن عينيه فرارا ويزور من جفنيه ازورارا وهكذا كان الليل .ولم يزل مع اختلاف الزمن
بين الماضي والحاضر...

وكما أن الليل كان ملهما للعشاق من شعراء الحب ، كان الليل أيضا ملهما لشعراء الحرب أيضا ، فهاهو
المعتصم يفتح عمورية ويصب عليها جام غضبه صبا وها هو أبو تمام حاضرا يشهد هذه المعارك الطاحنة
والمآسي المروعة في الليل فيرسل نفثه من أعماق قلبه فيقول :

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ........يشله وسطها صبح من اللهبِ
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ..........عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة ...........وظلمة من دخان في ضحى شجب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت ..........والشمس واجبة من ذا ولم تجب

وقد وقف أبو العلاء المعري وقفة أمام الليل يخالف فيها هؤلاء الشعراء جميعا :

فأبو العلاء رجلا مكفوفا وليس الظلام عنده بفان . أبو العلاء يرى الليل عروسا من الزنج عليها قلائد م جمان ،
ويتخيل أن الهلال والثريا معتنقان ، والواقع أن أبا العلاء كان برغم فقد بصره شاعرا مرهف الحس رقيق
الشعور متفتح المدارك بعيد التأمل.

أما الليل في الأندلس فقد ظفر بمنزلة عظيمة ومكانة سامية والوصف كان يكلله في أغلب الأحوال .فالسماء بساط
أزرق موشى بالزهر الأبيض والليل تجنى فيه الملذات

وهكذا شاعت في الأندلس ظاهرة التزيين والتزويق في الصور والمعاني وبرزت النزعة الأبيقورية كما يسميها
مؤرخو الفلسفة أو نزعة المتعة كما حب أن يسميها مؤرخو الأدب

الليل في العصر الحديث :
وفي العصر الحديث لم يغفل الشعراء الكتابة عن الليل وكان ذلك واضحا في شعر محمود سامي البارودي عندما
نفي عن وطنه وأخذ ينظم الشعر وكيف وصف الليل الذي يخيم على الأدغال والأحراج وصفا ممتعا وجميلا ..

وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي الذي تنقل في بلدان شتى يصف الليل ويعبر به عن مشاعره واستمد من الليل كثيرا
من حكمه المشهورة:

كم ساهر خائف والدهر في سنة ............وراقد آمن والدهر في سهر
فلا تبيتن مختلا ولا ضجرا ................إن التدابير لا تغني عن القدر

كما أن شعر شوقي حافل بليل الاستبداد وليل الظلم وما إلى ذلك من استعارات ومجازات استدعتها الظروف السياسية
المحيطة به في هذه الفترة ...

وكان حافظ إبراهيم له في ذلك باع طويل إذ يقول:

يا ساهر النجم هل للصبح من خبر.......... إني أراك على شيء من الضجر
أظن ليلك قد طال المقام به .................كالقوم في مصر لا ينوي على سفر

وكان للعقاد ولعبد الرحمن شكري شعرا متنوعا وعميقا عن الليل لا يتسع لي المجال هنا لذكره .

أما الشاعر علي محمود طه شاعر الجندول فله قصيدة رقيقة عذبة في غرفته تغنى بها بالليل وهي من النوع الغربي
صور فيها الشاعر نفسه ساهدا ساهرا تحت ضوء مصباح خافت وهو يفكر ويطيل التفكير ويغرق في التأمل ..
وهي من أروع ما كتب على محمود طه وتشبه إلى حد بعيد قصائد الشاعر الفريد دي موسيه في الغرض نفسه...

هذه بعض خطوات عن الليل في الأدب العربي

أما الأدب الغربي فقد كان الليل ملهما لكثير من الشعراء والفلاسفة ،وصور نيتشه وشوبنهور رهبته في كثير من
حديثهما وكان دعامة لكثير من نظرياتهما الفكرية وتأملاتهما الميتافيزيقية ...

أما شعراء الرومانسية في أوروبا فقد أكبروا الليل في أشعارهم ووجدوا فيه مرتعا خصبا لخيالهم ومجالا فسيحا
لأحلامهم ومن هؤلاء الشعراء ، شللي وكيتس وبيرون في انجلترا ولامارتيه وهوجو والفريد دي موسيه في فرنسا ..

قال الشاعر شللي في أحدى قصائده :

أمضي سريعا أيها الليل فوق أمواج الغرب
واخرج من الكهف الملبد بالغيوم في الشرق
فعندما يخبو نور النهار الطويل
تنسج أحلام الفرحة والجلال
التي تجعلك رهيبا عزيزا

****

جب أيها الليل فوق المدائن والبحر والبر
تلمس كل شيء بعصاك السحرية
فإنه تواق يبحث عنك
فعندما نهضت من نومي رأيت الفجر يتنفس
فأرسلت زفرة من أجلك أيها الليل
وعندما انتشر الضوء في الفضاء والتمعت الأنداء
انسكب النور على الزهور والشجر
ثم رقد النهار متعبا مكدودا يستريح
يترنح كضيف ثقيل الظل
فأرسلت زفرة من أجلك أيها النهار

******
الموت يحجم عندما ينقشع النهار سريعا سريعا
والنوم يحل عندما يولي الأدبار
فممن ألتمس الصنيع وأرجو الجميل؟
أسألك أيها الليل الحبيب
أن تدنو سريعا .....سريعا

أما لورد بيرون فإنه استمد أوصاف حبيبته من الليل فقال في قصيدته

" تسير في الجمال " :

إنها تسير في جمال كأنها الليل المميز
يخطر دون سحائب ، لماع النجوم
وكل شيء أبيض ناصع وأسود دامس
يجتمع في أهداب عيونها السوداء
كأنما تنتمي إلى النور الناعم الوديع
الذي تضن به السماء على الأيام الحالكة
وعندما تبدو في الظلال ينبثق منها شعاع
ذو جما تعجز عنه الأسماء
يتحرك في الفضاء في وجه الأطيار
أو ينعكس في فتنة محياها
حيث تتراءى في الأفكار عذبة معبرة
فما أجمل حيث تكون هاتيك الأفكار...!

وامتزج الليل عند الشاعر طاغور بنزعة التصوف الخالصة فتراه عندما يتعرض للحديث عن الليل يدرك
رهبته وجلاله ،ويتطلع خالقه كأنه طفل صغير تائه في عالم عظيم محفوف بالأسرار والأستار ،فإذا هو يتلاشى
في هذا الوجود كما تتلاشى القطرة من الماء في البحر الخضم .. ومن شعره قوله:

أيها الشاعر إن الليل قد أرخى سدوله ورأسك قد اشتعل شيبا ، أفما رن في أذنك صوت يأتي إليك يقتحم
عزلتك من الغيب السحيق ؟ بل لقد هبط الليل واني لأرهف السمع لعلي أسمع صوتا ينحدر إليَّ من القرية
في هذه الساعة المتأخرة ، وإني أتلهف لعلي أرى قلوب الشباب تتلاقى ، أو أسمع الموسيقى تصدح لتقطع
وحشة هذا الصمت الرهيب وتعبر عن عواطف المحبين المكبوتة ، فمن ذا يكون هناك لينشد بأعذب الألحان
إذا ما جلست أنا على ضفة الحياة أفكر في الموت وما بعد الموت ....

وهكذا كان الليل ولم يزل وحيا لشعراء العرب كما كان وحيا لشعراء الغرب والشرق

محمدالقاضي
16 -06- 2008, 08:39 AM
..... ومازال الليل _والنهار _ يلهمان أقلام الشعراء والكتّاب ..!!


ماكُتب أعلاه أكبر من أن أرد عليه بإسهابٍ وأُفسد جماله ..!!

لذا ..لك الشكر وكلّ المُنى أيتها القديرة مون لايت ..!!!


دمتِ ..!!

همس الروح
16 -06- 2008, 04:37 PM
الزميل العزيز محمد القاضي

ويبقي لليل سحره ونغم نبضه

وتحتار الاقلام بوصفه

الليل يا ليلي يعذبني



اشكرك للمرور الكريم

ودي وتقديري

مون لايت

موسى ابراهيم
16 -06- 2008, 04:41 PM
الأخت العزيزه مون لايت

معلومات قيّمه،

ومقارنةٌ موضوعيّه أعجبنتي ها هنا،

تقديري

مون لايت...

همس الروح
17 -06- 2008, 02:13 PM
الاخ موسي ابراهيم

اشكرك للمرور الكريم

اسعدني انها نالت بعضا من ذائقتك

ودي وتقديري

مون لايت