المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : همسة في أذن كل هارب من الحّر قل نار جهنم أشد حراً



عبدربه
07 -08- 2008, 04:47 PM
منقول من مقال: فضيلة الشيخ عادل بن سالم الكلباني

يبحث الناس عن الظلال، والمياه والأمطار، فينفقون أموالا طائلة في سفرهم بحثا عن الهواء العليل، والمنظر الجميل، يسعدون برؤية الأنهار تجري، ومناظر الشلالات، والضباب الذي يغري. فيقطعون الفيافي، ويعانون المشقات، ويبذلون النفقات، مغادرين عبر كل فج عميق، لينالوا قسطا من الراحة، وأياما من الاستجمام.
فيا عجبا كيف يشقى الإنسان ليرتاح! وكيف يبذل ماله، ويغادر أهله، ويترك وطنه، طلبا للراحة، وطلباً للسعادة والذكريات.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في الصحيح أن السفر قطعة من العذاب، أخرجه الشيخان. فيعذب المرء نفسه، في السفر، والبعد عن الموطن، والأهل، بحثا عن راحته، وسعيا لينال سعادته.
ولست أريد منعهم من السفر، ولا حثهم على البقاء في بلادهم، وديارهم، ولكن لننظر ما السبب في ذلك. وما هو الدافع لما ينفق، وما يعانى. أليس هو الحر. الحر الذي يلهب أجساد الناس، وينغص عليهم حياتهم، فيستعدون له قبل مدة، ويستدين بعضهم أموالا، تكون أحيانا ربوية، من أجل ألا يبقى في الحر!!
هذا الحر لا ريب أن كل عاقل منه يتقي، ويطلب في حال وجوده الفيء والظلال، وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور. ولهذا فإني مذكر لكم بأسباب تكون لكم سرابيل تقيكم الحر، وتوردكم الظل، وتنشر لكم فيئا ممدودا من السعادة والهناء.
هي أسباب يغفل عنها كثير من الناس، ويذكرنا بها لهيب الحر، واشتداد القيظ ، وتوهج الشمس ولفحها. وإني أهمس في أذن كل مسلم، يتصبب عرقه كلما خرج من بيته، أو ركب سيارته، أو أطفأ مكيفه، فأقول له قل نار جهنم أشد حرا.
وإن يوما كان مقداره خمسين ألف سنة، تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل، حتى يلجم العرق بعضهم إلجاما، ويبلغ من بعضهم التراقي، لحري أن يبحث المرء فيه عن الظلال، ويتعب نفسه ليريحها بوارف الظلال، فالجهد هنا راحة هناك، وكما سافرت أو عزمت على السفر لترتاح، فقد لا تصل، وإن وصلت وارتحت وهنئت وبلغت منك السعادة كل مبلغ فلا يعدو كونها سعادة وقتية، تنتهي بحزمك حقائبك للعودة، ويبدأ معها التأفف والضجر، ويذهب ما أنفقت عليك حسرة وندامة، ويغدو الأمر مجرد ذكرى، مرت، وقد لا تعود أبدا.
فاستمع إلى حبيبك، ومن كان عليك مشفقا، وكان بك رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، وهو يخبرك عن ظل ظليل، لا تشعر به بوهج حر، وحوض تشرب منه لا تظمأ بعده أبدا، يقول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزَّ وجلَّ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". واللفظ عند مالك في الموطأ، وهو مخرج في الصحيحين. قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال، وأعمها، وأصحها إن شاء الله. وحسبك به فضلا لأن العلم المحيط بأن من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف.
تصدق، وليكن قلبك عامراً بحب المسلمين، الصالحين، والعباد والزاهدين، واذكر الله في خلوتك، ولتجر على خدك من خشيته دمعتك، وعلق قلبك في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهذه أربعة من سبعة، لمن تعدى سن النشأة والشباب، وأما من كان في ريعان شبابه فليقبل على الله تعالى، فتزداد فرص الظلال عنده إلى خمس من سبع، ليستظل ظلا لا نصب فيه، ولا وهج، في اليوم الشديد حره، الطويلة مدته. وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم بظله:
محب، عفيف، ناشيء، متصدق
وباك، مصل، والإمام بعدله
وإذا قرأت إعلاناً عن مشروب يبرد عليك ظمأك، ويذهب عنك عطشك فإني دال لك على ما هو خير من كل مشروب، عليك بالصوم، فما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا. أخرجاه. وعند النسائي والترمذي وابن ماجه: من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً. ولا تنس وأنت تعاني شدة الظمأ وأنت صائم في الحر ما وصف الله به أهل النار أعاذني الله وإياكم منها، يقول سبحانه: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ َ } [الزمر: 24] ، ويقول جلَّ وعلا: { وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، فباعد وجهك عن حرها، وسمومها بظمأ يوم أو ما شئت من أيام، تنل راحة، وظلاً ظليلاً.
إن حر الدنيا مقدور أن يتخلص منه المرء بما تيسر له من مبردات، ولكن حر الآخرة ليس له إلا مبرد واحد، هو طاعة الله تعالى، وفي حديث السبعة آنف الذكر: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، ولكن في حديث آخر في فضل الصدقة، ما أخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث يزيد بن أبي حبيب قال: كان مرثد بن عبدالله البيزني أولَ أهلِ مصرَ يروح إلى المسجد، وما رأيته داخلا المسجد قط إلا وفي كمه صدقة، إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح، قال: حتى ربما رأيت البصل يحمله، قال: فأقول: يا أبا الخير إن هذا ينتن ثيابك، قال فيقول: يابن أبي حبيب، أما إني لم أجد في البيت شيئا أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ظل المؤمن يوم القيامة صدقته.
وعند الطبراني بإسناده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته. وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: اتقوا النار ولو بشق تمرة.
إن السر في تخصيص هؤلاء السبعة بظل الرحمن ذكرا، مع تفاوتهم في الصفات، فهذا ملك، وذاك شاب، وهذا رجل دعته امرأة، وذاك رجل تصدق كما سمعتم، إن الرابط بين هؤلاء السبعة، وهو السر في استظلالهم يوم العرض على الله بظل عرش الله، ومن فاز بذلك الظل فلا ريب أنه من أهل الظل الممدود، والماء المسكوب، الذين وقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك، لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، ودانية عليهم ظلالها. إن القاسم المشترك في هؤلاء السبعة هو الخوف من الله، ومراقبته في السر، وهم قد خلوا، وتمكنوا، ونالوا، فآثروا رضا الله، وألجموا النفس عن هواها، ولم يعطوها مبتغاها، فهذا الملك العادل، لولا مخافة الله ومراقبته لما كان له وقاية من ظلم العباد، ونهب خيرات البلاد، لكنه لما علم أنه وإن ملك فهو مملوك لخالقه، مرده إليه خاف الله فيهم، واتقاه، وعمل بما يرضيه فعدل بينهم، ونظر في مصالحهم، وهو يعلم أن الله وحده هو الذي يجازيه على هذا العدل، والمطلع على السريرة، الذي يعلم المفسد من المصلح.
وهذا هو السر في الشاب الذي نشأ في طاعة الله مع ما يدعوه من ريعان شبابه، وقوته ونشاطه لمخالفة ذلك والانعتاق من أوامر الله، وشرعه، وطول الأمل عند أمثاله، والرغبة الجامحة في نفسه للهو واللعب.
وذلك الرجل إنما تعلق قلبه بالمسجد لله وحده، فليس في المسجد دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو جاه يناله، أو مال يغدق عليه، وما تعلق قلبه بالمسجد إلا ليذكر الله وحده، ويتحقق فيه وصف الله في أولئك الرجال: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]. فلما تعلقت نفسه بربه وصلاته كافأه الله بالظل يوم لا ظل إلا ظله.
لما كانت الروابط بين الناس دنيوية، ومصالح ومنافع بينهم، ترابط الرجلان بالله، لم يجمعهم رحم، ولا نسب، ولكن تحابا في الله، إذا اجتمعا فلله، وإذا افترقا فلله، فاستحقا منابر من نور يغبطهما عليها النبيون يوم القيامة، وكان ظل العرش مناسباً لتلك المنابر يجلسون عليها والناس موقوفون. فيا لله ألا يكفي ذلك في فضل الحب في الله.
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" أخرجه البخاري.
ومن حديث أنس رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة. قال وما أعددت لها. قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله قال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم" رواه البخاري ومسلم.
ومن حديث عائشة رضي الله عنها "ولا يتولى الله عبدا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم" رواه أحمد. فما كان للحب في الله ذلك الأثر، وذاق المرء المحب في الله طعم الإيمان، كان من جزائه أن يستظل بظل عرش الرحمن، {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
لقد تغلب هذا المتصدق على شح نفسه، { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وتغلب على ما جبل المرء عليه من حبه للثناء، وفرحه بالإطراء، وممن تسعر بهم النار يوم القيامة رجل يكثر من الصدقة، فلما وقف بين يدي الله تعالى وعرفه نعمه، وعرفها قال له: ما عمل فيما آتيتك. قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق. فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة كذبت. ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك. فلما صفى قلب ذلك المتصدق لله وحده كافأه بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، والجزاء من جنس العمل.
وهذا ما أسال دموع ذلك الباكي خشية لله، ورغبة فيما عنده، أبكاه خوفه، وخشيته، أبكاه ماضيه، وأنه لا يدري بم سيختم له، ويوم يعرض على ربه فيه، فيخاف ألا يغفر له، وأن يدخله النار فيخزيه. وهذا الخوف من الجليل هو الذي قلع قلب الرجل من جوفه حين دعته المرأة، لها حسب، ومنصب، وذات جمال، قالت له هيت لك قال معاذ الله، إني أخاف الله، إنه لا يفلح الظالمون. فتقوى الله ومراقبته كانت عصمة لهم في دنياهم وظلا لهم في أخراهم، فليستظل من أراد الظل في أحد هذه الأفياء فظلها ممدود، ليس له حدود، لا يتبعه نصب، ولا يشوبه يحموم، بل تتبعه جنة عالية، أكلها دائم وظلها، تلك عقب الذين اتقوا، في ظلال على الآرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم.
وإن شدة الحر من فيح جهنم، كما ثبت ذلك عن الحبيب صلى الله عليه سلم، وثبت عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير" متفق عليه. وقد استشكل بعض المعاصرين هذا الحديث، ورده، ظنا منه أنه متعارض مع ما أثبته الواقع العلمي المحسوس في عصرنا، فإنه في الوقت الذي يكون شتاء في شمال الأرض يكون صيفا في جنوبها، والعكس. وهي آفة استشرت عند بعض العلماء، والدعاة المعاصرين، وهو رد أحاديث الحبيب صلى الله عليه وسلم الثابتة سندا ومتنا، لسوء فهمهم، وقوة جرأتهم، هداهم الله.
ولو تأمل أخونا هذا متن الحديث لما رده، فالمنطق واحد، والمخبر واحد، ومن أرسله عليم خبير، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فهو الذي أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم منا بالأرض وما عليها، هذا أولا. أما من ناحية أخرى فالحديث يثبت أن النار عياذا بالله منها تجمع متناقضين، شدة الحر وشدة الزمهرير، ومن منّة الله تعالى على أهل الجنة ما بينه في سورة الدهر من نعيمهم فيها أنهم لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، فبقي الحديث على بابه، فنفسها عندنا في وقتنا هذا نفس حار، أشد ما نجد من الحر، وعند جنوب الأرض نفس بارد أشد ما يجدون من الزمهرير، والعكس بالعكس، وصدق الله تعالى حين وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (5) [النجم: 5].
فليتق الله كل مسلم، وليكن تعامله مع الثابت من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن كان قال فقد صدق. وليلزم غرزه، ولا يحكم عقله في شرع الله ولا أخباره. وليتفكر في فيحها وهي أبعد ما تكون منا، وكيف أن حرها لا يطاق، ولا يحتمل، فكيف بأهلها الذين هم أهلها وساكنوها، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها.
كيف بنا إذا جيء يومئذ بجهنم، تكاد تميز من الغيظ، فخذ من حر الدنيا عظة، ونموذجا من حر الآخرة، وليكن سعيك في الفرار منها حثيثا، فإن المستريح حقاً، والسعيد حقا من أنجاه الله منها، ولو لم يفز بجنة ولا بنعيم، فكيف إذا كانت النجاة منها تعني النعيم المقيم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].