المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحداثة في ميزان الإسلام- د. عوض بن محمد القرني



قلب الوفا
07 -09- 2009, 07:21 PM
الحــداثــة في ميــزان الإســلام











تأليـف :



د. عوض بن محمـد القرني









تقـديـم :



سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى


0


ارجوا الاطلاع ع الملف المرفق


حرصا مننا على تقديم الافضل في مجال النصوص الادبيه وحتى لاتختلط عليناالمفاهيم


-


شكرااا





http://www.shaman1.com/up/extension/zip.gif (http://www.shaman1.com/up/uploads/files/shaman-6226a61240.zip)









(http://www.shaman1.com/up/uploads/files/shaman-6226a61240.zip)

الأثري
07 -09- 2009, 07:48 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

ماجد الحدادي
07 -09- 2009, 08:27 PM
الأخت قلب الوفاء

المرجوا إعادة رفع الملف المضغوط


شكرا لكي وبالانتظار

نحن
07 -09- 2009, 08:40 PM
موضوع مهم يحتاجه الجميع الرجاء محاولة إعادة الرابط

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:47 PM
شكرااا لتواجدكم وانتظروني سافرغ الملف لكم هنا ماادري ليه الرابط مايفتح مع انو عندي شغاال !!

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:47 PM
الحــداثــة في ميــزان الإسـ



تأليـف :



د. عوض بن محمـد القرني



تقـديـم :



سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى





تقريظ لكتاب الحداثة في ميـزان الإسلام

الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد .
فإن سلاح الكلمة والبيان من الأسلحة الماضية التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لمنازلة أعداء الإسلام بـها جنباً إلى جنـب مع سلاح السيف والسّـنان, وقد اصطفى صلى الله عليه وسلم بعض شعراء الصحابة، ودعا لـهم، وشحذ قرائحهم، وأذكى عزائمهم بما كان يستحثهـم به من العبارات المؤثرة التي كانت تؤجج فيهم الحماس وتبعث فيهم النخوة والحمية لدين الله . فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه: (اهـجـهم وروح القدس معك) وقوله لحسان أيضاً : (اهـجهم والذي نفسي بيده إنه لأشد عليهم من وقع النبل) . وهذا العمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل قوي على ما للشعر من أثر عظيم في تحريك النفوس واستـنهاض الهمم ورص الصفوف والتخذيل على المسلمين والذب عن الإسلام وحرماته. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إنّ من الشعر لحكمة) . وهكذا كان الشعر ولا يزال، وهو سجية طبع عليها العرب، لن يدعوه حتى تدع الإبل الحنين.

وقد مر الشعر خلال عمره الطويل ببعض محاولات التجديد والتغيير، وهي محاولات يسيرة لم تمس جوهره وسرّ قوته وتأثيره وجرسه وهو الوزن والقافية. وشهد عصرنا هذا محاولات أكثر للتغيير باسم التطوير والتحديث والتجديد فظهر ما يسمى بالشعر الحر المنفلت من القافية، ثم بالغ القوم في التغيير فانفلتوا من الوزن والقافية في إطار ما يسمى بقصيدة النثر التي عُـرف أصحابها بأهل الحداثة.
وكنا إلى حين اطلاعنا على هذا الكتاب القيم الذي قام بتأليفه فضيلة الشيخ عوض بن محمد القرني، والذي نقدم له بهذه النبذة المختصرة ـ بسبب عدم الاطلاع ـ نظن أن قصيدة النثر المتسمة بالغموض الملقب بالحداثة المحاط بـهذه الهالة الإعلامية، نظن ذلك كله أنماط من التغيير في الشكل، ولا علاقة له بمضمون الشعر، ولا بمعانيه ولا بـمحتواه الفكري، لكن الكتاب كشف لنا أن الشكل لم يكن في ذاته هو هدف هذا التغيير وإنما جعل الشكل الجديد الملفوف بالغموض ستاراً لقوالب فكرية شحنت في كثير من نماذجها بالمعاني الهزيلة، والأفكار الهابطة والسهام المسمومة الموجهة للقضاء على الفضيلة والخلق والدين، وقد حوى الكتاب نماذج لا يختلف اثنان في تفسيرها وفهم مضمونها وإدراك مراميها وأهدافها السيئة، وتأكد أن استهداف الغموض من كثير من هؤلاء الشعراء في هذه القوالب الفكرية المسماة شعراً وليس فيها من الشعر شيء إنما هو أمر مقصود ليحققوا به أهدافا ثلاثة :
الأول : التـنصل من مسئولية الكلمة، وتبعتها، حينما تُـلف بـهذا الغموض الذي قد لا يدرك معناه بسهولة .
الثاني : إماتة الشعر وسلب روحه وتأثيره وحرمان المسلمين من سلاح ماضٍ من أفتك أسلحتهم ضد أعدائـهم .
والثالث : وهو أخطرها، محاولة نبذ الشريعة والقيم والمعتقدات والقضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجديد وتجاوز جميع ما هو قديم وقطع صلتها به.

أخيراً أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة بهذا الكتاب الذي يقدمه مؤلفه فضيلة الشيخ عوض للقراء، فقد كشف لنا القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه باسم الحداثة، وهو بهذا الكشف والبيان يلقي مسئولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر, وإيقاظ الهمم، وتنبيه الغافل عنه، ونصح وتوجيه الواقع فيه، جزى الله الشيخ عوض خيراً على ما قدم وأوضح وبين وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم يلقاه، وبارك الله في جهوده وأعماله، وجعلنا وإياه وسائر المسلمين من المتعاونين على البر والتقوى ، كما نسأله أن يحمي بلادنا وجميع بلاد المسلمين بالإسلام وأن يدفع عنها كيد الكائدين وحقد الحاقدين في الداخل والخارج ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيلهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين .

عبد العزيز بن عبد الله بن باز



بـيـن يدي الـموضـوع


إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ................ وبعـد

فإن الله شرف هـذه الأمة حين بعث فيها نبيه، وأنزل كتابه، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، متبعة لا مبتدعة، في جادة واضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكلما أجلب الشيطان بخيله ورجله لحرب هذا الدين وتفنن في المكر لعباد الله المؤمنين وسلط عليهم جنده، سواء كانوا من الأعداء الظاهرين أو من أبناء المسلمين المخدوعين، فإن أهل الحق يفيئون إلى كتاب وسنـة، ويتوكلون على الله وهو خير الحاكمين، وإننا نؤمن بأن موجات التشكيك والتشويه والتحريف لـهذا الدين ستنتهي إلى العدم، وسيبقى دين الله كما هو بعيداً عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين {إنا نحنُ نزّلنا الذّكـر وإنا لهُ لـَحـافظُـون} .
وكان مما كرم الله به هذه البلاد، أن كانت منطلق الرسالة ومهبط الوحي ومهوى الأفئدة، لوجود الحرمين فيها، ثم كان منها منطلق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, فقامت فيها دولة تعلن أن الإسلام منهاجها، وعقيدته شعارها، وقرآنه دستورها، في زمن أعرض فيه العالم عن الدين لهيمنة الحضارة الغربية المادية.

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:48 PM
فأضيف للشرف الطارف شرف تليد، وأصبح لهذه البلاد خصوصية تتميز بها على العالمين، وهذه الخصوصية هي في نظر كل مؤمن سبب سعادتـنا وعزنا في الدنيا، ونجاتنا في الآخرة، والحفاظ عليها والتمسك بها أول واجباتنا وآكدها، لن نفرط فيها أبداً، ما دمنا نقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذه الخصوصية تستدعي منا أن لا نقبل بفكر يناقض ديننا ويحاربه ويسعى لإبعاده عن التأثير في الحياة، بل نسكته في مهده قبل أن يستشري خطره ويتـفاقم بلاؤه، ونبين بالحجج والبراهين خطأ ذلك الفكر وضلاله، حتى نكون أوفياء لديننا وتاريخنا وأمتـنا، وقبل ذلك وبعده مطيعين لربنا سبحانه وتعالى .
ومن هذه الأفكار التي ابتـليت بها الأمة وبدأ خطرها يظهر في ساحتنا مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانه وسدنة أصنامه اسم (الحداثة) وأنا لن أستبق الأحداث، وأحاول أن أعرف بالحداثة، فما هذا الكتيب إلا تعريف بها في الجملة، وبيان لحكم الإسلام فيها، والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع أمور كثيرة من أهمها:

1- أن الله أخذ العهد على أهل العلم أن يبينوا الحق للناس ولذلك لا يمكن أن يطالب المسلم بالحيادية ودينه يحارَب، وقيمه تدمر، وعقيدته تنتقص، بل إن الولاء والبراء من أظهر فرائض الإسلام، في سبيله تلغى جميع الروابط الأرضية الأخرى، ويصبح الساكت عن البيان في هذه الحالة شيطاناً أخرس، وخاصة حين نعلم أن الله ربط بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الإيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عمن فرط في هذا الفريضة، وعلى الأخص حين يصبح المنكر ظاهرا، ينشر في الصحف، ويلقى في المنتديات، لم يعد أهله يستترون به، فإن الأمة ما لم ينبرِ منها من يرد المنكر ويقيم المعروف، يوشك أن يعمها الله بعقاب من عنده، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .

2- ولأن كثيراً ممن كان المفترض فيهم من العلماء الأفاضل والمفكرين النابهين، أن يكونوا أول المتصدين لهذه الموجة الفكرية العارمة، وقفوا منها موقف المتفرج غير المبالي، أو ردوا عليها في مقالات محدودة في بعض الصحف، ثم نسي الأمر، وأنا أستثني هنا الكاتب الفاضل محمد عبد الله مليباري، وسهيلة زين العابدين، ومحمد المفرجي، فجزاهم الله خيرا، لجهدهم وجهادهم، وإنني حين تقدمت للمساهمة في هذا الموضوع لا أدعي أنني أول من يتصدى له، لكنني أرجو أن أكون بعملي هذا أيقظت الهمم ونبهت الغافلين، ممن هم أولى مني بـهذا.

3- لأن كثيراً من العلماء والأدباء الغيورين يظنون أن الخلاف مع الحداثة خلاف بين جديد الأدب وقديمه، وأن المسألة لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهذا ما يحاول الحداثيون أيضاً أن يرفعوه في وجه كل متصد لهم، لكنني أؤكد أن الصراع مع الحداثة ـ أولاً وأخيراً ـ صراع عقائدي بحت، إذ إنني لا أنطلق في كتابي هذا في الحوار مع الحداثة منطلقاً أدبياً يتحدث فيه المتحاورون عن عمود الشعر ووزنه وقافيته وأسلوب القصة. إننا نختـلف معهم في المنطلقات الفكرية العقائدية، ونعترض عليهم في مضامينهم ومعانيهم التي يدعون إليها، وينافحون عنها، وعن هذه فقط سيكون حديثنا، إن كل من يصدّق أن الحداثة مدرسة أدبية في الكتابة والشعر والقصة واهم أو جاهل بواقع الحال، أطالبه بأن يقرأ هذا الكتاب، ثم يحتكم إلى كتاب ربه وما عليه إيمانه فقط.

4- ولأن الحداثيين سيطروا على كثير من الأقسام الثقافية في الصحافة المحلية وتغلغلوا في غيرها من النوادي الأدبية والأندية الرياضية وفروع جمعيات الثقافة والفنون، واتخذوا حيال أي فكر غير فكرهم سياسة قمعية دنيئة كما يقول أحد التائبين منهم، كما سترى في الكتاب، فكان لا بد من الرد عليهم بواسطة النشر في الكتب، بعد أن سدوا جميع المنافذ أمام غيرهم، وكان نصيب أي مقالة رد عليهم أو حتى عتاب لهـم هو سلة المهملات .

5- ولعل هذا البيان والإيضاح يكون فيه موعظة لمن خدع بالحداثة من أبنائنا, فينيب إلى ربه ويعود إلى أصالته ويستغفر من ذنبه، والله غفور رحيم، بل إني أوجه الدعوة إلى من حمل لواء الحداثة عن قناعة أن يراجع حساباته ويتذكر يوم اليقين, يوم الرحيل عن هذه الحياة وبماذا سيواجه ربه, وليعلم أن التاريخ لا يرحم أحداً، وأنه لا يفرق بين أهل العمالة الفكرية والعمالة الأمنية أو السياسية، بل قد تكون الأولى هي الأخطر.

وإنني أخيراً أحب أن أنبه على أمرين :

الأول منهما: أننا تعودنا من الحداثيين أن يرفعوا عقيرتهم بالصياح عندما نريد أن نحاكمهم إلى دين الله ويقولون ما علاقة هذا بالأدب والفكر، بل يقولون إن التستر وراء الدين والالتجاء له في الخصومة الفكرية علامة الضعف والهزيمة، بل وصل الأمر بهم أن يدافع أحدهم عن أحد الشيوعيين الذين نالوا من الله بألفاظ فجة قبيحة ـ كما سترى عند الحديث عن البياتي ـ واعتبر أن الدفاع عن الدين علامة على فقد التقوى، ومع ذلك فإننا نؤكد مرة أخرى أننا سنحاسبهم إلى الدين وإلى الدين فقط، فهو مرجعنا وميزاننا ومعيارنا، فإن كان لهم من اعتراض فليثبتوا لنا أن ما نناقشهم به لا يستقيم إسلامياً، ونحن مستعدون للتراجع عند ذلك عن كل ما نقول هنا، أما غير ذلك فإننا لن نأبه بنقيق الضفادع ولا نعيق البوم والغربان {والله غالب على أمرِه ولكنّ أكثَر النّاسِ لا يعلَمُونَ} .

ثانيهما : إنني أناقش بالدرجة الأولى الحداثة المحلية، ولا أذكر شيئاً من خارج هذه البلاد إلا بما يحقق منه الهدف ويؤدي إلى بيانه وإيضاحه، وإنني حين أحكم على القضايا فذلك بعد استقراء كلي بعيداً عن الأحكام الجزئية .

وفي الختام فإنني ـ وحتى لا أطيل على القارئ ـ اكتفيت بأمثلة تشير إلى المقصود، واستبقيت عندي الكثير، فإن رأيت له حاجةً بعد ذلك فلن نبخل به بإذن الله ، وإن رأيت أن هذا كفى وأدى الغرض فلن أثقل على غيري به، وما كان من صواب فبتوفيق الله ، وما كان من خطأ فمن الشيطان والهوى وأستغفر الله منه والله الـمستعان.


د. عوض القرني













الـجذور التاريـخيــة للحـداثـــة

إن الحداثة ـ في أصلها ونشأتها ـ مذهب فكري غربي، ولد ونشأ في الغرب، ثم انتقل منه إلى بلاد المسلمين، وحتى يكون القارئ على بيـنة من الظروف التاريخية التي نشأت الحداثة فيها في الغرب قبل انتـقالها إلينا، وحتى نعرف من هم رموز نشأتها من الغربيين قبل معرفة من هم ببغاواتها لدى المسلمين، نضع هذا البحث.
ولا شك أن الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم إلا من كان على شاكلتهم من كل ملحد أو فاسق أو ماجن مثل : الحلاج، وابن عربي، وبشار، وأبي نواس، وابن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج، لكن الواقع أن كل ما يقوله الحداثيون هنا، ليس إلا تكراراً لما قاله حداثيو أوربا وأمريكا، ورغم صياحهم وجعجعتهم بالإبداع والتجاوز للسائد والنمطي ـ كما يسمونه ـ إلا أنه لا يطبق إلا على الإسلام وتراثه، أمّـا وثنية اليونان وأساطير الرومان وأفكار ملاحدة الغرب، حتى قبل مئات السنين، فهي قمة الحداثة وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الحداثة في الغرب مثل: أليوت، وباوند، وريلكة ولوركا، ونيرودا، وبارت، وماركيز، وغيرهم إلى آخر القائمة الخبيثة التي اضطرنا حداثيونا إلى قراءة سير أهلها الفاسدة، وإنتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر.

لقد نمت الحداثة كما قلنا في البيئة الغربية، وكانت إحدى مراحل تطور الفكر الغربي، ثم نقلت إلى بلاد العرب صورة طبق الأصل لما حصل في الغرب، ولم يبق منها عربي إلا الحروف العربية، أما الكلمات والتراكيب والنحو فقد فجرها الحداثيون كما يدعون وفرغوها من مضمونها.
يقول غالي شكري الشيوعي المصري وأحد منظري ورموز الحداثة العربية في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين" صفحة 116 : "إن المفاضلة بين الشعر التقليدي والشعر الحديث، تصبح غير ذات موضوع ، لأنهما لا يملكان في حقيقة الأمر من عناصر الأرض المشتركة سوى اللغة، كما أن محاولة تبرير الشعر الحديث بميراثنا التاريخي، من حركات التجديد في الشعر العربي، هي محاولة غير مجدية ، بل أصبحت ضارة إلى حد ما، فالنقد الحديث الذي يود أن يرافق شعراءنا الجدد، عليه أن يلتفت إلى جوهر القصيدة الغربية الحداثية إذا أراد أن يكتشف جوهر القصيدة العربية الحديثة" .
ونقل صالح جواد في مجلة فصول المجلد الرابع ، العدد الرابع ، صفحة 17 ، عن جبرا إبراهيم جبرا من كتابه "الرحلة الثامنة" قوله : "حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوروبا، أو قل في العالم كله أكثر من أي شيء آخر بغير مواربة ، ………… ومن العبث أن نستشهد بالقدامى، ونستـند في أحكامنا إلى سوابق لن تجدها في كتب الأدب التي وضعت قبل بضعة قرون على الأقل" .
وتتوالى الاعترافات من منظري الحداثة، فهذا محمد برادة يكتب مقالا في مجلة فصول، المجلد الرابع، العدد 3 صفحة 11 بعنوان "اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة" يؤكد فيه بأن الحداثة مفهوم مرتبط أساسا بالحضارة الغربية وبسياقاتها التاريخية وما أفرزته تجاربها في مجالات مختلفة، ويصل في النهاية إلى أن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين.

والواقع أعظم شاهد على أن الحداثة العربية ابن غير شرعي للمفكرين الغربيين، منذ بودلير, وإدجار ألن بو، حتى يومنا هذا ويكفيك للتأكد من ذلك أن تتصفح أي منشور حداثي : شعر أو رواية أو مسرحية أو قصة أو دراسة نقدية، لتجدها تصرخ بقوة وتعلن أنها من نبات مزابل الحي اللاتيني في باريس، أو أزقة سوهو في لندن ، عليها شعار الشاذين من أدباء الغرب الذين لا يكتبون أفكارهم إلا في أحضان المومسات أو أمام تمثال ماركس .
يقول غالي شكري : "وعندما أقول الشعراء الجدد، وأذكر مفهوم الحداثة عندهم …. أتمثل كبار شعراء الحركة الحديثة من أمثال : أدونيس، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي …. عند هؤلاء سوف نعثر على إليوت، وإزرا باوند، وربما على رواسب من رامبو، وفاليري، وربما على ملامح من أحدث شعراء العصر في أوربا وأمريكا ، ولكنا لن نعثر على التراث العربي" .
وما دام أن الأمر كذلك، وأن الحداثة العربية فرع لأصل هو الحداثة الغربية، فإننا نحتاج قبل معرفة تاريخ الحداثة العربية أن نلم بإيجاز بتاريخ الحداثة الغربية.

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:49 PM
لمحة موجزة عن تاريخ الحداثة في الغرب

على الرغم من الاختلاف بين الكثير ممن أرخوا للحداثة الأوربية حول بدايتها الحقيقية وعلى يد من كانت, فإن الغالبية منهم يتـفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي بودلير، وهذا لا يعني أن الحداثة قد ظهرت من فراغ ، فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتـها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازاً طبيعياً من إفرازات الفكر الغربي، والمدنية الغربية التي قطعت صلتها بالدين على ما كان في تلك الصلة من انحراف، وذلك منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين انفصلت المجتمعات الأوربية عن الكنيسة، وثارت على سلطتها الروحية التي كانت بالفعل كابوساً مقيتاً محارباً لكل دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان، وحينها انطلق المجتمع هناك من عقاله بدون ضابط أو مرجعية دينية، وبدأ يحاول أن يبني ثقافته من منطلق علماني بحت فظهرت كثير من الفلسفات والنظريات في شتى مناحي الحياة. وطبيعي ما دام لا قاعدة لهم ينطلقون منها لتصور الكون والحياة والإنسان، ولا ثابت لديهم يكون محوراً لتقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، أن يظهر لديهم كثير من التناقض والتضاد، وأن يهدموا اليوم ما بنوه بالأمس ولا جامع بين هذه الأفكار إلا أنها مادية ملحدة، ترفض أن ترجع لسلطان الكنيسة الذي تحررت من نيره قبل ذلك .

فكان من أول المذاهب الأدبية الفكرية ظهوراً في الغرب: "الكلاسيكية" الذي كان امتداداً لنظرية المحاكاة التي أطلقها أرسطو الأب الروحي للحضارة الغربية، وكما قال إحسان عباس في كتابه "فن الشعر" صفحة 40: "فإن الكلاسيكية تؤمن أن الإنسان محدود في طاقته، وأن التقاليد يمكن أن تكون ذات جوانب حسنة جميلة، فهي تميل دائماً إلى التحفظ واللياقة ومراعاة المقام والخيال الكلاسيكي خيال مركزي، مجند في خدمة الواقع" .

ثم جاءت الرومانسية فكانت ثورة وتمرداً على الكلاسيكية، فقدست الذات والبدائية والسذاجة ورفضت الواقع، ادعت أن الشرائع والتقاليد والعادات هي التي أفسدت المجتمع، ويجب أن يجاهد في تحطيمها، ومع كل هذا الرفض والثورة وعدم وجود البديل لدى هذا المذهب، فشل الرومانسيون في تغيير الواقع، فأوغلوا في الخيال المجنح والتحليق نحو المجهول. يقول أحد رموزهم ويدعى (وايتمان) كما في كتاب (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة143: "لو سرت مع الله في الجنة وزعم أنه جوهريا أعظم مني، فإن ذلك ليؤذيني وسأنسحب بالتأكيد من الجنة". وقد كان من أساطين هذا المذهب في الغرب : بايرون، وشيلي، وكيتس، ووردزورث، وكولريدج، وشيلر . وأخذ هذا المذهب الأدبي الفكري في بلاد العرب: شعراء المهجر، ومدرسة الديوان، وجماعة أبولو، على اختلاف بينهم في مقدار التأثر به.

ثم كان هناك التطور إلى المذهب البرناسي، ثم المدرسة الواقعية التي تطورت إلى الرمزية التي كانت الخطوة الأخيرة قبل الحداثة. وكان من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في الجانب الأدبي على الأقل، الأمريكي إدغار ألن بو، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل: مالارميه، وفاليرى وموباسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان. وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية كما في (ثلاثة قرون من الأدب) ج1 صفحة 190 "ومما يبعث الأسى لموته، هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجماً من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال". وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق . وكان يعتبر عميد الرمزية والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة. وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس في فن الشعر صفحة 64، ويقول عبد الحميد جيدة في الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر صفحة 121: "لقد قام المذهب الرمزي الذي أراده بودلير على تغيير وظيفة اللغة الوضعية، بإيجاد علاقات لغوية جديدة، تشير إلى مواضيع لم تعهدها من قبل … ويطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي". وهذا هو بالضبط ما نقرأه ونسمعه من أدباء الحداثة المحليين عندنا اليوم، بعد ما يقارب مئة عام على ظهور رمية بودلير وعبثيته وذاتيته. أليس هذا غريباً مع دعواهم التجاوز للسائد والنمطي والاجترار من النماذج السابقة كما يسمونـها ؟؟!
ويقول محمد برادة في مجلة فصول المجلد الرابع العدد الثالث صفحة 13،14: "الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنته على حداثته، ليس فقط أن الشاعر بودلير يعاني موت الجمال ويبكيه .. إنه يعاني كذلك غياباً، لا غياب الله أو موته؛ بل أكثر من ذلك. الحداثة تغلف وتقنع غياب البراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي، والبراكسيسي الثوري الشامل، وإنها تكشف هذا الغياب، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي، هي ظل الثورة الممكنة".
ويقول غالي شكري في (شعرنا الحديث إلى أين) صفحة 16 "وقديماً كان بودلير نبيا للشعر الحديث حين تبلور إحساسه المفاجئ العليل، بحياة فردية لا تـنسجم مع المثل التي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه".

ولتعرف من هو نبي الحداثة هذا الذي يقدسونه وينعتونه بكل جميل، أذكر لك بعض ما ذكره عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة لديوانه (أزهار الشر): "لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجاً للضياع والشذوذ، ثم بعد نيل الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني حيث عاش عيشة فسوق وانحلال، وهناك أصيب بداء الزهري، عاش في شبابه عيشة تبذل وعلاقات شاذة مع مومسات باريس، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدرات والشراب". ويقول إبراهيم ناجي مترجم ديوان (أزهار الشر) لبودلير: "إن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به، وكان يعيش مصاباً بمرض انفصام الشخصية". ويكفي للدلالة على خسته أن فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد، منعت نشر بعض قصائده عند طُبع ديوانه في باريس سنة 1957 م . ويقول عنه كاتب أوروبي: "إن بودلير شيطان من طراز خاص"، ويقول عنه آخر: "إنك لا تشم في شعره الأدب والفن، وإنما تشم منها رائحة الأفيون". هذا هو بودلير أبو الحداثة الذي تسود صفحات صحفنا بالحديث عنه والاستشهاد بأقواله وأشعاره .
وكان من رواد الحداثة الغربيين بعد بودلير (رامبو)، وهو كما يقول عبد الحميد جيدة في صفحة 148: "دعا إلى هدم عقلاني لكل الحواس وأشكال الحب والعذاب والجنون، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث وعلى الماضي, ويقطع أية صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية …. وتميز شعره فنيا بغموضه، وتغييره لبنية التركيب والصياغة اللغوية عما وضعت له، وتميز أيضاً بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة".
وعلى آثاره كان (مالارميه) و (بول فاليري)، ووصلت الحداثة في الغرب شكلها النهائي على يدي الأمريكي اليهودي عزرا باوند، والإنجليزي توماس إليوت، وقد تأثرت بهم الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل : السياب، ونازك، والبياتي، وحاوي، وأدونيس وغيرهم تأثراً كبيراً، كما ذكر إحسان عباس في فن الشعر صفحة 72، وتعتبر قصيدة الأرض الخراب لإليوت هي معلقة الحداثيين العرب بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير، واللغة الركيكة العامية، إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر لأدب الحداثيين اليومي . ثم واصلت الحداثة رحلتها حين قادها مجموعة من الشيوعيين مثل : نيرودا، وأراجون، وناظم حكمت، ويفتشنكو؛ أو من الوجوديين مثل: سارتر, وعشيقته البغي: سيمون دى بوفوار، والبيركامو .

هذا هو بتعميم وإيجاز شديد تاريخ الحداثة الغربية، وقد حدد الحداثي الشيوعي العربي غالي شكري في كتابه (الشعر الحديث إلى أين) صفحة 9، الروافد التي غذت بذرة الحداثة الخبيثة فقال: "كانت هذه المجموعة من الكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي، لتفسر الحاضر وتتـنبأ بالمستقبل، فالمنهج الجدلي والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر أو النظام الرأسمالي، ثم يتـنبآن بالمجتمع الاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي. أما الدارونية فتتعرف على أصل الإنسان العضوي ثم تفسر كيانه الراهن وتتـنبأ بالسوبرمان. وهكذا الميثولوجية تتعرف على أصل التكوين العقائدي للبشرية، ثم تفسر القلق العقائدي المعاصر، وتتـنبأ بما سيكون عليه حال الإنسانية القادمة، ومعنى ذلك أن رؤيا القرن التاسع عشر هي في جوهرها رؤيا علمية عقلانية تاريخية تستهدف الإنارة الكاملة للإنسان".
وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى دارونية تقول : "بأن أصل الإنسان قرد"، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد، وأن الإنسان الأول ما لجأ إلى التدين إلا لجهله بالطبيعة وخوفه منها، حين لم يستطع أن يواجهها بالتفسير العلمي الصحيح ـ كما يقولون ـ .

ولتأكيد أخذ الحداثيين حتى عندنا بأفكار غالي شكري هذه، كتب علي الغامدي في عدد اليمامة 906 صفحة 62 تحت عنوان (الشعر الحديث كمصطلح) موضوعاً في صفحة ونصف، سأنقل منه بعض العبارات لنرى موقف أهل الحداثة من النظريات الغربية، والتي يحاول أساطينهم إدخالها إلينا تحت ستار حوار الحضارات، وإنكار دعوى الغزو الفكري . يقول الغامدي : "ومهما يقال إن تلك المصطلحات منقولة من الغرب، حيث كانت صدى لما كان عليه القرن التاسع عشر، إلا أن لها شمولها الإنساني وصياغتها العالمية التي تناسب كل لغة، ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال : الدارونية، والتي تعتبر كشفا لتطور بعض جوانب الكائن الإنساني، وكذلك العلوم الميثـلوجية تعد كشفا لأصول العقائد، وهذه المصطلحات في جملتها تفصح عن منهج جديد واضح ومحدد، يستـلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج، والعلة بالمعلول".
وعند ذلك لم يجدوا من يتـفق مع فكرهم في تاريخنا إلا الزنادقة والفساق وغلاة الصوفية من دعاة وحدة الوجود وشعراء الإلحاد ودعاة الفلسفة اليونانية، يتخذونهم معبّـرا يتم بتجاوزه بعد ذلك إلى الحداثيين الحقيقيين الغربيين الذين مجرد ادعاء وجود الحداثة قبلهم هراء، يعلم الحداثيون قبل غيرهم أنه مجرد تضليل وافتراء، وكان القاسم المشترك بين جميع هؤلاء التمرد والانحراف عن دين الله والرفض لشريعته، لأن الحداثيين يعلمون أنه لا يمكن لهم أن ينشروا فكرهم ما دام الدين في الساحة مرجعاً وموئلاً .

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:49 PM
يقول أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول) ج3 صفحة 9ـ11: "ومبدأ الحداثة هو الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام، وقد تأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي، حيث نرى تيارين للحداثة : الأول سياسي فكري، يتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم، بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج مروراً بالقرامطة، والحركات الثورية المتطرفة، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية في الصوفية على الأخـص . أما التيار الثاني ففني، وهو يهدف إلى الارتباط بالحياة اليومية كما عند أبي نواس، وإلى الخلق لا على مثال خارج التـقليد وكل موروث عند أبي تمام، أبطل التيار الفني قياس الشعر والأدب على الذي أبطل ـ بتعبير آخر ـ القديم من حيث إنه أصل للمحاكاة أو نموذج .
أخذ الإنسان يمارس هو نفسه عملية خلق العالم . هكذا تولدت الحداثة في تاريخنا من التفاعل والتصادم بين موقفين أو عقليتين في مناخ من تغير الحياة ونشأة ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثة الشعرية بالخروج" .

وهكذا في نظر الغامدي صارت الدارونية فتحاً علميا، وهي التي تـقول إن أصل الإنسان الذي كرمه الله قرد، والتي سقطت في الغرب نفسه ورد عليها كبار علمائه، انظر مثلا كتاب (خلق لا تطور) لمجموعة من كبار العلماء الغربيين، تعريب إحسان حقي، أما علوم الميثـلوجيا التي تـقول إن الأديان من صنع البشر وإن أصل الإنسان كان يعبد مظاهر الطبيعة، ثم تطورت الأديان مع رقي البشرية إلى التوحيد، هذه المقولة التي تـناقض كل ما في الكتاب والسنة عن دين أبي البشر آدم، أصبحت عند الغامدي علوماً تفصح عن منهج جديد، يستـلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج ، في بعد ذي شمول إنساني، يا للهراء ويا للسخافة والسذاجة، أي مقدمات ونتائج تلك . ثم يواصل الغامدي فيقول : "كما أن الدارونية مفهوم جديد يتعرف بها الإنسان على أصله العضوي، ثم يفسر على ضوئها كيانه الراهن، وكذلك الميثلوجية التي تحاول أن تفسر القلق العقائدي المعاصر تفسيراً جديداً، لذا فإن هذه المصطلحات في مجموعها تكـوّن رؤية علمية عقلانية تستهدف الإثارة الكاملة للإنسان، وانتزاعه من براثن التقاليد الماضية" وأي تـقاليد ماضية غير الإسلام التي يحاول الغامدي أن ينتشلنا منها ويبدلنا عوضا عنها نظريات دارون اليهودي ربيب المحافل الماسونية وابن الصهيونية، والمثلوجيا المنكرة للوحي وكل ما يترتب عليه من أديان وشرائع .








مـوجز تاريخ الحداثـة العربيــة

بعد أن انتـقل وباء الحداثة إلى ديار العرب على أيدي المنهزمين فكريا، ولقيت الرفض من المجتمع الإسلامي في بلاد العرب، أخذوا ينقبون عن أي أصول لـها في التاريخ العربي لعلها تكتسب بذلك الشرعية، وتحصل على جواز مرور إلى عقول أبناء المسلمين إذ لا يعقل أن يواجهوا جماهير المثـقفين المسلمين في البداية بفكرة غربية ولباسها غربي، فليبحثوا عن ثوب عربي يلبسونه الفكرة الغربية حتى يمكنها أن تتسلل إلى العقول في غيبة يقظة الإيمان والأصالة.

وأدونيس هذا الذي نقلنا عنه محاولة إيجاد جذور لهم في التاريخ الإسلامي، يعتبر المنظر الفكري للحداثيين العرب، وكتابه (الثابت والمتحول) هو إنجيل الحداثيين كما يقول محمد المليباري، ومهما حاول الحداثيون أن ينفوا ذلك فإن جميع إنتاجهم يشهد بأنهم أبناؤه الأوفياء لفكره، بل إن الملحق الثقافي بمجلة (اقرأ) احتج على عدم ترشيح أدونيس لجائزة نوبل في الأدب، وإن أراد القارئ زيادة دليل فليقرأ ما كتبه الزيد في اليمامة العدد 940 صفحة 154 حين اعتبر أدونيس زعيم الحداثة العربية . ومن تلاميذه رجال الخط الثاني الحداثي المقالح اليمني، والغذامي السعودي، وغيرهم . يقول الزيد موجهاً الخطاب للغذامي : "إني أرشحك أن تكون جبيننا المرفوع أمام المبدعين الآخرين، ووجهنا المضيء في كل احتفال مبهج بالكلمة والإيقاع , تماماً كما عبد العزيز المقالح في اليمن، وعز الدين إسماعيل في مصر، وماجد السامرائي في العراق، وكما أدونيس في الوطن العربي كله …. أجدني أبتهج بك" .
وهـذا الاستطراد كان لا بد منه لإسقاط مرافعة بعض الحداثيين التي ينفون فيها انتسابهم لأدونيس، وهم وإن كانوا يتهمون غيرهم بالإنشائية فإنهم يطبقون المثل الذي يقول : ( رمـتنـي بدائـها وانسلت ) .

وهـكذا ابتدأ المنظر الفكري للحداثة العربية ينبش كتب التراث, ويستخرج كل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرين، مثل : بشار بن برد، وأبي نواس، لأن في شعرهم الكثير من المروق على الإسلام، والتشكيك في العقائد والسخرية منها، والدعوة للانحلال الجنسي . وحين يتحدث أدونيس عن أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة، وعن سبب إعجاب الحداثيين بشعرهما، يقول : "إن الانتهاك ـ أي تدنيس المقدسات ـ هو ما يجذبنا في شعرهما، والعلة في هذا الجذب أننا لا شعوريّاً نحارب كل ما يحول دون تفتح الإنسان، فالإنسان من هذه الزاوية ثوري بالفطرة، الإنسان حيوان ثوري". انظر الثابت المتحول ج1 صفحة 216 . بل إنهم يعتبرون رموز الإلحاد والزندقة، أهل الإبداع والتجاوز، وأهل المعاناة في سبيل حرية الفكر والتجاوز للسائد، وألفوا في مدحهم القصائد والمسرحيات والمؤلفات، كما فعل صلاح عبد الصبور مع الحلاج ، الذي اعتبره شهيد الحرية، وضحية الظلم والطغيان والرجعية.
يقول عبد الحميد جيدة في (الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر) صفحة 98 ـ99 : "الرافد الصوفي صُبّ في دائرة الشعر العربي المعاصر، ولونه بلونه الخاص، إن النفري والحلاج وذا النون وابن العربي، وغيرهم ، أثروا في أدونيس والسياب والبياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر، لذلك فإن القيم التي يضيفها الشعر الجديد إنما يستمدها من التراث الصوفي" .
وهكذا بعد أن حاول الحداثيون العرب أن يوجدوا لهم جذوراً تاريخية عند فساق وزنادقة وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام، انطلقت سفينتهم غير الموفقة في العصر الحديث، تـنتـقل من طور إلى آخر، متجاوزة كل سيئ إلى ما هو أسوأ منه، فكان أول ملامح انطلاقتهم الحديثة هو استبعاد الدين تماماً من معاييرهم وموازينهم، بل مصادرهم، إلا أن يكون ضمن ما يسمونه بالخرافة والأسطورة .
تقول الكاتبة الحداثية خالدة سعيد في مجلة فصول المجلد الرابع العدد الثالث صفحة 27 في مقال لها بعنوان: (الملامح الفكرية للحداثة) : "إن التوجهات الأساسية لمفكري العشرينات، تقدم خطوطا عريضة تسمح بالقول : إن البداية الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة، قد انطلقت يومذاك، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، وأقام مرجعين بديلين، العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثمّ تطوري، فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تُلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين" .
هـذه هي المرحلة الأولى في الحداثة العربية المعاصرة، بدأت بالنيل من بعض مفاهيم الدين، والتشكيك في مصادره، وهز قناعات الناس به، وجعل الدين في مرتبة الإنتاج العقلي البشري، يناقش ويعرض على مناهج النظر والاستدلال والبحث الغربية، فما أقرته قُبل لا باعتباره وحياً بل باعتباره وافق ما عندهم، وما رفضته تلك المناهج من الدين رفضوه . يقول غالي شكري : "لعل ثورة عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وطه حسين في أوائل هذه القرن، هي البادرة الأولى في حياتنا الشعرية لأن نلقي عن كاهلنا عوائق الوجه السالب في التراث، ونتجه إلى حضارتنا في تكاملها الحي العميق، نستخلص منها وسيلة اللقاء المشروع بيننا وبين ذروة الحضارة الإنسانية المعاصرة في أوربا … وقد اهتزت أيامها فكرة التراث اهتزازاً شديداً" .

ولا شك أن التراث السلبي في نظر شياطين الإنس من الماركسيين هو الإسلام، أما الاهتـزاز الذي تحدث عنه شكري فلو قال إنه في المسلمين لا في الإسلام لأصاب كبد الحقيقة، إذ إنهم بعد عصور الضعف والانحطاط والجمود تعرضوا لغزو فكري وعسكري رهيب، كان من نتائجه أن خلّـف الغربيون في بلاد المسلمين أبناء لهم يخدمون فكرهم ويحققون أهدافهم، فهم لهم منابر دعاية وأبواق تضليل، أمثال طه حسين، وسلامة موسى ولطفي السيد، وعلي عبد الرزاق، ولطفي الخولي، وساطع الحصري، وشلبي شميل وجورجي زيدان، وقسطنيطين زريق، وأمثالهم كثير، كل هؤلاء وجد فيهم الحداثيون إرهاصات وبدايات مهدت لظهور الحداثة المعاصرة، بل إنها البداية الحقيقية لها، وبداية حلقات سلسلتها التي ربط عراها الشيطانُ الحداثي الأكبـر أدونيس .
تـقول خالدة سعيد في مجلة فصول المجلد الرابع ج3 صفحة 26 "عندما كان طه حسين وعلي عبد الرزاق يخوضان معركة زعزعة النموذج (الإسلام)، بإسقاط صفة الأصلية فيه، ورده إلى حدود الموروث التاريخي، فيؤكدان أن الإنسان يـملك موروثه ولا يملكه الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة، وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجـوبة".

تلي هـذه المرحلة ما سمي بالأدب الواقعي الاشتراكي أو الشيوعي، ولا زالت هذه المرحلة التي ابتدأت في الخمسينات الميلادية من هذا القرن مهيمنة على أدب الحداثة، وكان من رموزها : سلامة موسى، ولويس عوض، وأنور المعداوي، ومحمود أمين العالم، وحسين مروة، وغائب طعمة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وأدونيس وغيرهم .
ورافق هذا التيار الاشتراكي، بل كان رديفا له، تيار يأخذ بالفكر الوجودي، يمثـله : يوسف الخال، وخليل حاوي ، وأمثالهم . وهناك الكثير من الأسماء التي كانت تجري في أحد مضماري حلبة الحداثة، مثل : سعيد عقل، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد عفيفي مطر، وأحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور.
وانتشر التلاميذ لهؤلاء وأولئك، بل إن بعض التلاميذ جمع القسمين من المدرسة الواحدة، في كتابته وفكره، في جميع أرجاء البلاد العربية، حتى وصل صحافتنا الوباءُ الفكري، أو التلوث الفكري - كما يسميه الدكتور راشد المبارك ـ في السنوات الأخيرة، ولمعرفة كيف وصلنا وانتشر عندنا أنصح بقراءة مقالة عبد الله سلمان، الذي أعلن توبته من الحداثة في مقال في ملحق صحيفة المدينة الأسبوعي الأربعاء في تاريخ 17 /8/1407هـ وكان عنوان مقاله (سيرة الحداثة من الداخل)، كشف فيه كثيراً من أوراقهم مما اضطرهم للسكوت عن الرد عليه على غير عادتهم في مثل هذه المواقف. وكان من أهم منابرهم الإعلامية في الوطن العربي مجلات : الأديب، وشعر، والثقافة الوطنية، ومواقف، في لبنان. وفي مصر ظهرت مجلات: الشعر، وإبداع، وفصول. وفي العراق: الأقلام. أما الآن فحدث ولا حرج عما يدور في فلكهم من مطبوعات ومنشورات ومنابر أدبية وفكرية.

تقول الكاتبة الفاضلة سهيلة زين العابدين في الندوة 8424 الصفحة 7 : "الحداثة في شعرنا العربي المعاصر نجدها ـ للأسف الشديد ـ قد حققت ما هدفت إليه الماسونية وبروتوكولات صهيون، إذ نجدها في مراحلها المختلفة حققت بالتدريج هذه الأهداف، إلى أن حققتها جميعها في مرحلتها الحالية الأدونيسية، فالحداثة مرت بالمراحل التالية :

1- المرحلة الأولى : وبدأت سنة 1932م، نشأت جماعة أبولو التي دعا إلى تكوينها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، ورأينا من خلال حديثنا عن هذه الجماعة كيف أنها تبنت مذهب الفن للفن، وهو مذهب علماني، يهدف إلى إقصاء الدين وإبعاده عن كل جوانب الحياة، تمهيداً لتقويضه والقضاء عليه، واعتناق جماعة أبولو لهذا المذهب جعل السريالية والرمزية والواقعية تتسرب إلى شعرهم .

2- المرحلة الثانية : وهي المرحلة اللاأخلاقية، والتي ظهرت في شعر نزار قباني, وفيه تمرد على التاريخ، ودعوة إلى الأدب المكشوف .

3- المرحلة الثالثة : التي بدأت سنة 1947م عندما نشرت أول قصيدة كتبت بالشعر الحر لنازك ملائكة، ويمـثل هذه المرحلة البياتي، وصلاح عبد الصبور، والسياب.

4- المرحلة الرابعة : ويحتـلها أدونيس، وهـذه المرحلة من أخطر مراحل الحداثة، ودعا فيها أدونيس إلى نبذ التراث، وكل ما له صلة بالماضي ودعا إلى الثورة على كل شيء وهـو في هذا يدعي أنه من دعاة الإبداع والابتكار مع أن ما يردده ليس بجديد, فهذه دعوة الماركسية والصهيونية ألبسها لباس ثورته التجديدية لتحقيق الإبداع الذي يدعيه" .

أيها القارئ :

هـذه هي جذور الحداثة التاريخية, والمياه العفنة التي سقت بذرتها الخبيثة فخرجت ثمرتها مُرَّة لا تساغ ولا تستساغ .

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:50 PM
الغموض في أدب الحداثة والغاية منه

بعد أن عرفنا ما هي الحداثة في أصولها وجذورها التاريخية عند أهلها الغربيين في منشئها وعند تلاميذها الوالهين في بلاد المسلمين وبين أبناء الضاد، نحب أن نتحدث عن سمة هامة من سمات أدب الحداثة تميـز بها واتخذها له شعاراً وناضل عنها أساطينهم، ثـم نرى بعد ذلك لماذا يصرون على إظهار أدبهم بهذا المظهر وتلك السمة ألا وهي الغموض .

إن أول ما يصدم القارئ لأدب الحداثة هو تلفعه بعباءة الغموض، وتدثره بشعار التعتيم والضباب، حتى إن القارئ يفقد الرؤية ولا يعلم أين هو متجه، وماذا يقرأ : أهو جد أم هزل، حق أم باطل، بل يقطع أحياناً بأن ما يقرأه ليس له صلة بلغة العرب : إمّا في الجمل والتراكيب وإن كانت المفردات عربية، أو حتى في المفردات الجديدة التي تدخل الاستعمال لتوها ولأول مرة.
إن من يقرأ أدب الحداثة يقع في حيرة من أمره لـمن يكتب هؤلاء ، وماذا يريدون ؟ !

لقد عرضت إنتاج بعض هؤلاء الحداثيين على أساتذة الأدب في كلية اللغة العربية، لعلي أجد عندهم ما لم أجده في كتب اللغة والأدب حين وقفت عاجزة عن السماح لـهذا الأدب بالدخول في دائرة الفكر المـعقول، فضلاً عن الأدب الراقي الجميل المؤثر في النفوس، والمؤجج للعواطف، فوجدت أولئك الأساتذة أكثر حيرة.
فعدت أنقب في كتابات الحداثيين أنفسهم، حتى وجدت ما يشير بالتأكيد إلى غايتهم من هذا الغموض .
إن الغموض طغى حتى على عناوين قصائدهم وكتاباتهم، وها أنا ذا أورد نـماذج من إنتاجهم، وأعقب بنقول تؤكد إصرارهم على الغموض، باعتباره علامة مميزة لفكرهم، ثم أبين غايتهم من هذا الغموض .

يقول رمزهم المبدع ـ كما يسمونه ـ عبد الله الصيخان في قصيدة حداثية نشرت في مجلة اليمامة عدد 896 :

( قفوا نترجل
أو قفوا نتهيأ للموت شاهدة القبر ما بيننا يا غبار ويا فرس
يا سيوف ويا ساح يا دم يا خيانات
خاصرة الحرب يشملها ثوبها
كان متسخا مثل حديث الذي يتدثر بالخوص
كي لا يرى الناس سوأته
كنت أحدثكم
للحديث تفاصيله فاسمعوني
فقد جئت أسألكم عن رمال وبـحر وغيم وسلسلة زبرجد )

إنني أرجو من القراء أن يجهدوا تفكيرهم معي قليلاً لعلهم أن يحضوا بما لم ينكشف لي من كنوز أدب الإبداع , الأدب الجديد والوعي الجديد كما يسمونه، والذي يظن السامع لكلامهم عندما يسمع طنطناتهم ورغاءهم وثغاءهم أنـهم حققوا للأمة ما نهض بها إلى الفرقد، وجاوز بها السماكين .

وفي اليـمامة أيضاً في العدد 901 يـقول زاهر الجيزاني :

( وحدي بـهذا القبو
أعثر في حطام الضوء في كسر المرايا
ويداي مطفأتان
ويداي موحشتان
ويداي ترسم بالرماد فراشة
ويداي تأخذني
وأسأل من أكون سبعاً بـهذا القبو
أورثناه حكمتـنا وأورثنا الجنون )

ما هو يا ترى القبو الذي يشكون الجيزاني من العيش فيه ويتضجر منه ويشعر بأنه أورثنا الجنون ؟! وما هو حطام الضوء ؟ وما هما اليدان المطفأتان ؟ وما علاقة ذلك برسم فراشة في الرماد ؟ !
طلاسم تـنتظر من يفك رموزها، وإننا لمنتظرون لأهل الحداثة.

وفي عكاظ العدد 7531 الصفحة 8 كتبت هدى الدغفق تحت عنوان (اشتعالات فرح مثـقل) ... وانظر التناقض ، فرح له اشتعالات، وأيضاً مثـقل !! قالت هدى هذه من ضمن قصيدة حداثية طويلة، لا أريد أن أثـقل عليكم بها كلها، ولكن أسمعكم منها قولها :

( لأني نفيت من الحلم بالأمس
سامرت قيظا
وجعا منح الوقت وقتاً
واحترى أن يمر به الوسم
لأني عاصرت حالة دفني
تجذرت بالرمل
مارست توق الخروج عن الخارطة
ولأن الخريف طوى قامتي )

أهذا كلام العقلاء فضلا عن أن يكون كلام الأدباء أو كما يسمونهم : المبدعين والمتميزين ؟؟!

ولنقدم لك نموذجا آخر من هذا الإبداع المصدع للرؤوس, إليك بعض ما قاله هاشم الجحدلي في عكاظ العدد 7524 الصفحة 7 تحت عنوان (مريم وذاكرة البحر والآخرون) . هذا هـو عنوان القصيدة الفذة، فلندخل إلى داخلها، ونستمتع بإبداعها الذي تصر عكاظ على حشو العقول به، وإفساد الأذواق بقراءته ... يقول الجحدلي :

( أرتق وجه السماء المغطاة بالعشب
أدون ما يشدو البحر به
هو الليل يأتي لنا حاملاً شمسـه
هو الموت يبدأ من أحرف الجر حتى السواد
وينسل طيف الأرانب بين المفاصل والأمكنة
يضيء الغدير المعبأ بالخيل والليل والكائنات الكئيبة
وللنهر بيض يفقس بعد المساء الأخير
وللخوف وجه الذي يشتهيه الشجر )

هل دارت بك رأسك أيـها القارئ الكريم ؟؟!

إن هذه الأمثلة التي سقتها لك غيض من فيض مما تزخر به الملاحق الأدبية في صحفنا ومجلاتـنا، وما يلقى في أمسياتنا ونوادينا الأدبية وينشر في مطبوعاتنا .
ولا تظنن أيـها القارئ أني أبالغ، فهم والله يقدمونه على اعتبار أنه شعر وأدب، ويقدمون له الدراسات النقدية والأدبية، ولولا خوف الإطالة لأوردت أمثلة أكثر، ويكفيك أن تتجه إلى أي عمل أدبي حداثي وتـنظر فيه، لترى أنه من نفس النوعية لا فرق بينها إلا التـفاوت في الغموض .
هل يا ترى هذا الغموض يأتي اتفاقاً، أم هو أمر مقصود لازم في أدب الحداثة ؟؟ لنرَ ذلك من خلال أقوال الحداثيين أنفسهم .
يقول أحمد كمال زكي في كتابه (شعراء السعودية المعاصرون) صفحة 18 "لو أننا وقفنا عند ظاهرة واحدة من ظواهر الشعر الجديد، وهي الغموض، وقد أصله سعيد عقل وأدونيس أحد شيوخ المجددين، لرأينا العجب العجاب" . وهكذا ما دام سعيد عقل وأدونيس يرون أن الغموض ضرورة للأدب، فلا بد أن يسلك على نهجهم تلاميذهم لدينا .

يقول عبد الله نور في ملف نادي الطائف الأدبي العدد السادس صفحة 55 : " الشعر يفهم ليس بشعر " !!
ومادام من شروط الشعر عندهم ألا يـفهم، فما الغاية منه إذاً ؟ هل هو طلاسم سحر، أم أحاجي ألغاز، أم رموز شعوذة ؟؟!

وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في مساء الأربعاء 16/11/ 1406هـ وشارك فيها من أعمدة الحداثة محمد العلي، وعلي الدميني، وعثمان الصيني، وعبد المحسن يوسف؛ ونشرت في مجلة الشرق الأوسط في عدد 369 يقول سعيد السريحي أثناء تعليقه على الأمسية : "إن هذه الأبواب الإبداعية ذات طبيعة تجعل من الغموض ضربة لازب" .

ويقول السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) صفحة 17: "إن ظاهرة الغموض التي من شأنها أن تعد السمة الأولى للقصيدة الجديدة، نتيجة حتمية أفضت إليها سلسلة من التطورات التي طرأت على العلاقة المتوترة بين الشاعر المبدع والقارئ المتلقي" . ويقول في صفحة 31 من الكتاب : "ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتـفهم القصيدة الجديدة، بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد، وإنـما هي توحي بالمعنى إيـحاءً بحيث لا تـنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابـتها، وإنما تظل تـنمو في نفس كل قارئ من قرائها، حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لـها من القراء" .

ونحن على فرض التسليم لـهم في أن كتاباتهم الغامضة لا معاني لـها، فهل تحولت الأمة إلى مجموعة من المجانين يكتبون ما لا يعقلون، ويقرؤون ما لا يفهمون ؟؟
هل هانت أمتـنا إلى هذا الحد حتى يصبح أدبها وفكرها عبثاً بأيدي فئة من الممسوخين فكرياً، الذي باعوا أنفسهم للشياطين من الشرق إلى الغرب، يفكرون بعقولهـم، وينطقون بأسمائهم، ويصرون على أن يقنعونا بأن الليل نهار والأسود أبيض، كمثل قول محمد الثبيتي : "من الشيب حتى هديل الأباريق تنسكب اللغة الحجرية بيضاء كالقار نافرة كعروق الزجاجة" .
وسنرى فيما يأتي من صفحات هل تعمدهم الغموض فيما يكتبون له أهداف محددة، وهل هي شريفة أم أهداف تـناقض ديننا وواقعنا، ولكنهم لعدم قدرتهم على التصريح بها الآن يتعمدون الغموض لتحقيق بعضها على الأقل، والتمهيد لتحقيق البعض الآخر، إني أرجو من القارئ ألا يستعجل في الحكم، لأن الصورة لن ترى كاملة إلا بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتيب .

وحين يحاول بعض السذج أن يقنعونا بأن الحداثة ما هي إلا قوالبُ أدبية وأشكال تعبيرية جديدة، لا ضير فيها من الناحية الفكرية، ننقل لـهم ما قاله بعض أهل الحداثة، لتتضح الرؤية ويزول اللبس .

يقول السريحي في صفحة 15 من كتابه، متحدثاً عن إحدى محاضراته التي ألقاها في نادي جدة الأدبي : "وآمل كذلك أن تكون خطوة نحو الخروج من الدوائر المغلقة والزوايا الضيقة التي سئمنا وأسأمنا من حولنا بدوراتـنا فيـها" .
إذا فهم يريدون الانطلاق بلا ضوابط وبلا معايير في كل شيء، في الفكر والأدب، وبالتالي في الحيـاة عموماً .

تـقول رجاء العالم الكاتبة الحداثية في عكاظ العدد 7580 الصفحة 7 : "لا يهمني إن لم يفهمني أحد" . لمن إذا تـكتب ما دام لا يهـمها أن يفهمها الناس، ولماذا لا تحتـفظ بكتابتها لنفسها بعيداً عن النشر، وما هي يا ترى طريقتهم، وهل نستطيع أن نعرف بعض أهدافهم ؟؟!
استمع إلى السريحي وهو يحدد موقفهم من اللغة العربية, يقول في صفحة 27 من كتابه "حيث أصبح من خصائص القصيدة ذلك التركيب غير العادي للعبارة، من حيث التقديم والتأخير والذكر والحذف والفصل والوصل، وأصبحنا نجد الألفاظ تتـناثر تـناثراً عجيباً لا تربطها رابطة، إذ اختـفت كثير من الأدوات النحوية التي اعتدنا وصل الجمل بـها، وكذلك استعملت حروف كثيرة في غير معانيها التي وضعت لـها، وتوالت الضمائر من غير أن يكون هناك ذكر لمن تعود إليه، ومن شأن ذلك أن يزيد من غموض القصيدة الجديدة، وانفصالها عن القارئ, وقد حرص الشاعر المحدث على كسر الإطار العام للتركيب اللغوي، خلال ثورته العارمة على الاتجاه العقلي ، الذي هيمن على اللغة" .

إذا فمن أهداف الغموض وغاياته كسر الإطار العام للغة العربية، وتحويلها مع مرور الزمن والأيام، ومن خلال استبدال مفرداتها وتراكيبها ومعانيها، إلى لغة جديدة لا صلة لـها باللغة العربية الفصحى المعروفة والمأثورة عن العرب - تماما كما حصل للغة اللاتينية - التي تحولت مع مرور الزمن بـهذه الطريقة إلى لغات كثيرة .
ولك أن تتصور - لو حصل هذا لا قدر الله ـ موقف الأجيال القادمة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكتب التراث بصفة عامة، وأي كارثة يسعى الحداثيون إلى جر الأمة إليها.

وهـذا أيضاً ما سيتحقق من نتائج لو تم الاستجابة لدعاة العامية، الذين ينادون بإحلالها مكان الفصحى، ونحن لا نستغرب ذلك فمنشأ الدعوتين من أعداء الإسلام الغرببيين؛ بل صرح حامل لواء الدعوة العامية لدينا في اليمامة عدد879 في صفحة81 بأن "من ينادون بدراسة الأدب الشعبي مثلهم مثل شعراء الحداثة والفنانين التشكيليين". وهم كذلك بالإضافة لمحاولة تحطيم اللغة العربية - من أجل إبعاد الأمة عما نزل بهذه اللغة من وحي وما كتب بها من علم وتراث - يسعون لإعطاء العقول إجازة, ومحاولة إقناع الناس بأن من أراد أن يفهم الأدب ويتذوقه فعليه أن يلغي عقله في كل شيء، ولاحظ كلام السريحي قبل قليل الذي تبنى فيه الدعوة العارمة للثورة على الاتجاه العقلي في اللغة. أما ما هي البدائل التي يطرحها السريحي وأمثاله، فهي الخرافة والأساطير والتبرير الأسطوري المجنون !! يقول السريحي في صفحة 20 من كتابه : "كان الشاعر يستـلهم الدور الأزلي الذي أناطته به البشرية حينما كان يتصدر مجلس الجماعة, وعن يمينه جلس الكاهن وعن يساره الساحر، في ذلك الوقت حينما كانت الأرض لا تـزال غضة بماء الطوفان وكانت البشرية تبحث لها عن موطئ قدم في أدغال الحياة، كان هؤلاء الثلاثة هم أرباب الكلمة، يتخذها الكاهن معبراً يستشف به الأسرار، ويتخذها الساحر أداة يقلب بها الأوضاع، ويتخذها الشاعر وسيلة يكتشف بها الأشياء، واكتشاف الشيء يبدأ من تسميته. وقد كانت مهمة الشاعر في ذلك الوقت تسمية الأشياء، ولم تكن المهمة بالأمر السهل والهين، ولكي نفهم ذلك فإن علينا أن نلم إلماماً جيداً بنظرية المعرفة كما تجلت في ثورة (كانت) الكوبرينكية على الميتافيزيقيا القديمة والعقل الخالص" .
بهذه السفسطات والتمويهات يريد السريحي وطابور الحداثة من ورائه أن يقنعونا بمغالطات كثيرة، منها على سبيل المثال : أن الشعر والشاعر أزليان، أي لا أول لهما، بل هما قبل كل شيء, وهذه ـ كما نعلم ـ مما اختص به رب العالمين . ومنها أن البشرية كان يقود ركبها في البداية كاهن وساحر وشاعر، ونحن نعلم أن البشرية في بدايتها قادها وحي رب العالمين، بل ذلك من المقطوع به في القرآن والسنة.
ثم يؤكد من طرف خفي أن الشاعر هو الذي كان يسمي الأشياء، أي أنه هو واضع اللغة، ولذلك فإن من حقه أن يستمر في وضع اللغة، وكل كلمة يقولها الشاعر فهي وضع لغوي جديد بدون النظر لسابق هذا اللفظ في اللغة من عدمها .
ومستنده في كل هذه الأحكام الجزافية التي يريد فيها أن يعيدنا إلى عصر السحر والكهانة، هو أستاذه في المعرفة (كانت) الذي ثار على الغيبيات القديمة وعلى العقل وكل ما يمت له بصلة، وتصل صراحة السريحي مداها في المطالبة بإلغاء اللغة حين يقول في صفحة 29 من الكتاب : "ومن هنا فإن علينا أن ندرك أن أول خطوة نخطوها نحو العلم المغلق للقصيدة الجديدة، هو أن نبرأ من هذا التصور اللغوي القديم، بحيث يكون وقوفنا أمام الشعر وقوفاً أمام لغة الشعر نفسها" .

إذاً فهم يسعون من خلال الغموض إلى إنشاء وإيجاد واقع فكري جديد، منفصل ومقطوع عن واقع الأمة الفكري وماضيها العلمي والعقـلي والأدبي، في الشكل والمضمون، بالإضافة إلى أن غموضهم فيه من الرموز الوثـنية والإشارات الإلحادية ما يـفـك طلاسم تـلك الرموز أمام الباحث, ويـحـدد له وجهـة أهـلها وغايـتهم في الحياة .

وإليك مثالا على رموزهم الإلحادية، ما كتبه الحربي في اليمامة العدد 923 في زاوية للريح والمطر، حين حشر في سطور قليلة أسماء كثير من ملاحدة العالم من العرب وغيرهم، يقول : "من الذي علمك أن تتبع لوركا في انحناءات الجنوب وأوجاعه، وفتح لك نافذة على حقول بابلو، حيث الأيادي المشبعة بالتربة، وقادك ظهراً إلى الأناضول، لترى الجثث والعلامات الحارقة على الجسد مع ناظم، من ناولك ريتسوس في عشية غائمة، ومد أعناق الأسئلة ... من أخرج الرمل من أوراق المنيف، وغطى به حجرتك الصغيرة، حيث العالم مختـزل في مستطيل ضوئي، من علمك الاستطالة مع سعدي، وسحر الألوان والعالم يشكو السواد مع درويش وزرعك في غابة المفارقات والتضاد مع أمل" .
وهكذا في نص غامض واحد يجمع لنا الحربي كثيراً من رموز الإلحاد في العالم كله، الذي لا يجمعهم إلا الولاء لليسار والشيوعية العالمية، فمن لوركا الأسباني، إلى بابلو التشيلي، إلى ناظم التركي، إلى عبد الرحمن المنيف وسعدي يوسف ومحمود درويش وأمل دنقل العرب، الذين لا يخفى اتجاههم على متابع للساحة الفكرية في البلاد العربية .

أما التأثر بالرموز الوثنية فما أكثرها في شعر الحداثيين . وغالب شعر أساطينهم من خارج هذه البلاد مملوء بالأساطير، انظر لذلك مثلا فصل التفسير الأسطوري للشعر الحديث من كتاب (شعراء السعودية المعاصرون).
ومن الأمثلة التي أوردها مؤلف الكتاب في صفحة 117 قول سعد الحميدين : "قلبي يدق يدق لكن الجدار يمتد قدامي كشمشون الأزل"، وتقول خيرية السقاف في كتابها (أن تبحر نحو الأبعاد) صفحة 65 : "وتكشر عن حاجبيها بلقيس .... ما الذي دفعك أن ترتدي ثوب شهرزاد .... أوه حدثينا ولكن غير أحاديث شهريار .... شهريار رمز الدم .... شهرزاد رمز الألعوبة الدنيوية" .

وهكذا بين رموز الإلحاد المعاصر والوثـنية القديمة، تستطيع أن تـتـلمس غموض الحداثة المعاصرة، وبعدها عن المعقول والمألوف، ولعل في المباحث القادمة ما يلقي الضوء أكثر على هذه الظاهرة الخطيرة .

وإليك أمثلة أخرى لتأكيد ما قلناه :

تقول خديجة العمري في قصيدة حداثية نشرتـها مجلة المجلة العدد 344 الصفحة 39 :

( أنهض من لوثة الوجع العائلي
وأدخلنا كلما احتفل الجرح بالدم
والقاتلين أهزالي بذاكرة اللحظات التي قسمتنا
تساقط في همتي سادتي الحاضرين
وما اختلفوا من يعلق نص الوراثة مرحى )

ومن عناوين قصائدهم قصيدة محمد الثبيتي في صفحة 87 من ديوانه (تهجيت حلماً تهجيت وهماً) عنوان هذه القصيدة (أقول الرمال ورأس النعامة) وفي نفس الديوان في صفحة 83 مقطع من قصيدة حداثية أوله :

" وهبطت زنجية شقراء في ثوب من الرعب بديع " . هل رأيت أيها القارئ زنجية شقراء قبل اليوم، وثوبا من الرعب وبديعاً في نفس الوقت ؟!

ويقول السريحي في كتابه صفحة 49: "بوسعنا أن نقول إن للشعر خاصة وللإبداع عامة نحوه الخاص، ولنجرؤ قليلا فنقول إنه ضد النحو, تتحرك فيه اللغة وفق منطق شعري خاص، لم يعد لمقولات المطابقة في الإفراد والتـثـنية والجمع والتذكير والتأنيث وحركات الإعراب ما يـقـتـضي وجودها من خارج النص، وإنما تـظـل كل تـلك الأسس النحوية احتمالات من شأن الرؤيا أن تحرك النص بعيداً عنها, إن كان لذلك التحريك ما يقتضيه".

وهكذا يريد أدعياء الإبداع ورواد الحداثة أن يكون أول هجومهم عل اللغة العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها، تحت ستار الحرية في الإبداع ، لعلمهم أن هذه اللغة هي وعاء الشرع خاصة والتراث عامة، وهي وسيلة فهم هذا الدين ومعرفته، لأن الهجوم على الدين مباشرة أمر غير مقبول في بداية المعركة، وإن كانت مرحلة منازلته قد بدأت لدينا، أما في البلدان العربية الأخرى فقد وصلت الضربات إلى القلب على أيدي من يشيد به الحداثيون عندنا صراحة، لكنني أذكر الجميع بقول الشاعر :



كناطح صخرة يوماً ليُوهَنـها **** فلم يَضِرها وأوهى قرنَـه الوَعِـلُ

وليكن ختام الحديث عن الغموض، مطلع قصة غامضة لكاتبة سعودية اسمها رجاء عالم أشاد بها وبأسلوبها وقصتها السريحي في صفحة 60 من كتابه، وقال عنها : "هذه الخاصية ترتكز عليها الكاتبة، مستـفيدة بما يبثه الضمير من جو ضبابي، لا تتحدد من خلال معالم ولا تتضح، فهو أشبه ما يكون بالهيولي أو المادة الهلامية" .
والنص الذي أشاد به السريحي هو قولها : "أنا كنت قد خرجت تلك الليلة، حين بدأ الشرخ لمحته يتحرك صاعداً أصابع قدمي، وهم قبل أن يبدأوا الركب خيل إلي أنهم طيبون تماماً لا يعقل أن يغرس أحدهم هذه النقطة على قدمي لتبتـلعني" .

وفي جـريدة عكاظ العدد 7566 كتب الـسـريـحي تحت عنوان (3 خطوات في حضرة البياتي) فكان مما قال : "يأخذك حديثه، يرسم لك مدنا من ثلج أسود، وزمن تركض شمسه مذعورة في الشوارع" .
هل رأيتم ثلجاً أسود في حياتكم، أو سمعتم بشمس تركض في الشوارع ؟ أم أنها تجليات الأستاذ على مريده حين جلس في حضرته، وأحب أن ينقل تلك التجليات وذلك الفناء للناس ليستمتعوا كما استمتع بحضرة أستاذه .

وأخيراً إليك بعض الأمثـلة مما يسمونه أدباً وأسميه جنوناً وأنت عليك أن ترجح إحدى التسميتين .
ففي اليمامة عدد 940 صفحة 55 قصيدة حداثية عنوانها (الهبوط للأعلى), هل رأيتم هبوطاً للأعلى عند العقلاء ؟؟!

وفي صفحة 75 قصيدة بعنوان (شطحات غير صوفية) منها قوله :

( وهج النحول لم يكن غير انسلاخ الروح من ظل البراءة والتقى
ها أنت من دون العيون براءة
الناس تسلخ بعضها
الماء ينشر سره
النار تأكل بعضها
وأنا أكتم في دمي نار التوغل في مسارات الفجيعة والضحى )

وفي صفحة 76 قصيدة بعنوان (قيلولة) جاء فيها :

( ظهيرة مكسورة الشمس حزينة
غيم تعانقه حمامة
وخيول عشق غادرها الصهيل
اتكأت في نعاس المكان على طرف الحلم
شقية لمت من بقايا العيون السهر
هذا انتظار العشق أسطورة ملأى بنزف حلم )

يفسدون الذوق، ويحطمون الأخلاق، ويحاربون اللغة، لغاية أبعد من اللغة، ويدمرون الأدب، وكل ذلك باسم الإبداع والحداثة .

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:51 PM
الحداثة منهج فكري يسعى لتغـيير الحياة

إن الوسائل في الإسلام لها أحكام الغايات، ولا يمكن أن يتوصل لغاية شريفة بوسيلة دنيئة . ولذلك لا يمكن في الإسلام أن تـنظر للنص الأدبي من الناحية الفنية الجمالية فـقـط بعيدا عن مضامينه وأفكاره، ولا يغتـفر للإنسان من ذلك إلا ما كان خطأ غير مقصود، أو نسياناً، أو كان صادراً من نائم أو مجنون، وما عدا ذلك فإن الإنسان مؤاخذ بما يفعل ويقول على الأقل في الدنيا، وأمره في الآخرة إلى الله ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، إلا من مات على الكفر فهو خالد في عذاب جـهنم .

قدمت بهذه الكلمات لكي يُعلم ما هو المعيار الذي نقتبس به أفعال وأقوال الناس, وعلى هذا الأساس سيكون حديثـنا عن المنهج الفكري للحداثيين لدينا، حتى وإن أبوا أن يكون الإسلام الحكم بيننا، أو فسروه بما يروق لهم مما يتـفق مع أفكار أساتذتهم . وسأعرض في هذا المبحث لأمرين :

الأمر الأول : دعوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط، بغض النظر عما يدعو إليه ذلك الأدب من أفكار، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق، فما دام النص الأدبي عندهم جميلاً من الناحية الفنية فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمر أو غير ذلك، وسنرى بعون الله أن هذه المقولة مرفوضة شرعاً وعقلاً، وأنها وسيلة لحرب الدين والأخلاق، يتستر وراءها من لا خلاق له, وسنرى أن أذواقهم الأدبية فاسدة مفسدة، حتى لو سلمنا بمقولتهم تلك وأنهم يرفضون من النصوص ما كان جميلاً ويشيدون بما كان غامضاً سقيماً .
أما الأمر الثاني : فهو أن هذه الدعوى السابقة التي يدعيها الحداثيون، وهي عدم اهتمامهم بمضمون الأدب ليست صحيحة؛ بل إنـهم أصحاب فكر تغييري، يسعى لتغيير الحياة وفق أسس محددة ومناهج منضبطة، وموقفها من الإسلام محدد سلفا .

فأما الأمر الأول : وهو ما يسمونه الأدب للأدب والفن للفن، فيقول عبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) صفحة 10 : "وهذا كله فعالية لغوية، تركـز كل التركيز على اللغة وما فيها من طاقة لفظية، ولا شأن للمعنى هنا لأن المعنى هو قطب الدلالة النفعية وهذا شيء انحرفت عنه الرسالة، وعزفت عنه، ولذلك فإنه لا بد من عزل المعنى وإبعاده عن تـلقي النص الأدبي، أو مناقشة حركة الإبداع الأدبي" .
وهكذا بكل بساطة يقرر الغذامي أن المسلم عند مناقشته وتقويمه للنصوص الأدبية من نثر أو شعر، يجب أن يطرح جانباً النظر في المعاني، أي أن ينسلخ من عقيدته ودينه وفكره، ولا يكون لها أي دور فيما يعرض أمامه من أدب، ولولا أن خُدع شبابنا بـهذه المقولات الغافلة المتغافلة، لما أصبح الشيوعيون أئمة للفكر والأدب يشاد بـهم في صحافتـنا .

ويقول أيضا في صفحة 56 مؤكداً مذهبه : "ومن هنا جاءت التشريحية لتؤكد على قيمة النص وأهميته، وعلى أنه هو محور النظر، حتى قال (ديريدا) : "ولا وجود لشيء خارج النص ولأن لا شيء خارج النص فإن التشريحية تعمل ــ كما يقول (ليتش) ـ من داخل النص لتبحث عن الأثر، وتستخرج من جوف النص بناه السيميولوجية المختفية فيه، والتي تتحرك داخله كالسراب"" .
أيها القارئ الكريم : ما دام (دريدا) يقرر، و (ليش) يقول : "إننا يجب أن نحاكم النص إلى ذاته ونفسه، وننظر في أدواته الفنية فقط بعيداً عن أي مؤثر خارجي" .... فيجب أن نمتثل قوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند الغذامي أو عند السريحي الذي يقول في عكاظ العدد 7517 الصفحة 5: "من شأن قيام المنهج أن يؤدي إلى سقوط تحكم الأيديولوجيات المختـلفة في إجازة دراسة ما أو عدم إجازتها، ذلك أن براءة وحيادية العلم لها من السلطان ما يحمي الدراسة من أن نتعاطف معها، لأنها تخدم توجها نسعى إليه، أو نرفضها لأنـها تخالف ذلك التوجه" .

هـذه هي موازينهم التي يدعون الناس إلى الاحتكام إليها، أما قول الحق سبحانه وتعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ، فلا قيمة له في موازين الحداثيين النقدية ولا في مناهجهم الأدبية، وأما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله ) , وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ) وغيرها من الأحاديث الكثيرة والآيات البينة الواضحة التي تدل على أن حساب الناس في الإسلام على معاني قولهم ومضامينه قبل لفظه ومبناه، فيجب أن تـزاح عن مسرح الحياة، حتى يأخذ الأدب حقه ويؤدي دوره في نظر الحداثيين .

يقول عبد المحسن هلال في عكاظ العدد 7538 الصفحة الخامسة في معرض رده على ملحق الندوة الأدبي حين تصدى ذلك الملحق لدعاة التغريب : "نسي الملحق المذكور أو تـناسى قضيته الأساسية في وجوب التـفريق بين من يدعون للخروج عن التعاليم والقيم الإسلامية، وبين من يعتـنقون الحداثة كمذهب أدبي فني بحت، فاختـلط عليه الأمر، فأصبح يتهم كل معتـقد بالحداثة بالخروج على هذه القيم والتراث الإسلامي" .

إن هذه دعوى يدعيها كثير من الحداثيين، وهي وإن كانت مرفوضة ديناً وعقيدة، فإن واقعهم يؤكد أن ذلك مجرد تـنويم لمن بقيت في قلوبهم غيرة، وأنهم سيتجاوزون ذلك إلى مراحل أخرى .

ويقول عبد الله الغذامي في مقابلة أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط في 10/3/1987 م الصفحة 13 : "يجيب أن نفصل الآن بين الأيديولوجية والممارسة النقدية" .

وهكذا يرى الغذامي أنه يجب ألا تدخل العقائد والمذاهب الفكرية عند نقدنا للنصوص، لكنه يؤكد أن ذلك مطلوب الآن فقط . وهذا ما يشير إلى أنه مجرد مرحلة يسعون لتجاوزها، بعد أن يخدروا بمقولاتها من سيكون عقله قابلاً للتخدير، بل ذلك هو ما كشف عنه الغذامي وباح به في نفس المقابلة حين قال : "الذي نعرفه نحن أن من طبيعة الإبداع التمرد على كل ما هو سابق من قبل، فكيف بي أفرض سائداً سابقاً على نص متمرد، هذا السابق يشمل الأيديولوجية، ويشمل الفلسفة ويشمل المبدأ المقرر سلفا" .

وبسرعة فائقة انقـلب الغذامي الذي كان ينادي بمحاكمة النص إلى الوسائل الفنية اللغوية، التي رأينا بعض حملتهم القذرة عليها قبل قليل ... أقول : هكذا انقلب داعياً إلى أن يكون الأدب تمرداً على كل عقيدة ومبدأ وفلسفة مما هو سائد سابق على النص . وهل لدينا من مبدأ أو عقيدة سائدة قبل النص غير الإسلام ؟!
أما ما هي المعايير الفنية واللفظية النصية التي ينادون بـمحاكمة النصوص إليـها بعيداً عن العقائد والمبادئ فلا أعلم أي معايير يقصدون، بعد أن نادَوا بتحطيم اللغة، وجعلوا تحطيم دلالاتها وتغيير قواعدها والقضاء على معانـيها شرطاً أساسياً لكل عمل إبداعي لـديـهم .

يقول السريحي في صفحة 87 من كتابه (الكتابة في خارج الأقواس) : "ولهذا فإن استخدام الشاعر للكلمة يبدأ بتحطيم الدلالة الوضعية لها لكي يتمكن من أن يطلق ما يكمن فيـها من طاقات شعرية ….. وذلك هو ما يـجب أن يأخذه الناقد في عين الاعتبار عند تعامله مع لغة المتن الشعري، لأن عمله يبدأ بتحرير المعاني التي غرسها الشاعر في اللغة عندما استحالت على يديه إلى رموز" .
يلغون العقائد والمبادئ من موازين ومعايير النقد للأدب، وينادون بتحطيم اللغة وإهمال قواعدها ودلالاتها تماما. فما هو يا ترى المعيار الذي يريد الحداثيون أن نتخذه نبراساً لنا عند نقد الأدب ؟

يقول السريحي في صفحة 39 من كتابه : "وما ينبغي علينا إزاء هذه التقابل بين الرؤيا الفردية والرؤيا الجماعية هو أن نتحرر من الاحتكام إلى معيارية الخطأ والصواب" .

وهكذا ينادون بإلغاء كل شيء حتى تصبح الأمة ذات عقلية فارغة لا مبدأ لـها حتى يمكنـهم بعد ذلك تحديد اتـجاهها، وإنشاء مبادئ جديدة لـها ؛ ألا ترى أنـهم يتـفقون جميعاً على استبعاد القديم والسائد والنمطي - كما يسمونه - وإنني أرجو منهم أن يثبتوا لنا شيئاً ، ينصب عليه كلامهم غير ديننا.

أما الأمر الثاني : وهو إثبات أن الحداثة منهج فكري، ذو نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، وعلاقتـها ببعضها وبدايـتها وغايتـها ونـهايتها، وأنه يتخفى تحت مسميات الأدب الجديد والحداثة في الأدب ، فهـذا ما سنتحدث عنه في هذه السطور .

نشرت صحيفة اليوم في العدد 4762 تحقيقاً عن ندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، والذي يهمنا في الموضوع ثلاثة أمور :
الأول : أنه وإن كانت الندوة في الكويت, ولكن صحيفة سعودية نشرت ما دار فيها وأثـنت عليه .
الثاني : أنه مثل السعودية فيـها ـ مع الأسف ـ فوزية أبو خالد، وأسفي هنا لأنها نشرت صورتـها في الصحف الكويتية، ثم في صحيفة اليوم السعودية متبرجة ناشرة لشعرها، بل في بعض الصور وهي تلقي الشعر على الجماهير الكويتية ، ويـجب ألا ننسى أنـها محاضرة لبناتـنا في إحدى الكليات .
الثالث : وهو المـهم ؛ لنستمع لما قال بعض المشاركين في الندوة .... يقول إبراهيم غلوم أحد المتحدثين في الندوة : "إن الحديث لا يـمكن أن يتم إلا في حوار حضاري ديمقراطي، كالمجتمعات الأوربية التي استقرت فيها الحركة الديمقراطية، وإن أطروحة التغيير هنا لا بد وأن تصطدم بالمؤسسات والقوانين والعادات والآداب العامة، وأرى أن الشاعر في الخليج في الوقت الراهن قد عبر عن التـفتح الجديد بقصيدة جديدة، واستطاعت أن تؤدي هذا دون أن تصطدم مباشرة بالرموز المباشرة، وأؤكد أن القصيدة الجديدة ظلت في معزل عن الصدام المباشر مع رموز التخلف، لأنـها تصطنع دائماً رموزا بديلة" .
إذا فهم أصحاب طرح تغييري ولا يمكن أن يكون ذلك إلا لأصحاب مذهب فكري محدد. ولذلك فهو يؤكد أن الصدام بينهم وبين كل شيء في هذه الأرض من قوانين وعادات وآداب بل ومؤسسات، لا بد منه. وأرى أنه عبر بصدق وصراحة عما يعبر عنه كثير من الحداثيين بلف وغموض ومداورة، وهو هنا يتحدث عن لازمة من لوازم المنهج الشيوعي في التغيير، إنه الصدام أو ـ كما يسمونه ـ العنف الثوري . لا يرضون بالتغيير السلمي ولا يقرونه وسيلة من وسائلهم، لكنهم لا يقدمون على ذلك إلا بعد أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم، أما قبل ذلك فهم يتسترون وراء كثير من الرموز قد يكون منها الوطنية، وقد يكون منها الديمقراطية، ولكنهم في النهاية لا بد وأن يقضوا على رموز التخلف كما سماها غلوم، والذي يظهر- والله أعلم ـ أنـهم يستعدون منذ الآن لـهذا الصدام القادم الذي يدفعون الدنيا له دفعا . استمع إلى من اعتبروها ممثلة سعودية في الندوة حين تقول : "إن القصيدة الحديثة التي تحاول أن تؤسس تجربتـها، قد خلعت كل ملابسهاالمهيبة والمنيشنة، والصدام القادم هو صدام على حرية القصيدة" .
وهكذا ما دام أن فوزية أبو خالد قد خلعت لباس الحشمة والوقار ووقفت على المنابر بين الرجال، بلا ساتر ولا حجاب وجلست بينهم في الصفوف، فهي تستعجل أيضاً أن تخلع أفكارها وأفكار رفاقها ملابـسها ونياشينها، لتكون الدعوة إليها مكشوفة معراة بلا غموض ولا شعارات مرحلية بل تستعجل الدخول في الصدام القادم كما تسميه .

وفي مجـلة اليـمامة العدد 901 صفحة 62 يقول أحد الكتاب الحداثيين : "ينبغي أن نخلع جبة الأصول وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة التجربة ونقض الماضي وتجاوزه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تـقترحه من أسئلة، ليس هذا من حق الشاعر فحسب ولكنه حق حياتـنا المعاصرة علينا".
تحت دعوة إتاحة الحرية يسعى الحداثيون لتدمير حياة الأمة الفكرية وثوابتها العقدية، إذ كل شيء عندهم يجب أن نترك للشاعر الحرية أن ينقضه لا أن ينقده فقط، وأن يتجاوزه لا أن يقف عنده فقط، لأن الماضي عندهم ليس أكثر من تجربة، يجب أن تـزاح ويحل مكانها تجربة جديدة، وعندما نلتـزم بنصيحة الحداثي المبدع ونخلع جبة الأصول ونحطم اللغة ونبتعد عن قلنسوة الوعظ، نصبح أمة لا جذور لها ولا ثابت في فكرها ولا حياتها، بل كل شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، العقائد والأخلاق والسلوك، وعند ذلك تكون الحداثة وأهلها قد أدوا دورهم كاملاً، الذي لن يتحقق بإذن الله ما دام في أرض الإسلام من يعي أساليبهم ويرد كيدهم في نحورهـم .

وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في 16/11/1406هـ وشارك فـيها من أعمدة الحداثة محمد العلي, وعثمان الصيني، وسعيد السريحي، وعلي الدميني، وعبد المحسن يوسف، ونشرت الأمسية في مجلة الشرق العدد 369، تبدي كثيرا مما كان يخفيه الحداثيون ... فمثلاً يقول السريحي في تلك الأمسية : "للحداثة مفهوم شمولي، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر، وآخر للقصة وثالث للنقد، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تـهزها هزاً، وتـمنحها هذا البعد الجديد" .

الله أكبر، لقد استبان الصبح لذي عينين، فلم تعد الحداثة مجرد قوالب أدبية وأشكال تعبيرية للشعر والنثر والنقد كما يصرون ويريدون أن يقنعونا كلما أراد أحد أن يعترض عليهم، بل هي منهج شمولي أتوا به لكي يمنح الحياة بعداً جديداً، وينشيء فيها واقعاً جديداً، وهذه لم تكن فلتة لسان من السريحي، بل هناك من أقواله وكتاباته ما يؤكد ذلك . وهم ـ الله أعلم ـ لا يقولون ذلك إلا ليروا مدى رد فعل الناس، حتى يقرروا خطواتـهم القادمة، أو أنهم اطمأنوا إلى أن الناس معهم، أو أنـهم مغفلون لا يعلمون ما يقولون .

ومثل قول السريحي يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما نود أن تقوله علناً" .

إنـها حقائق خطيرة تتجلى لنا في كتابة الحداثي أحمد عائل، لا بد أن يعيها كل مسلم غيور على دينه وبلاده رافضاً لما يخطط الأعداء لـها من محاولات إفساد وتدمير، ومن هذه الحقائق :

1- أن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلاميـة وقيـم إيمانيـة .
2- أنهم في حيرة من أمرهم، كيف يمـكنهم تغيير هذه القيم الأساسية في المجتمع وتـجاوزها وتخطيها إلى ما يريدونه من قيم أخرى .
3- أنـهم لا يسعون لتجاوز بعض الأمور الـهامشية، بل إنـها حقائق ومسلمات لدى المجتمع المسلم راسخة عنده رسوخ الرواسي، ولا يرضى بـها بديلاً.
4- وأخيراً فإن للحداثيين أحلاماً وتطلعات، إلى أن يأتي اليوم الذي ينادون فيه بكل أفكارهم علناً وصراحة، بعيداً عن الغموض الذي يتـلفعون به الآن في الجملة .

أخي القارئ قارن بين هذا الكلام، وكلام فوزية أبو خالد وإبراهيم غلوم الذي ورد قبل قليل لترى بوضوح أن الأهداف واحدة, والغاية في النهاية هي تغيير المجتمع وتبديل مسلماته وقيمه . ولكي تتحدد لك بعض ملامح هذا التغيير ننقل لك ما قاله السريحي في صفحة 37 من كتابه ... يقول : "وهذا التوتر هو السمة الأساسية التي لو لم تتحقق لحق لنا أن نشك طويلاً في قيمة ما يقدمه هذا الفنان أو ذاك، وهو محصلة طبيعية لما يشكله الفن من مروق على عرف الجماعة، وخروج عن معياريتها السائدة في الرؤيا أولاً، وفي التغيير أخيراً" .
هل رأيت أيها القارئ أن طنطنتهم بأن اختلافـهم مع غيرهم إنـما هو في أشكال التعبير, إنها مجرد كلام فارغ ومخدر مؤقت، وأن السريحي يؤكد أن هذا الاختلاف لا يأتي إلا في الأخير، أما الاختلاف الأول مع المجتمع والمروق على أعرافه فيجب أن يكون في الرؤيا، بل إن السريحي يؤكد أن الفنان المبدع لا يستحق ذلك الاسم حتى يخرج عل المألوف ويحارب المعروف، ويعلن أن المجتمع ـ أياً كان هذا المجتمع ـ يجب أن يتبعه أينما سار .
يقول السريحي : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة له عنه، وإن آمن في ظاهر الأمر أو باطنه بكل أعرافـها، وخضع لكل تـقاليدها في حياته العامة" .

ولا يكتـفي السريحي بالتأكيد على أن الأدب يجب ـ حتى يستحق منه شهادة بأنه أدب - أن يخرج عن إطار المجتمع العام وأعرافه وقيمه، بل يؤكد ـ وهو الناقد الكبير كما يسمونه ـ في صفحة 78 من كتابه, أن الوعي الجيد يجب أن يتجرد من المقومات العقلية، وذلك في قوله : "وهذا يعني ثـناء إزاء وعي جديد يتجرد من المقومات العقلية للوعي" .

وهذا يعني أنه لا يكفي أن تُغطى قيمنا وديننا وأخلاقنا وأصولنا إجازة، بل لا بد أيضاً أن نلغي عقولنا ونـمنحها إجازة، وربـما كان ذلك عطفا ورأفة من السريحي علينا حتى لا تصاب رؤوسنا بالصداع والدوار من بلائهم وغثائهم، وحتى يستطيع أن يدخل فلسفة هيجل في عقول أجيالنا والتي استشهد بـها في صفحة 39, حين قال : "إن الرؤيا الإبداعية هي تحرر الروح من أسار الضرورة، وانطلاقها وراء حدود الإمكان، وتشوقها نحو المثالي، وسعيها باتجاه المطلق، وذلك هو جوهر الفن كما يراه رائد الجدلية المثالية هيجل" .

هل رأيت الغرام والاستشهاد بما يراه هيجل الفيلسوف المادي الملحد ؟ بل إن التأثر به في كتابات السريحي واضح كل الوضوح . فمثلاً استمع إليه حين يقول في صفحة 38 من كتابه : "هذه الرؤيا الإبداعية تـنبثـق من خلال العلاقة الجدلية التي تربط الذات بالعالم الذي يحيط بـها" .
هذا هو البعد الشمولي لـمفهوم الحداثة الذي يريد السريحي أن يهـز به الدنيا هزاً من كتـفيـها !!

وفي صحيفة الرياض العدد 6714 الصفحة 7 كتب فهد العتيق تحت عنوان (حول الخصوصية في الإبداع والكتابة خارج الزمن) - وهم هكذا دائما يكتبون خارج الزمن وخارج الأقواس وخارج المألوف، بل وخارج المعقول أيضاً، وما أظن هذه الرموز والرمزية أصبحت خافية على القارئ بعدما تقدم - المهم أن مما كتبه العتيق في تلك الزاوية (اقرأ) مفهومها للخصوصية الإبداعية : "إنـها باختصار تحقق لإمكانية النص باعتبارهما منتـوجاً ثقافياً لا معدى له عن الانصياع لجبروت الزمن التاريخي، وهو اجتماعي في جوهره ، لأن حركية الصراع الاجتماعي تختلف اختلافاً ملحوظاً من بقعة إلى بقعة أخرى في المساحات الطبوغرافية الضيقة " .

أرأيت أيـها القارئ أن الحديث عن الحتمية التاريخية والصراع الطبقي، وما أظنك تحتاج لإيضاح أكثر من هذا في تحديد الملامح الفكرية لـهذه الحداثة . ولتأكيد ذلك يقول أحمد عائل فقيه في صحيفة المدينة العدد 7147 الصفحة الأولى من المدينة الثقافية : "كان حضور هذه القصيدة قد حسمته ظروف اجتماعية وتاريخية، فكان ميلاد هذه القصيدة، لقد كان حضورها هو نتاج الظرف التاريخي، ونتاج قطيعة معرفية، وهي محاولة كتابة واقع جديد، وكذلك إلغاء الآخر" .

هل تريد أيها القارئ أن تعرف ما هو الواقع الجديد الذي يسعون لكتابته في الحياة ؟ انظر لما قاله على الدميني في نفس الصفحة، وكان مما قال : "إن الشعر المستـقبلي سيصبح شعراً خالصاً صافياً من شوائب المديح والهجاء والغزل الفج ، وبعيداً في اهتماماته عن الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنني أرى أن ذلك الطيف الذي لا بد أن يتحقق في المستقبل المتخيل أو المنشود يحتاج إلى عمل شعري يتعانق مع حركة المجتمع وسعيه إلى بلوغ وضع اجتماعي جديد لا تعود فيه الهموم السياسية والاقتصادية هموماً ملحة وإنما تغدو منتـفية بأن ضروراتها الحياتية تكون حينذاك قد أنجزت وبلغ الإنسان فيها مشارف المدينة الفاضلة والعلم الأرضي الجميل" .

وهكذا في وضوح لا غبش فيه يبشر الدميني بالمستقبل المنشود والحلم الذي يرى أنه لا بد أن يتحقق في هذه الحياة، وإنني أتساءل : ما هو الفرق بين هذا الحلم وبين جنة الشيوعية الأرضية التي تعد بها البشرية على الأرض حين تعم دولتهم العالمية ـ كما يزعمون ـ وعندها ينتهي الصراع ومبرراته، وبالتالي تـنتهي الهموم وتكون المدينة الفاضلة ؛ لكن الناس يعلمون أن الشيوعية حولت أي أرض نكبت بـها إلى جهنم الحمراء .

وفي مقابلة أجرتـها جريدة الرياض العدد 6794 الصفحة 12 مع عبد العزيز المقالح ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الحداثة منهج فكري شامل يسعى للتغيير، يقول المقالح عند حديثه عن الأدباء الشباب : "وما يلفت الانتباه في تجربة هؤلاء الشبان أنهم لا يخضعون للثوابت ولا يجترون التعابير الشائعة والمبتذلة والسطحية ، مع حرصهم العميق على الربط بين الإبداع وضرورة التغيير" .
إن ما قلناه عن أهل الحداثة قبل قليل يؤكده المقالح هنا ، وهو تحطيم الثابت وضرورة التغيير .

وفي المدينة المنورة العدد 7210 ، لقاء مع شاعر تونسي حداثي اسمه المنصف المزغني، تحدث عن بعض زملائه الحداثيين عندنا، وبين أن رؤيتهم واحدة وإن اختلفت عباراتهم, وذكر أنهم يتجاوزون الحدود العربية في هذه الرؤية، يقول المزغني : "محمد الحربي، خديجة العمري، وعبد الله الصيخان، أصوات ثلاثة تُـغمس أقلامها في محبرة الحداثة، وتكتب متجاوزة حدودنا العربية ... أصوات ثلاثة ائتلفت في الرؤية والرؤيا، واختلفت في العبارة" .
وهذه الشهادة وإن اعتـز بها الحداثيون، لكنها في نظرنا شهادة إدانة لهم, وكشف عن هويتهم الفكرية التي لا تمت لأمتنا بصلة، ولا لواقعنا بعلاقة بل هو خلاف كل ذلك . ويقول الغذامي في عكاظ العدد 7566 الصفحة 7 : "من شرط الإبداع أن يكون فوق السائد والمألوف، وهو يرتـقي بمقدار تجاوزه لظروفه، مثلما أنه يتـناقض بمقدار تماثله مع تلك الظروف" .

ولكي تدرك ما هي الفوقية التي يطالب بـها الغذامي المبدع ـ كما يسميه ـ انظر إلى مقالة في نفس الصفحة لم يذكر اسم كاتبها، وعنوانها (في اليوم المحاميد والثابت المعنوي) والمقالة تـناقش ما كتبه خالد المحاميد الكاتب الحداثي في صحيفة اليوم قبل ذلك، وكانت الأسماء التي وردت في المقالة للاستشهاد بأقوالهم هم : تايلور، وشتراوس، ومالينوفسكي، وراد كليف براون، وهربرت ماركوس، ومما ورد في المقالة قول الكاتب : "ثم لماذا هذا الفصل غير المنهجي بين الثـقافة والحضارة، هل هو نتاج من نتاجات المرحلة البرجوازية، كما قد ذهب هربرت ماركوس من قبل في تحليله لإشكالية هاتين الكلمتين في الحضارة الغربية قائلا ما معناه : إن الفصل بين الثقافة والحضارة هو نتاج المرحلة البرجوازية" .

وهكذا تـنقل المصطلحات الغربية إلى واقعنا مهما كان يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه تلك المصطلحات، وذلك أن الحداثيين جعلوا من شروط الإبداع أن نكون فوق السائد والمألوف؛ ولا أعلم في أي المراحل يصنف قسم من الحداثيين مجتمعنا ـ حسب فلسفتهم ـ إقطاع ثم برجوازية ثم بروليتاريا، وهذا المنهج القائم على فلسفة النقيض لكل ما هو موجود، والذي يستمد جذوره الفكرية من مناهج فلسفية مادية عانت منها البشرية الويلات، وهذا الكلام الذي أقوله له ما يؤكده في كلام كثير من الحداثيين . ومن ذلك قول الغذامي في عكاظ العدد 7517 في دراسة عن شعر الثبيتي قال فيها : "وفي المقابلة الأولى ـ مقابلة أجريت مع الثبيتي ـ كانت الخـلفية الشعرية واضحة المعالم، وكانت تـنم عن مشاعر مجرب يعرف ما هي القصيدة، ويعلم أنها عالم معقد, عالم واسع مشروع غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين غامض، وأنها دخول في الزمن، وأنها مسافة شاسعة بين الواقع وبين الحلم، وهي لذلك لا علاقة لها بالواقع لأنها واقع نقيض هو الحلم في النهاية" .

ونحن حين نؤكد بأن الحداثة والحداثيين ظاهرة مناقضة لعقيدتنا وأمتـنا، فإننا لا نتهمهم بل نقرر ما خطته أقلامهم ونشرته ملاحقهم الأدبية في الصحف السيارة، وإن كان بعضهم يستعجل نتائج التغيير، ويستبطئ مسيرة التطور، ويرفض المرحلة، فإنما يعبر عن صدق في التعامل من المنهج الحداثي، ومن ذلك قول عبدالرؤوف الغزال في عكاظ العدد 7461 : "هناك قناعات خاصة بي، بدأت تتبلور في وعيي، وهي عن جدوى النقد المطروح في الساحة، معظمه نقد اللحظة الآنية، هو مجرد تعليق على قصيدة نشرت في صحيفة، أو قصة ألقيت في أمسية عابرة، وذلك غير مجد بتاتاً، قد يقول البعض : إن ذلك ضرورة مرحلية، لكنها مرحلية أن يتأسس عبرها فكر نظري أو نقد تطبيقي، يجب أن يتهيأ نقاد وباحثون يشتغلون على مشاريع متكاملة، يؤسسون عبرها المتغيرات الاجتماعية في المستقبل" .

إن هذا الكلام الذي قاله الغزال يعبر بكل وضوح عن فهم الحداثيين للأدب والنقد، وأنه يجب أن يقوم بدور تغييري في المجتمع، وأن يتجاوز المرحلة التي يعيشها، لكنه بعد ذلك يؤكد أن ذلك لن يتحقق إلا من خلال تراكمات تاريخية حادة - كما يقول - وهذا الكلام يتطابق تماما مع المنهج الماركسي في التغيير، ويستخدم مصطلحاته مثل: المرحلة ـ المرحلية ـ التغيير الاجتماعي ـ التراكم التاريخي الحاد ـ . ويأتي أحمد عائل فقيه في صحيفة عكاظ العدد 7468 الصفحة 5 ليسخر من أولئك الذي لا زالوا يظنون أن الحداثة منهج أدبي لا منهج فكري، ويقول : "إن الحداثة ليست كتابة نص إبداعي فقط، وإنما هي موقف صارم وحاد إزاء الكثير مما هو راكد ومؤسي ... لقد صنعت أهميتها وحضورها المضيء، وأشعلت السؤال الكبير في أذهان الذين هم يقـفون خارج المرحلة، لأنها تجاوزت الرؤيا التي يمتلكونها والهم الاجتماعي الذي يحملونه أيضاً … إن مصطلح الحداثة أخذ شكلاً مطاطيّاً جعل أنصاف المثقفين، وجعل هؤلاء الذين يقفون ضد حركية الزمن يتحدثون دون وعي عن هذا المصطلح، فهو عندهم لا يتجاوز القصيدة فقط، فهو يرى أن الحداثة ـ فقط ـ مرتبطة بالقصيدة، وبوعي مثـقوب وممخور أيضاً، إنهم لا يدركون أنها رؤية شمولية للعالم، للحياة، لأشياء تُرى، لأشياء لا تـُرى ألبتة" .

هذه الشهادة التي أدلى بها رمز حداثي، لا تحتاج إلى بيان وإيضاح، بل هي توضح نفسها، وتحدد ما هي الحداثة التي لا زال البعض يظنها أسلوباً للكتابة فقط . وتأتي الشهادة مرة أخرى في نفس العدد من عكاظ الصفحة 7 حين كتب ماجد يوسف يقول : "وأؤكد للكاتب أن إدراك ما فاته يحتاج بالفعل إلى درجة عالية من الصبر وكبح جماح النفس، لسبر غور التجربة أو الحركة الجديدة، المغايرة والهادمة للسائد والمألوف، المستتب والمعروف" .

وتستمر صحيفة عكاظ في إيضاح ملامح المنهج الحداثي وتـحديد أبعاده الفكرية، ففي العدد 7490 الصفحة السادسة, مقابلة مع شاعرة لبنانية حداثية اسمها : نهاد الحائك . صدرت المقابلة بصورة الشاعرة، وفي جانب الصورة تقديم للشاعرة وتعريف بـها، ابتدأته الصحفية بقولـها : "صوت شعري يأتي ليخترق العادي، ويكسر كل ما هو مألوف" , وهذا هو المهم والمبرر لتقديم الشاعرة، والإشادة بـها أن تكسر المألوف، ثم كان من الأسئلة التي طرحت على الشاعرة السؤال التالي :
"ماذا تعني الحداثة لك ؟ هل هي موقف فني وفكري شامل من الحياة والمجتمع ، أم موقف فني جمالي فقط ؟ "
وكانت الإجابة من شاعرتـهم الحداثية قولها : "الحداثة طبعاً هي موقف تحرري" .

وحين تقدم الصفحة الأدبية من العدد 7524 من عكاظ خبراً عن ديوان الشاعر الكويتية الحداثية سعاد الصباح، توجه لـها عتاباً لأن قصائدها كما تقول عكاظ : "تظل تحمل في تضاعيفها تقليدية النظرة إلى الحياة والعالم" . وهذا تأكيد على أن للحداثة نظرة جديدة للحياة والعالم تخالف ما قرره الإسلام سلفاً .

وفي العدد 7489 من جريدة عكاظ الصفحة 5 يكتب أحمد عائل فقيه عن روايات اليساري عبد الرحمن المنيف ويؤكد أنها تعبر عن الإبداع بصدق, يقول: "المعوقات التي تأتي في صميم الواقع الاجتماعي، وكل التـناقضات الماضوية" ، وطبعا ما دام هناك تناقضات ماضوية ـ كما يقول ـ فسيكون نتيجة الصراع بين التـناقضات ظهور نقيض النقيض، وهو هنا الإبداع الحداثي، الذي يطمعون أن يؤدي إلى ما تمناه الدميني في الحديث السابق الذي نقلناه عنه، وهذا المنهج والمصطلحات لا تخفى أصولها الفكرية على أحد، ونحن حين نؤكد أن الحداثة منهج فكري شامل له نظرة خاصة في الحياة وأنـهم حين يضطرون للتعمية والغموض حتى لا تـنكشف لعبتهم قبل أوان كشفها، فإنـهم يقولون : إن الحداثة منهج أدبي وأسلوب للكتابة لا علاقة له بالأفكار المطروحة، وأن هذا المنهج يمكن أن يكتب به المسلم والملحد .

لكن يأبى الله إلا أن يكشف زيفهم وتظهر رائحة أفكارهم تـزكم الأنوف المؤمنة، وبين الغموض والمناورة والتطلع إلى الدعوة لأفكارهم صراحة يظهر المخبوء، فتـقيم صحيفة عكاظ في العدد 7412 الصفحة 9 ندوة بعنوان (نحو مفهوم شمولي للحداثة) وتجمع لـهذه الندوة من يمكن أن يقال إنـهم أعمدة الحداثة ورواد فكرها في البلاد والمنافحين عنها وهم: محمد العلي، وعبد الله الغذامي، وسعد البازعي، وعالي القرشي، وعثمان الصيني، وعبد الله الصيخان، وإليك بعض المقتطفات مما قيل في الندوة لتدرك بعد ذلك ما معنى الحداثة عند الحداثيين .

يقول العلي : "لا شك أن الشروط الاجتماعية التي أفرزت الحداثة الغربية ليست متوفرة لدينا، ولا يمكن توفرها إلا بعد عقود عديدة, فالحداثة هي ذلك الإفراز الجدلي الذي يتم بين السياقات، ووفق صراع لا يدرك بالعين المجردة, ذلك الإفراز الجدلي المتـقدم إلى الأجمل والأعمق في رؤية الإنسان والحياة هو ما أسميه وأعتقد بأنه الحداثة" .
إذاً فهو ـ أولاً ـ يعترف بأن الحداثة نبات غريب على أرضنا وحياتـنا، ولذلك فإن الواقع الاجتماعي عندنا يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه الحداثة، لكنه يتوقع أن يصبح واقعنا مثل ذلك الواقع بعد سنين، وبالتالي فإن الحداثة عندهم هي الإفراز الجدلي الناتج عن الصراع الخفي في المجتمع، والتي ستؤدي بالمجتمع إلى رؤية جديدة للإنسان والحياة، وأرجو من أحد فصحاء الحداثة أو غامضيها أن يسعفنا بتفسير لـهذا الكلام، نستطيع أن نفرق به بين كلام العلي، وما يقوله الديالكتيك الماركسي في تطور المجتمعات .
أما قضية أن الحداثة رؤية جديدة للإنسان والحياة، فهذه لا تحتاج إلى أي استـنباط من كلام العلي، والعلي ـ هنا - يتفق تماماً مع ما سبق وأن طرحه الدميني وأحمد عائل .

أما الغذامي فقد أعلن نفسه في تلك الندوة حكما يحدد من المثـقف ومن الذي يجب أن يحرم من لقب الثقافة فقال بالخط العريض : "إمّـا أن يكون المثقف حداثياً أو لا يكون مثـقفا" .
وهكذا بكل بساطة ألغى الغذامي كل ما في هذه البلاد من علماء ومفكرين وأساتذة وجامعات ما داموا لا يجرون خلف عربة الحداثة، ويحرقون البخور حولها ولا يشيدون بالملاحدة والفجار الشاذين . وإننا نسأل الغذامي متى أصبحت أفكار بلزاك، وبارت، وبيرس، وشتراوس، وأمثالهم من أساتذته معياراً وميزاناً لتصنيف المثقفين من غيرهم في بلادنا وتحديد مواصفات ومقاييس الثقافة ؟؟! لقد حضرنا كثيراً من أمسيات الحداثيين المثـقفين عند الغذامي، ووجدنا بعضهم لا يفرقون بين الفاعل والمفعول، والاسم والحرف، بل رأينا وسمعنا بعضهم يسبقون الفعل المضارع بحروف الجر .

أما سعد البازعي فيؤكد ما تصدينا هنا لإثباته، وهو أن الحداثة نظرة شمولية جديدة للحياة كلها بمختلف جوانبها، وذلك في قوله : "الشيء الذي لا نزال نفتـقده أو يفتـقده منا في تصوره للحداثة، هو أساسها الفلسفي الذي يمنحها إطاراً شموليا، لا تـمثل فيه التغيرات الأدبية والفنية سوى جانب واحد … إن التصورات الأدبـية المعاصرة، شكل القصيدة أو اللوحة ليست إلا جزءاً من كل ، الحداثة رؤية شمولية للحياة" .
ويأتي القرشي ليؤكد هذا الكلام الذي قاله البازعي فيقول : "الحداثة فعل شمولي بحياة الإنسان" .
وكذلك الصيخان يقول : "إنـها (أي الحداثة) موقف شمولي من العالم ونظرية تطوره، ولا يمكن أن نفصل هنا بين تطور الفن وتطور الحياة" .

ويأتي عثمان الصيني فيكون أكثرهم صراحة - ربـما لأنه أقلهم إدراكاً لخطورة ما يقول في مثل مجتمعنا - حين قال : "إن الشمولية التي تميز الحداثة وتجعلها تتغلغل في جميع مناحي الإنسان والحياة، هي التي تجعل منها ضرورة ملحة للوجود، فهي تعيد تركيب علاقة الإنسان مع نفسه ومع العالم الخارجي، إمّا بالتعرف على الأشياء بصورة جديدة، أو إعادة خلقها من جديد، أو بابتكار مغاير للسابق، وذلك نتيجة لما تـقوم به من تعميق للوعي بـمخاطر الثبات وسلبيات السكون، وبالتالي الكشف عن الضرورة الملحة لمستويات التحرر المستمر من ربقة الإلف والعادة، وجنائزية تصنيف المدركات، والتكييف الأبدي لمعطيات الإنسان والحياة، وتتصف بشغف يصل إلى حد الهاجس بالحالية المتغيرة، والدخول في تجربة التغيير المستمرة، فهي عملية تحرر مستمرة، وثورة دائمة للوصول إلى الفاعلية الحرة، والنشاط المطلق، وبـهذا التصور لا تصبح الحداثة استلابا أو إسقاطاً يعيشه الفرد والمجموع ، إنما كينونة لا محيد عنها ووجود لا يتم إلا به" .
إن كلام عثمان الصيني هنا لا يحتاج إلى تعليق، بل إنه قال فيه كل ما أردنا أن نقوله هنا، من أن الحداثة منهج حياة جديد يسعى دعاتها لإحلالها مكان الإسلام عقيدة وسلوكاً ونظاماً للحياة في هذه البلاد، ولولا أن يظن القارئ أن هذه رؤية فردية خاصة لما حشدت جميع النقول السابقة، والتي ما هي في الحقيقة إلا غيض من فيض وقليل من كثير وأنت عندما تـقـلب أي عدد من أي صحيفة وصل إليها داء الحداثة، ستسمع نفس النغمة وتقرأ نفس الأفكار . فمثلاُ استمع إلى فايز أبا في عدد 7594 من عكاظ صفحة 8 وهو يقول : "الإبداع ليس غيبوبة تامة، فلا بد من موقف واع ، ورؤية مستـقبلية تجاه الكون والحياة والحركة الاجتماعية، التي أفرزته ليفرز وعياً يفرزها" .

وأرجو ألا يكون في القراء من يستبعد ما أردنا بـهذه النقول الكثيرة أن نثبته، من أن الحداثيين أصحاب فكر له نظرة خاصة للحياة والكون والإنسان، وأنـهم يسعون لكي يفرز هذا الفكر حركة اجتماعية خاصة، ولا شك أن ذلك سيؤدي إلى تغيير كل شيء في الحياة، وقد مثل فايز أبا لرموز هذه الحركة الإبداعية التي يتحدث عنـها بـمحمد العلي، وعلي الدميني، ومحمد الثبيتي، والدكتور أحمد الشويخات .





بعض مواقف الحداثيين لدينا من الإسلام وقيمه

بعـد أن تأكد لدينا من خلال ما تقدم، أن الحداثة منهج فكري متميز يسعى لتغيير واقع الحياة ليتـفق مع ما يطرحه ذلك الفكر من مفاهيم وأساليب للحياة، ومن نظرات خاصة لصياغة الإنسان وفق معطيات ذلك الفكر، فإن ما يـهمنا ـ نحن المسلمين ـ هو معرفة موقف هؤلاء الحداثيين من الإسلام، باعتباره ديننا ونظام حياتـنا، ومنهجنا الذي نعتـز به في هذا الوجود، ولا نرى الحق في شيء سواه في شتى مناحي الحياة الفردية والجماعية والعامة والخاصة، ونرى ألا سعادة للبشرية ولا نجاة لها في الدنيا والآخرة إلا في اعتـناق هذا الدين وأخذه تاما غير ناقص، كما بلّغه محمد صلى الله عليه وسلم . وإنني أحب لفت الانتباه إلى أن موقفهم المعلن - ولا أقول موقفهم فقط ـ من الإسلام يختلف من بلد إلى آخر حسب ظروف ذلك البلد، ومقدار قوة التدين فيه وضعفه، ولو أردنا أن نتحدث عن مواقفهم جميعاً من الإسلام لاحتاج ذلك إلى أسفار ضخمة، لكنني في هذا المبحث أعرضُ عن مواقف الحداثيين من خارج هذه البلاد، وأذكر بعض مواقف الحداثيين عندنا من الدين، وهم وإن كانوا ـ ولله الحمد ـ لا يستطيعون أن يجاهروا هنا بما يجاهر به إخوانـهم في الغي هناك، إلاّ أن الإسلام لم يسلم من أذاهم، ولو لم يكن من حربـهم له إلا إعلانـهم عن مبدأ جديد اسمه الظاهر الحداثة، وحقيقته الباطنة يعلم الله بها، وتصريحهم بأن هذا المبدأ له رؤية خاصة للكون والحياة والإنسان، وأنه يمنح الحياة بعداً جديداً يـهزها هزا؛ أقول لو لم يكن إلا هذا لكفى به حرباً للإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ونظام حياة، ومع هذا ففي أقوالهم وكتاباتـهم من الحرب لدين الله الكثير غير هذا مما يمكننا أن نستعرض بعضه هنا . وهذه الحرب لـها مظاهر شتى منها : الاستهزاء بالإسلام كدين، ومنـها النيل من رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه الكريم، أو الحط من التاريخ الإسلامي، أو نشر الرذيلة وسوء الأخلاق مما يتـنافى مع ديننا، أو الترويج لبعض الأفكار التي الأخذ بـها يؤدي إلى ضياع أمتـنا، وإهدار تـميزها وتـفردها الذي كرمها الله به .
ولذلك أمثلة كثيرة منها قصيدة حداثية من الشعر الحر لـمحمد جبر الحربي الشاعر الحداثي المبدع كما يسمونه، وهذه القصيدة ألقيت في مهرجان المربد بالعراق بعنوان (المفردات), ثم نشرت في اليمامة في العدد 887 صفحة 60ـ61 ثم نشرت في الشرق الأوسط، الصفحة 13 وهذه القصيدة مليئة بالثورة والتبرم من كل شيء، وفيـها غمز ولمز في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي القرآن، فمن غموض هذه القصيدة قوله :

( قلت لا ليل في الليل ولا صبح في الصبح
منهمر من سفوح الجحيم
وقعت صريع جحيم الذرى
سألك جسد الوقت معتمر بالنبوءة والمفردات المياه
أيـها الغضب المستتب اشتعل
شاغل خطاك البال منحرف للسؤال
أقول كما قال جدي الذي ما انتهى
رأيت المدينة قانية
أحمر كان وقت النبوءة
منسكبا أحمر كان أشعلتها)
من هو يا ترى جده الذي انتهى والذي كان أحمر وقت النبوءة، وما هي المدينة القانية، وما هو الأحمر المنسكب الذي أشعله الحربي أو جده .

أما مواطن الغمز واللمز في هذه القصيدة فمنها قوله :

( أرضنا البيد غارقة
طوف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الـهاشمي
فدانت لعاداته معبدا )
أسئلة نوجهها للحربي ليجيب عليـها وليجلب بخيله ورجله، ويستعين بالمبدعين والنجوم المتجاوزين للسائد والنمطي كما يسميهم : لماذا أرضنا بيد قاحلة لا نبات فيه ولا ماء ؟ وما الذي أغرقها ؟ وفي أي شيء هي غارقة ؟ وما هو الليل والظلام الذي عم أرجاءها ولم يترك منها زاوية ؟ ومن هو الهاشمي الذي كساها بعسجده فدانت لعادته معبدا وحولها إلى أرض قاحلة غارقة في الظلام .
أيقال هذا الكلام في حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرفت به هذه البلاد بل كرمت به البشرية، وهل كان صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن ربه سبحانه وتعالى، أم أنـها عاداته ألزم الناس بـها حتى تحولت البلاد إلى معبد لعاداته فأصبحت بيداً غارقة ؟!
إنني أتحدى الحربي أن يخرج لنا هاشميا يمكن أن يقال إن عاداته أصبحت عبادة للناس غير محمد صلى الله عليه وسلم .

ثم يقول داعياً إلى الثورة والتمرد على كل شيء ومستهزئاً بالقرآن وتعاليمه :

( بعض طفل نبي على شفتي ويدي
بعض طفل من حدود القبيلة
حتى حدود الدخيلة
حتى حدود القتيلة
حتى الفضاء المشاع من رجال الجوازات
حتى رجال الجمارك
حتى النخاع يـهجم الخوف أنى ارتحلنا
وأنى حللنا
وأنى رسمنا منازلنا في الهواء البديل
وفي فجوات النـزاع باسمنا
باسم رمح الخلافة
باسم الدروع المتاع
اخرجوا فالشوارع غارقة والملوحة في لقمة العيش
في الماء
في شفة الطفل في نظرة المرأة السلعة
الأفق متسع والنساء سواسية منذ تبّـت وحتى ظهور القناع
تشتري لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
وما يهـمني أن أقوله هنا هو التـنبيه إلى إفكه الذي افتراه بأن النساء كلهن أصبحن سلعاً تشترى وتباع منذ تَبَّت, وهذا لا شك إشارة إلى نـزول القرآن، وخاصة سورة المسد التي تحدثت عن امرأة أبي لهب المشركة التي يرى الشاعر الحداثي أن حديث هذه السورة الكريمة عن تلك المرأة، امتهان لكرامة المرأة وتحويل لـها إلى سلعة تشترى وتباع .
أما السبب الثاني الذي حول المرأة في نظرة إلى سلعة فهو ظهور القناع ، وهذا إشارة واضحة للحجاب الذي أمر الله به المؤمنات :
( منذ تبت وحتى ظهور القناع
تشترى لتباع وتباع وثانية تشترى لتباع )
إنني آمل من علماء البلاد أن يقولوا كلمة الحق في هذه القضية، وأن يؤدوا كلمة البلاغ والبيان التي كلفهم الله بـها، وأن يتذكروا يوماً يقفون فيه بين يدي الواحد القهار .
إن الحربي يريد من بناتـنا ونسائنا أن يخرجن متبرجات ملقيات للحجاب الذي فرضه الله، يختلطن بالأجانب من الفساق ويجلسن بينهم في الصفوف، وبـجانبـهم على المقاعد، كما حصل في مهرجان الشعر الخليجي الذي أقيم في جامعة الكويت، والذي نشرت صور المشاركين والمشاركات فيه في جريدة الوطن اليسارية الكويتية في العدد 4041 الصفحة 25، والذي يعلم الحربي قبل غيره ماذا كان فيه حين كانت تجلس خديـجة العمري بجوار أحمد الربعي الشيوعي الكويتي، ثم اعتلت المنبر هي وفوزية أبو خالد يلقين ما يسمى بشعر الحداثة مكشوفات الرؤوس ، فضلا عن الوجوه بين الرجال .

ومن صور الاستهزاء بـهذا الدين ما كتبه محمد العلي في مجلة الشرق عدد 362 الصفحة 38 عن المغني معبد، وعن أزمة الفن كما يقول في بلادنا، والتي أورد فيها فكرته بأسلوب ساخر بطريقة المسلمين في حفظ السنة النبوية الكريمة حين قال :

( حدثنا الشيخ إمام
عن صالح بن عبد الحي
عن سيد ابن درويش
عن أبيه، عن جده قال :
"يأتي على هذه البلاد زمان
إذا رأيتم فيه أن الفن أصبح جثة هامدة فلا تلوموه
ولا تعذلوا أهله
بل لوموا أنفسكم
قالـها وهو ينتحب
فتغمده الله برحمته
وغفر له ذنوبه )
هذا الحديث الذي نسجه خيال العلي ، ألم يـجد طريقة يتحدث بـها عن الغناء والمغنين ، إلا أن يقلد سند حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يقلد الحديث الشريف ذاته في ألفاظه .

ويأتي دور اليمامة في العدد 879 الصفحة 81 فيكتب سعد الصويان قائلاً : "من ينادون بدراسة الأدب الشعبي مثلهم مثل شعراء الحداثة والفنانين التشكيليين وغيرهم من الفقراء والمساكين، الذي تحوم حولهم الشبهات، وتوجه إليهم الطعنات، ليسوا في الحقيقة إلا أناس آلمتهم أعناقهم من النظر إلى الخلف، ومن الطأطأة أمام سلطان التاريخ، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتـقليد، فحاولوا كسر الأغلال، وتجرحت معاصمهم من قيود العادة والتـقليد، فحاولوا كسر الأغلال ، وتجرأوا على رفع الرؤوس والتطلع إلى المستقبل . إنهم أناس سئموا الركض في الطرقات المسدودة، وملوا الرقص على الأسطوانة المسحولة . وإنه لمن دلائل العقم الفكري والقحط الثقافي، أن نبذر الوقت ونهدر الجهد في بحث شرعية هذه الاتجاهات واستصدار فتاوى بحق من يتعاطاها …. أيها الأوصياء والأولياء اتركونا نقفز ونلعب ولا تخافون علينا من السقوط، دعونا نأكل التفاحة، ولا تسارعوا بوضع أيديكم على أعيننا واتشاح مآزركم فلقد كبرنا وأصبحنا نعرف ما تخفيه المآزر" .
أي شيء يا ترى يجمع بين أهل الحداثة والصويان داعية الأدب الشعبي الذي حضر رسالة الدكتوراه في أمريكا في الفلكور الشعبي وينادي بإحلال العامي محل الفصيح ؟! أليس الأدب الشعبي من التاريخ والعادي والتقليدي الذي ورث من الأقدمين ؟ وكيف تبناه الصويان وحارب ما عداه الذي هو الإسلام واللغة العربية، وما هو الخلف والتاريخ الذي يشكو الصويان من ألم الأعناق وطأطأة الرؤوس بسبب النظر إليه، وهل هناك تاريخ يستحق أن ننظر خلفنا له غير هذا الدين الكريم، وهل في حياتـنا المعاصرة ما نـفخر به غير تاريخنا المجيد الذي يأتي الصويان طالباً منا أن نهدره ونتحرر منه، وما هي الطرقات المسدودة والقيود والأغلال التي يشكو منها ويطالب بتحطيمها، وهل هناك شيء غير أعرافنا وعاداتـنا المحكومة بديننا وشريعتـنا التي يرفض الصويان أن نحتـكم إليها لمعرفة اتجاهاته التي وفد بها إلينا حتى يكون في مأمن من المحاسبة والرد والنقـض لباطله، وما هو يا ترى الذي أصبح الصويان يعرفه مما تخفيه المآزر، من هم الأولياء والأوصياء الذي يطالب بإبعاد وصايتهم عن أصحاب الاتجاهات الحداثية، لعل الصويان أن يسعفنا ببيان شافٍ لـهذه التساؤلات .

وفي مجلة اليمامة أيضا العدد 906 صفحة 79 كتب عبد الله الزيد يستهزئ ويتضجر من أصحاب الثقافة التراثية، وذلك حين قال : "أدركنا من الجانب الآخر مدى المعاناة والاكتئاب والامتعاض من نوعيتين في ساحتـنا الثقافية . الأولى : من المتقدمين بالليالي والأيام والأجداد الذين يعيشون بيننا" .
ولا غرو أن يقول الزيد هذا فهم يسمون أصحاب العلم التراثي "المحنطين"، ويُسمون في بعض البلاد الأخرى الرجعيين، والسبب هو ما يحملونه من أفكار ودين وعقيدة، أما المنسلخون من دينهم، فإن الحداثيين يهللون لهم ويشدون بهم كما فعل الزيد نفسه في اليمامة العدد 907 صفحة 63 حين أشاد برسالة وصلته من أحمد الغامدي من الطائف، وقال : "أبتهج بهذه الرسالة وأحتفل بها بجانبين, الأول: أني أنقلها كاملة دون حذف لوجه الأمانة والصدق . والثاني : أني أقدم أنـموذجا مفرحا للمتـلقي الفنان الذي نبحث عنه ونفتخر به". وحتى تعرف أي نوع من الكتاب هذا الذي يبتهج به الزيد، أنقل لك مقتطفات من رسالته لترى موقفهم من دين الله يقول الغامدي:
"ولكني محاصر بوسط لا تـفهم لغته، ولا تستطيع تعلمها، ومحاصر بأصدقاء يربضون في داخلي كالمورثات اللعينة التي لا تفارق عمق كل رجل شرقي . أسألك بكل حبيب لديك، كيف يكون لي ما أريده أنا لا ما يريده الآخرون، لأنهم عاشوا كذلك، وماتوا كذلك، كيف أخرج من شرنقة الموروثات في حاضر يرضعني إياها منذ ولدت" .
هذه الرسالة التي ابتهج بها الزيد، والتي تتبرم من الموروثات التي لا تـفارق عمق كل رجل شرقي والتي يصفها الغامدي بأنـها لعينة، ونحن نعلم أن الرجل الشرقي لا يتميز عن الغربي إلا بالإسلام الذي هو الموروث لنا من سلفنا الصالح، والذي يستوي فيه جميع الشرقيين، فهل وصل العداء لديننا أن يلعن عل صفحات صحفنا جهاراً نهاراً ؟؟!! لا حول ولا قوة إلا بالله .

وتأتي صحيفة اليوم في العدد 4776 بـمحاضرة ألقيت في إحدى مدن المملكة، لمز المحاضر في أكثر من موضع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الثابتة بالأحاديث الصحيحة، وحشره مع غيرها باعتبارها من أسباب تخلفنا فكان مما قال : "ينسلخ عن الجوهر فما فيه من المثل والقيم والمبادئ ليغرق في هامشيات، وأقول يغرق لأنه للأسف ما زال غريقاً حتى اليوم، يغرق في ماذا ؟! في تحريم أو استكراه لبس الجلباب وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، وضرورة الأكل باليمين، وكراهية استعمال الملعقة والشوكة والسكين، واستحباب لعق الأصابع، وكراهية أو تحريم الأكل على منضدة إضافة إلى مسائل أخرى منها الاحتفال بـمولد النبي، والتوسل بالأولياء والصالحين" .
وهكذا يحشر المحاضر العظيم، وتـنشر الصحيفة الحداثية هذه التشكيلة العجيبة التي حوت من التـناقضات مما لا يستطيع أن يجمع بينها إلا من حمل راية العداء للإسلام، أو الجهل به, أو جمع بين الأمرين، وإلا فمتى حارب الإسلام الأكل بالشوكة والملعقة أو على المنضدة ؟؟! ومتى أصبحت سنة النبي صلى الله عليه وسلم هامشية، يتهم من ينادي بها بالغرق في الهامشية سواء كانت الأكل باليمين أو تقصير لباس الرجل فوق الكعبين أو لعق الأصابع أو كراهية الشرب واقفا لغير حاجة ؟! ومتى أصبح الحديث عن بعض قضايا العقيدة، كالمولد والتوسل بالأنبياء والصالحين من الهامشيات ؟؟!
ثم يواصل المحاضر استهزاءه بالعلماء الذين ينافحون عن الدين فيقول : "لا أنسى طبعاً أن أجلاء العلماء كانوا عبر عصور وما زالوا حتى اليوم يبذلون جهوداً متواصلة للتذكار بحرمانية لعب الشطرنج والنرد وحلق اللحى والغناء والرسم والموسيقى، مما نعلم أنه معلوم وراسخ في أذهان الفتيات والفتيان في المجتمعات العربية والإسلامية وبدليل ما نرى ونشاهد في الفيديو والتلفزيون منذ سنين".
وهكذا ما دام المحاضر قد نصب نفسه حكما بين ما هو الصالح وما هـو الهامشي في الإسلام، فالواجب على العلماء ألا يجرحوا مشاعره ويرفعوا أصواتـهم ضد ما يحبذ ويحبه، وليطوع الإسلام رهن مراده وإشارته . وإن تعجب أيـها القارئ مما تقدم، فليزدد عجبك حين تعلم انه في المحاضرة نفسها طالب أن تدرس جامعاتـنا أفكار رانجيسكوا، وبولتن، وبسيو، وكارل ماركس, وسارتر، واكسن, وقال إنه لا ضير من ذلك بل يجب كما قال : "أن تـفتح النوافذ ونتـنفس الهواء الطلق" .

ويا لحقارة هؤلاء، سنة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم هامشيات، وأفكار ملاحدة الغرب هواء طلق. قال تعالى {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} .

وأنت أيـنما اتجهت للبحث والقراءة في أدب الحداثة ، ترى التجرؤ على الله ورسوله ودينه .
يقول السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) ص 37 : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة عنه بحيث يصبح الفنان مصدر حيرة، لا يحلها إلا مثل ذلك الحل الذي يرى أن للفنان شيطاناً يلقي على لسانه ما يقول، وهو حل مع سذاجته إلا أنه واضح الدلالة على حيرة الجماعة وعجزها, حيرة وعجزا يبلغ بـهما حد الخروج عن المنطق، كون الفنان يعيش بين الناس ويأكل في الأسواق" .

إننا نعلم أن الذي استغرب الناس أكله الطعام ومشيه في الأسواق هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل أصبح الأنبياء في نظر السريحي مجرد فنانين أتوا بما يخالفون به السائد ـ كما يقول ـ ؟؟!! وهل يريد السريحي أن يقول : إنه ما دام النبي فنانا، فإنه يجوز للفنان الذي يجيء بعده أن ينقض ما أبرمه النبي ويلغي ما بلـّـغه ؟؟!

أسئلة أبحث عن الإجابة عنـها في كلام السريحي فقط، أو لعلنا نجد الإجابة فيما نشرته مجلة اقرأ العدد 604 صفحة 64 حين نشرت صورة جنين مشوهة وكتب تحتها تقول : "ما الذي يجعل الطبيعة تخطئ أحيانا، وهل حقا سيصبح بإمكان الإنسان التصحيح" ؟؟!
إذا فهي الطبيعة تتصرف وتخطئ أحيانا فقط، أما قدرة الله وتصرفه في الكون فأمر آخر لا علاقة له بالموضوع {وقالوا إن هي إلا حياتـنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} .

أما الاستهزاء بالتاريخ الإسلامي وقيمه ومجده فحدث ولا حرج، فمثلاً نشرت اليمامة العدد 900 صفحة 81 قصيدة للشيوعي العراقي عبد الوهاب البياتي بخط يده، تحت عنوان (الولادة في مدن لم تولد) وكان مما قال فيها :
( أدفن في غرناطة حبي
وأقول لا غالب إلا الحب )
غرناطة التي كانت آخر معاقل المسلمين في الأندلس والتي كتب على جميع جدران قصر الحمراء فيها عبارة (لا غالب إلا الله)، فيأتي البياتي وفي مجلة سعودية فيعارض ذلك بقوله (لا غالب إلا الحب) .

وفي صحيفة الرياض أيضا العدد 6777 الصفحة 7 نشرت قصيدة فيها كثير من الغموض بل كلها غموض، لكن ما يثير التساؤل فيها هو تكرار الشاعر مرتين قوله : ( الله الله أنا آه ) .
وحقيقة إنني وقفت أمام هذا حائراً، ماذا يريد بقوله، وماذا يقصد به ؟

أما الرموز الوثنية فما أكثرها في شعرهم كما سبق أن تحدثنا عن ذلك .

فمثلاً في قصيدة محمد الثبيتي (تغريبة القوافل والمطر) والتي قدمت مع الأسف في فرع جمعية الثقافة والفنون بالقصيم مسرحيا, واجتمع لها نقادهم ومبدعوهم - كما يسمونهم - من مختلف المناطق، وشغلوا الصحف بذلك أياماً كثيرة، وقدموا عنه الدراسات الأدبية، أقول في هذه القصيدة ردد الثبيتي عبارة : ( يا كاهن الحي ) ست مرات وكان مما قاله فيها :
( أيا كاهن الحي
إنا سلكنا الغمام وسالت بنا الأرض
وإنا طرقنا النوى ووقفنا بسابع أبوابـها خاشعين
فرتل علينا هزيعا من الليل والوطن المنتظر
شدنا في ساعديك واحفظ العمر لديك
هب لنا نور الضحى وأعرنا مقلتيك
واطو أحلام الثرى تحت أقدام السليك
نارك الملقاة في صحوننا حنت إليك
ودمانا مُذ جرت كوثراً من كاحليك
لم تـهن يوما وما قبلت إلا يديك
سلام عليك )
إن مما تعلمناه من أبجديات الإسلام في طفولتـنا هو أن الدعاء مخ العبادة، وأن دعوة غير الله شرك لا يجوز، فمن هو هذا الكاهن الذي يناجيه ويتضرع إليه الثبيتي ويطلبه أن يهب له نورا، ويشده في ساعديه ويحفظ العمر ويعيره مقلتيه، ثم يستمر الثبـيتي في التقـرب إلى كاهنه والشكوى إليه حين يقول :

( يا كاهن الحي
طال النوى
كلما هل نجم ثنينا رقاب المطي
لتقرأ يا كاهن الحي
فرتل علينا هزيعاً من الليل
والوطن المنتظر )
أي وطن هذا الذي يرجو الثبيـتي من كاهنه أن يرتله عليه ؟!
وإن أردت الاستـزادة من الوله بالكاهن والكهانة فانظر القصيدة في مجلة اقرأ العدد 600 صفحة 32 .

أما في جريدة عكاظ العدد 7482 في زاوية منهم وإليـهم فقد اجتمع مع الكهانة الفساد الخلقي، حين وجه الحداثي أحمد سماحة سؤال للحداثية فوزية أبو خالد يسألها فيه لماذا غاب صوتـها الشعري رغم أنها - كما يقول - صوت مثقف واع . فأجابته إجابة طويلة مليئة بالدس الرخيص والانحطاط الخلقي وكان مما قالت : "من البدء سأختلف معك، سؤالك ليس سؤالا تقليديا، ولكنه سؤال طبيعي في مناخ يخاف مواجهة الطبيعة، ويحتمي منها بالقرابين، ونذر الصبايا، وتعاويذ الكهنة".
ترى أي مجتمع هذا الذي تتهمه فوزية بأنه يخاف من مواجهة الطبيعة ويلجأ للقرابين والنذور والكهنة, وهل نحن في مجتمع وثني بدائي أو نحن في معقل العقيدة الصافية النقية، ومنطلق الدعوة الإسلامية ؟؟
لكن هذا الكلام لا يستغرب ممن بلغ إسفافها الخلقي أن تقول في نفس الإجابة واصفة السؤال الذي وجه إليها بالجمال : "سؤال جميل كتجريب الأطفال تحت بيت الدرج أو على السطوح لاكتشاف سر همهمة الليلة السابقة، والود المفاجئ بين الكبار بعد كل سباب النهار" .
هذا هو الجمال عند فوزية أبو خالد الحداثية المبدعة، المجتمع قرابين ونذور وتعاويذ كهان, والأطفال إباحية جنسية تحت بيت الدرج وفوق السطوح ، أما الصفاء العقيدي والتربية القويمة فلا وجود لـها في مجتمعنا في نظر فوزية .


ومَنَ يكُ ذا فَمٍ مـُرّ مريضٍ 0000000 يـجد مـّرا بهِ الماءَ الزُّلالا

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:52 PM
الحداثة منهج فكري يسعى لتغـيير الحياة

إن الوسائل في الإسلام لها أحكام الغايات، ولا يمكن أن يتوصل لغاية شريفة بوسيلة دنيئة . ولذلك لا يمكن في الإسلام أن تـنظر للنص الأدبي من الناحية الفنية الجمالية فـقـط بعيدا عن مضامينه وأفكاره، ولا يغتـفر للإنسان من ذلك إلا ما كان خطأ غير مقصود، أو نسياناً، أو كان صادراً من نائم أو مجنون، وما عدا ذلك فإن الإنسان مؤاخذ بما يفعل ويقول على الأقل في الدنيا، وأمره في الآخرة إلى الله ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، إلا من مات على الكفر فهو خالد في عذاب جـهنم .

قدمت بهذه الكلمات لكي يُعلم ما هو المعيار الذي نقتبس به أفعال وأقوال الناس, وعلى هذا الأساس سيكون حديثـنا عن المنهج الفكري للحداثيين لدينا، حتى وإن أبوا أن يكون الإسلام الحكم بيننا، أو فسروه بما يروق لهم مما يتـفق مع أفكار أساتذتهم . وسأعرض في هذا المبحث لأمرين :

الأمر الأول : دعوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحية الشكلية والفنية فقط، بغض النظر عما يدعو إليه ذلك الأدب من أفكار، وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق، فما دام النص الأدبي عندهم جميلاً من الناحية الفنية فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أو الخمر أو غير ذلك، وسنرى بعون الله أن هذه المقولة مرفوضة شرعاً وعقلاً، وأنها وسيلة لحرب الدين والأخلاق، يتستر وراءها من لا خلاق له, وسنرى أن أذواقهم الأدبية فاسدة مفسدة، حتى لو سلمنا بمقولتهم تلك وأنهم يرفضون من النصوص ما كان جميلاً ويشيدون بما كان غامضاً سقيماً .
أما الأمر الثاني : فهو أن هذه الدعوى السابقة التي يدعيها الحداثيون، وهي عدم اهتمامهم بمضمون الأدب ليست صحيحة؛ بل إنـهم أصحاب فكر تغييري، يسعى لتغيير الحياة وفق أسس محددة ومناهج منضبطة، وموقفها من الإسلام محدد سلفا .

فأما الأمر الأول : وهو ما يسمونه الأدب للأدب والفن للفن، فيقول عبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتكفير) صفحة 10 : "وهذا كله فعالية لغوية، تركـز كل التركيز على اللغة وما فيها من طاقة لفظية، ولا شأن للمعنى هنا لأن المعنى هو قطب الدلالة النفعية وهذا شيء انحرفت عنه الرسالة، وعزفت عنه، ولذلك فإنه لا بد من عزل المعنى وإبعاده عن تـلقي النص الأدبي، أو مناقشة حركة الإبداع الأدبي" .
وهكذا بكل بساطة يقرر الغذامي أن المسلم عند مناقشته وتقويمه للنصوص الأدبية من نثر أو شعر، يجب أن يطرح جانباً النظر في المعاني، أي أن ينسلخ من عقيدته ودينه وفكره، ولا يكون لها أي دور فيما يعرض أمامه من أدب، ولولا أن خُدع شبابنا بـهذه المقولات الغافلة المتغافلة، لما أصبح الشيوعيون أئمة للفكر والأدب يشاد بـهم في صحافتـنا .

ويقول أيضا في صفحة 56 مؤكداً مذهبه : "ومن هنا جاءت التشريحية لتؤكد على قيمة النص وأهميته، وعلى أنه هو محور النظر، حتى قال (ديريدا) : "ولا وجود لشيء خارج النص ولأن لا شيء خارج النص فإن التشريحية تعمل ــ كما يقول (ليتش) ـ من داخل النص لتبحث عن الأثر، وتستخرج من جوف النص بناه السيميولوجية المختفية فيه، والتي تتحرك داخله كالسراب"" .
أيها القارئ الكريم : ما دام (دريدا) يقرر، و (ليش) يقول : "إننا يجب أن نحاكم النص إلى ذاته ونفسه، وننظر في أدواته الفنية فقط بعيداً عن أي مؤثر خارجي" .... فيجب أن نمتثل قوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عند الغذامي أو عند السريحي الذي يقول في عكاظ العدد 7517 الصفحة 5: "من شأن قيام المنهج أن يؤدي إلى سقوط تحكم الأيديولوجيات المختـلفة في إجازة دراسة ما أو عدم إجازتها، ذلك أن براءة وحيادية العلم لها من السلطان ما يحمي الدراسة من أن نتعاطف معها، لأنها تخدم توجها نسعى إليه، أو نرفضها لأنـها تخالف ذلك التوجه" .

هـذه هي موازينهم التي يدعون الناس إلى الاحتكام إليها، أما قول الحق سبحانه وتعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ، فلا قيمة له في موازين الحداثيين النقدية ولا في مناهجهم الأدبية، وأما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله ) , وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ) وغيرها من الأحاديث الكثيرة والآيات البينة الواضحة التي تدل على أن حساب الناس في الإسلام على معاني قولهم ومضامينه قبل لفظه ومبناه، فيجب أن تـزاح عن مسرح الحياة، حتى يأخذ الأدب حقه ويؤدي دوره في نظر الحداثيين .

يقول عبد المحسن هلال في عكاظ العدد 7538 الصفحة الخامسة في معرض رده على ملحق الندوة الأدبي حين تصدى ذلك الملحق لدعاة التغريب : "نسي الملحق المذكور أو تـناسى قضيته الأساسية في وجوب التـفريق بين من يدعون للخروج عن التعاليم والقيم الإسلامية، وبين من يعتـنقون الحداثة كمذهب أدبي فني بحت، فاختـلط عليه الأمر، فأصبح يتهم كل معتـقد بالحداثة بالخروج على هذه القيم والتراث الإسلامي" .

إن هذه دعوى يدعيها كثير من الحداثيين، وهي وإن كانت مرفوضة ديناً وعقيدة، فإن واقعهم يؤكد أن ذلك مجرد تـنويم لمن بقيت في قلوبهم غيرة، وأنهم سيتجاوزون ذلك إلى مراحل أخرى .

ويقول عبد الله الغذامي في مقابلة أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط في 10/3/1987 م الصفحة 13 : "يجيب أن نفصل الآن بين الأيديولوجية والممارسة النقدية" .

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:52 PM
وهكذا يرى الغذامي أنه يجب ألا تدخل العقائد والمذاهب الفكرية عند نقدنا للنصوص، لكنه يؤكد أن ذلك مطلوب الآن فقط . وهذا ما يشير إلى أنه مجرد مرحلة يسعون لتجاوزها، بعد أن يخدروا بمقولاتها من سيكون عقله قابلاً للتخدير، بل ذلك هو ما كشف عنه الغذامي وباح به في نفس المقابلة حين قال : "الذي نعرفه نحن أن من طبيعة الإبداع التمرد على كل ما هو سابق من قبل، فكيف بي أفرض سائداً سابقاً على نص متمرد، هذا السابق يشمل الأيديولوجية، ويشمل الفلسفة ويشمل المبدأ المقرر سلفا" .

وبسرعة فائقة انقـلب الغذامي الذي كان ينادي بمحاكمة النص إلى الوسائل الفنية اللغوية، التي رأينا بعض حملتهم القذرة عليها قبل قليل ... أقول : هكذا انقلب داعياً إلى أن يكون الأدب تمرداً على كل عقيدة ومبدأ وفلسفة مما هو سائد سابق على النص . وهل لدينا من مبدأ أو عقيدة سائدة قبل النص غير الإسلام ؟!
أما ما هي المعايير الفنية واللفظية النصية التي ينادون بـمحاكمة النصوص إليـها بعيداً عن العقائد والمبادئ فلا أعلم أي معايير يقصدون، بعد أن نادَوا بتحطيم اللغة، وجعلوا تحطيم دلالاتها وتغيير قواعدها والقضاء على معانـيها شرطاً أساسياً لكل عمل إبداعي لـديـهم .

يقول السريحي في صفحة 87 من كتابه (الكتابة في خارج الأقواس) : "ولهذا فإن استخدام الشاعر للكلمة يبدأ بتحطيم الدلالة الوضعية لها لكي يتمكن من أن يطلق ما يكمن فيـها من طاقات شعرية ….. وذلك هو ما يـجب أن يأخذه الناقد في عين الاعتبار عند تعامله مع لغة المتن الشعري، لأن عمله يبدأ بتحرير المعاني التي غرسها الشاعر في اللغة عندما استحالت على يديه إلى رموز" .
يلغون العقائد والمبادئ من موازين ومعايير النقد للأدب، وينادون بتحطيم اللغة وإهمال قواعدها ودلالاتها تماما. فما هو يا ترى المعيار الذي يريد الحداثيون أن نتخذه نبراساً لنا عند نقد الأدب ؟

يقول السريحي في صفحة 39 من كتابه : "وما ينبغي علينا إزاء هذه التقابل بين الرؤيا الفردية والرؤيا الجماعية هو أن نتحرر من الاحتكام إلى معيارية الخطأ والصواب" .

وهكذا ينادون بإلغاء كل شيء حتى تصبح الأمة ذات عقلية فارغة لا مبدأ لـها حتى يمكنـهم بعد ذلك تحديد اتـجاهها، وإنشاء مبادئ جديدة لـها ؛ ألا ترى أنـهم يتـفقون جميعاً على استبعاد القديم والسائد والنمطي - كما يسمونه - وإنني أرجو منهم أن يثبتوا لنا شيئاً ، ينصب عليه كلامهم غير ديننا.

أما الأمر الثاني : وهو إثبات أن الحداثة منهج فكري، ذو نظرة محددة للكون والحياة والإنسان، وعلاقتـها ببعضها وبدايـتها وغايتـها ونـهايتها، وأنه يتخفى تحت مسميات الأدب الجديد والحداثة في الأدب ، فهـذا ما سنتحدث عنه في هذه السطور .

نشرت صحيفة اليوم في العدد 4762 تحقيقاً عن ندوة الحداثة والتجربة الشعرية في الخليج، والذي يهمنا في الموضوع ثلاثة أمور :
الأول : أنه وإن كانت الندوة في الكويت, ولكن صحيفة سعودية نشرت ما دار فيها وأثـنت عليه .
الثاني : أنه مثل السعودية فيـها ـ مع الأسف ـ فوزية أبو خالد، وأسفي هنا لأنها نشرت صورتـها في الصحف الكويتية، ثم في صحيفة اليوم السعودية متبرجة ناشرة لشعرها، بل في بعض الصور وهي تلقي الشعر على الجماهير الكويتية ، ويـجب ألا ننسى أنـها محاضرة لبناتـنا في إحدى الكليات .
الثالث : وهو المـهم ؛ لنستمع لما قال بعض المشاركين في الندوة .... يقول إبراهيم غلوم أحد المتحدثين في الندوة : "إن الحديث لا يـمكن أن يتم إلا في حوار حضاري ديمقراطي، كالمجتمعات الأوربية التي استقرت فيها الحركة الديمقراطية، وإن أطروحة التغيير هنا لا بد وأن تصطدم بالمؤسسات والقوانين والعادات والآداب العامة، وأرى أن الشاعر في الخليج في الوقت الراهن قد عبر عن التـفتح الجديد بقصيدة جديدة، واستطاعت أن تؤدي هذا دون أن تصطدم مباشرة بالرموز المباشرة، وأؤكد أن القصيدة الجديدة ظلت في معزل عن الصدام المباشر مع رموز التخلف، لأنـها تصطنع دائماً رموزا بديلة" .
إذا فهم أصحاب طرح تغييري ولا يمكن أن يكون ذلك إلا لأصحاب مذهب فكري محدد. ولذلك فهو يؤكد أن الصدام بينهم وبين كل شيء في هذه الأرض من قوانين وعادات وآداب بل ومؤسسات، لا بد منه. وأرى أنه عبر بصدق وصراحة عما يعبر عنه كثير من الحداثيين بلف وغموض ومداورة، وهو هنا يتحدث عن لازمة من لوازم المنهج الشيوعي في التغيير، إنه الصدام أو ـ كما يسمونه ـ العنف الثوري . لا يرضون بالتغيير السلمي ولا يقرونه وسيلة من وسائلهم، لكنهم لا يقدمون على ذلك إلا بعد أن يشتد عودهم ويقوى ساعدهم، أما قبل ذلك فهم يتسترون وراء كثير من الرموز قد يكون منها الوطنية، وقد يكون منها الديمقراطية، ولكنهم في النهاية لا بد وأن يقضوا على رموز التخلف كما سماها غلوم، والذي يظهر- والله أعلم ـ أنـهم يستعدون منذ الآن لـهذا الصدام القادم الذي يدفعون الدنيا له دفعا . استمع إلى من اعتبروها ممثلة سعودية في الندوة حين تقول : "إن القصيدة الحديثة التي تحاول أن تؤسس تجربتـها، قد خلعت كل ملابسهاالمهيبة والمنيشنة، والصدام القادم هو صدام على حرية القصيدة" .
وهكذا ما دام أن فوزية أبو خالد قد خلعت لباس الحشمة والوقار ووقفت على المنابر بين الرجال، بلا ساتر ولا حجاب وجلست بينهم في الصفوف، فهي تستعجل أيضاً أن تخلع أفكارها وأفكار رفاقها ملابـسها ونياشينها، لتكون الدعوة إليها مكشوفة معراة بلا غموض ولا شعارات مرحلية بل تستعجل الدخول في الصدام القادم كما تسميه .

وفي مجـلة اليـمامة العدد 901 صفحة 62 يقول أحد الكتاب الحداثيين : "ينبغي أن نخلع جبة الأصول وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة التجربة ونقض الماضي وتجاوزه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تـقترحه من أسئلة، ليس هذا من حق الشاعر فحسب ولكنه حق حياتـنا المعاصرة علينا".
تحت دعوة إتاحة الحرية يسعى الحداثيون لتدمير حياة الأمة الفكرية وثوابتها العقدية، إذ كل شيء عندهم يجب أن نترك للشاعر الحرية أن ينقضه لا أن ينقده فقط، وأن يتجاوزه لا أن يقف عنده فقط، لأن الماضي عندهم ليس أكثر من تجربة، يجب أن تـزاح ويحل مكانها تجربة جديدة، وعندما نلتـزم بنصيحة الحداثي المبدع ونخلع جبة الأصول ونحطم اللغة ونبتعد عن قلنسوة الوعظ، نصبح أمة لا جذور لها ولا ثابت في فكرها ولا حياتها، بل كل شيء قابل لأن يتغير ويتبدل، العقائد والأخلاق والسلوك، وعند ذلك تكون الحداثة وأهلها قد أدوا دورهم كاملاً، الذي لن يتحقق بإذن الله ما دام في أرض الإسلام من يعي أساليبهم ويرد كيدهم في نحورهـم .

وفي أمسية حداثية أقيمت في الباحة في 16/11/1406هـ وشارك فـيها من أعمدة الحداثة محمد العلي, وعثمان الصيني، وسعيد السريحي، وعلي الدميني، وعبد المحسن يوسف، ونشرت الأمسية في مجلة الشرق العدد 369، تبدي كثيرا مما كان يخفيه الحداثيون ... فمثلاً يقول السريحي في تلك الأمسية : "للحداثة مفهوم شمولي، هو أوسع مما منح لنا ومما ارتضينا لأنفسنا، ذلك أن الحداثة نظرة للعالم أوسع من أن تؤطر بقالب للشعر، وآخر للقصة وثالث للنقد، إنها النظرة التي تمسك الحياة من كتفيها، تـهزها هزاً، وتـمنحها هذا البعد الجديد" .

الله أكبر، لقد استبان الصبح لذي عينين، فلم تعد الحداثة مجرد قوالب أدبية وأشكال تعبيرية للشعر والنثر والنقد كما يصرون ويريدون أن يقنعونا كلما أراد أحد أن يعترض عليهم، بل هي منهج شمولي أتوا به لكي يمنح الحياة بعداً جديداً، وينشيء فيها واقعاً جديداً، وهذه لم تكن فلتة لسان من السريحي، بل هناك من أقواله وكتاباته ما يؤكد ذلك . وهم ـ الله أعلم ـ لا يقولون ذلك إلا ليروا مدى رد فعل الناس، حتى يقرروا خطواتـهم القادمة، أو أنهم اطمأنوا إلى أن الناس معهم، أو أنـهم مغفلون لا يعلمون ما يقولون .

ومثل قول السريحي يقول أحمد عائل فقيه في عكاظ العدد 7371 الصفحة 10 : "إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع، وذلك هو المأزق الثقافي الشائك الذي لا تدري كيف يمكن بالكاد تجاوزه وتخطيه، أنت في كل هذا تصطدم مرة أخرى بجملة حقائق ومسلمات اجتماعية ثابتة راسخة رسوخ الجبال الرواسي في أذهان الناس . ألا بديل لما هو سائد ومكرس أيضاً ؟ إذا كيف يمكنك تمرير ما تحلم به، وما نود أن تقوله علناً" .

إنـها حقائق خطيرة تتجلى لنا في كتابة الحداثي أحمد عائل، لا بد أن يعيها كل مسلم غيور على دينه وبلاده رافضاً لما يخطط الأعداء لـها من محاولات إفساد وتدمير، ومن هذه الحقائق :

1- أن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلاميـة وقيـم إيمانيـة .

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:53 PM
- أنهم في حيرة من أمرهم، كيف يمـكنهم تغيير هذه القيم الأساسية في المجتمع وتـجاوزها وتخطيها إلى ما يريدونه من قيم أخرى .
3- أنـهم لا يسعون لتجاوز بعض الأمور الـهامشية، بل إنـها حقائق ومسلمات لدى المجتمع المسلم راسخة عنده رسوخ الرواسي، ولا يرضى بـها بديلاً.
4- وأخيراً فإن للحداثيين أحلاماً وتطلعات، إلى أن يأتي اليوم الذي ينادون فيه بكل أفكارهم علناً وصراحة، بعيداً عن الغموض الذي يتـلفعون به الآن في الجملة .

أخي القارئ قارن بين هذا الكلام، وكلام فوزية أبو خالد وإبراهيم غلوم الذي ورد قبل قليل لترى بوضوح أن الأهداف واحدة, والغاية في النهاية هي تغيير المجتمع وتبديل مسلماته وقيمه . ولكي تتحدد لك بعض ملامح هذا التغيير ننقل لك ما قاله السريحي في صفحة 37 من كتابه ... يقول : "وهذا التوتر هو السمة الأساسية التي لو لم تتحقق لحق لنا أن نشك طويلاً في قيمة ما يقدمه هذا الفنان أو ذاك، وهو محصلة طبيعية لما يشكله الفن من مروق على عرف الجماعة، وخروج عن معياريتها السائدة في الرؤيا أولاً، وفي التغيير أخيراً" .
هل رأيت أيها القارئ أن طنطنتهم بأن اختلافـهم مع غيرهم إنـما هو في أشكال التعبير, إنها مجرد كلام فارغ ومخدر مؤقت، وأن السريحي يؤكد أن هذا الاختلاف لا يأتي إلا في الأخير، أما الاختلاف الأول مع المجتمع والمروق على أعرافه فيجب أن يكون في الرؤيا، بل إن السريحي يؤكد أن الفنان المبدع لا يستحق ذلك الاسم حتى يخرج عل المألوف ويحارب المعروف، ويعلن أن المجتمع ـ أياً كان هذا المجتمع ـ يجب أن يتبعه أينما سار .
يقول السريحي : "من شأن البعد الإنساني الحر الذي تتسم به رؤيا الفنان أن يجعل انفصاله عن الجماعة أمراً قدريا لا مندوحة له عنه، وإن آمن في ظاهر الأمر أو باطنه بكل أعرافـها، وخضع لكل تـقاليدها في حياته العامة" .

ولا يكتـفي السريحي بالتأكيد على أن الأدب يجب ـ حتى يستحق منه شهادة بأنه أدب - أن يخرج عن إطار المجتمع العام وأعرافه وقيمه، بل يؤكد ـ وهو الناقد الكبير كما يسمونه ـ في صفحة 78 من كتابه, أن الوعي الجيد يجب أن يتجرد من المقومات العقلية، وذلك في قوله : "وهذا يعني ثـناء إزاء وعي جديد يتجرد من المقومات العقلية للوعي" .

وهذا يعني أنه لا يكفي أن تُغطى قيمنا وديننا وأخلاقنا وأصولنا إجازة، بل لا بد أيضاً أن نلغي عقولنا ونـمنحها إجازة، وربـما كان ذلك عطفا ورأفة من السريحي علينا حتى لا تصاب رؤوسنا بالصداع والدوار من بلائهم وغثائهم، وحتى يستطيع أن يدخل فلسفة هيجل في عقول أجيالنا والتي استشهد بـها في صفحة 39, حين قال : "إن الرؤيا الإبداعية هي تحرر الروح من أسار الضرورة، وانطلاقها وراء حدود الإمكان، وتشوقها نحو المثالي، وسعيها باتجاه المطلق، وذلك هو جوهر الفن كما يراه رائد الجدلية المثالية هيجل" .

هل رأيت الغرام والاستشهاد بما يراه هيجل الفيلسوف المادي الملحد ؟ بل إن التأثر به في كتابات السريحي واضح كل الوضوح . فمثلاً استمع إليه حين يقول في صفحة 38 من كتابه : "هذه الرؤيا الإبداعية تـنبثـق من خلال العلاقة الجدلية التي تربط الذات بالعالم الذي يحيط بـها" .
هذا هو البعد الشمولي لـمفهوم الحداثة الذي يريد السريحي أن يهـز به الدنيا هزاً من كتـفيـها !!

وفي صحيفة الرياض العدد 6714 الصفحة 7 كتب فهد العتيق تحت عنوان (حول الخصوصية في الإبداع والكتابة خارج الزمن) - وهم هكذا دائما يكتبون خارج الزمن وخارج الأقواس وخارج المألوف، بل وخارج المعقول أيضاً، وما أظن هذه الرموز والرمزية أصبحت خافية على القارئ بعدما تقدم - المهم أن مما كتبه العتيق في تلك الزاوية (اقرأ) مفهومها للخصوصية الإبداعية : "إنـها باختصار تحقق لإمكانية النص باعتبارهما منتـوجاً ثقافياً لا معدى له عن الانصياع لجبروت الزمن التاريخي، وهو اجتماعي في جوهره ، لأن حركية الصراع الاجتماعي تختلف اختلافاً ملحوظاً من بقعة إلى بقعة أخرى في المساحات الطبوغرافية الضيقة " .

أرأيت أيـها القارئ أن الحديث عن الحتمية التاريخية والصراع الطبقي، وما أظنك تحتاج لإيضاح أكثر من هذا في تحديد الملامح الفكرية لـهذه الحداثة . ولتأكيد ذلك يقول أحمد عائل فقيه في صحيفة المدينة العدد 7147 الصفحة الأولى من المدينة الثقافية : "كان حضور هذه القصيدة قد حسمته ظروف اجتماعية وتاريخية، فكان ميلاد هذه القصيدة، لقد كان حضورها هو نتاج الظرف التاريخي، ونتاج قطيعة معرفية، وهي محاولة كتابة واقع جديد، وكذلك إلغاء الآخر" .

هل تريد أيها القارئ أن تعرف ما هو الواقع الجديد الذي يسعون لكتابته في الحياة ؟ انظر لما قاله على الدميني في نفس الصفحة، وكان مما قال : "إن الشعر المستـقبلي سيصبح شعراً خالصاً صافياً من شوائب المديح والهجاء والغزل الفج ، وبعيداً في اهتماماته عن الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنني أرى أن ذلك الطيف الذي لا بد أن يتحقق في المستقبل المتخيل أو المنشود يحتاج إلى عمل شعري يتعانق مع حركة المجتمع وسعيه إلى بلوغ وضع اجتماعي جديد لا تعود فيه الهموم السياسية والاقتصادية هموماً ملحة وإنما تغدو منتـفية بأن ضروراتها الحياتية تكون حينذاك قد أنجزت وبلغ الإنسان فيها مشارف المدينة الفاضلة والعلم الأرضي الجميل" .

وهكذا في وضوح لا غبش فيه يبشر الدميني بالمستقبل المنشود والحلم الذي يرى أنه لا بد أن يتحقق في هذه الحياة، وإنني أتساءل : ما هو الفرق بين هذا الحلم وبين جنة الشيوعية الأرضية التي تعد بها البشرية على الأرض حين تعم دولتهم العالمية ـ كما يزعمون ـ وعندها ينتهي الصراع ومبرراته، وبالتالي تـنتهي الهموم وتكون المدينة الفاضلة ؛ لكن الناس يعلمون أن الشيوعية حولت أي أرض نكبت بـها إلى جهنم الحمراء .

وفي مقابلة أجرتـها جريدة الرياض العدد 6794 الصفحة 12 مع عبد العزيز المقالح ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الحداثة منهج فكري شامل يسعى للتغيير، يقول المقالح عند حديثه عن الأدباء الشباب : "وما يلفت الانتباه في تجربة هؤلاء الشبان أنهم لا يخضعون للثوابت ولا يجترون التعابير الشائعة والمبتذلة والسطحية ، مع حرصهم العميق على الربط بين الإبداع وضرورة التغيير" .
إن ما قلناه عن أهل الحداثة قبل قليل يؤكده المقالح هنا ، وهو تحطيم الثابت وضرورة التغيير .

وفي المدينة المنورة العدد 7210 ، لقاء مع شاعر تونسي حداثي اسمه المنصف المزغني، تحدث عن بعض زملائه الحداثيين عندنا، وبين أن رؤيتهم واحدة وإن اختلفت عباراتهم, وذكر أنهم يتجاوزون الحدود العربية في هذه الرؤية، يقول المزغني : "محمد الحربي، خديجة العمري، وعبد الله الصيخان، أصوات ثلاثة تُـغمس أقلامها في محبرة الحداثة، وتكتب متجاوزة حدودنا العربية ... أصوات ثلاثة ائتلفت في الرؤية والرؤيا، واختلفت في العبارة" .
وهذه الشهادة وإن اعتـز بها الحداثيون، لكنها في نظرنا شهادة إدانة لهم, وكشف عن هويتهم الفكرية التي لا تمت لأمتنا بصلة، ولا لواقعنا بعلاقة بل هو خلاف كل ذلك . ويقول الغذامي في عكاظ العدد 7566 الصفحة 7 : "من شرط الإبداع أن يكون فوق السائد والمألوف، وهو يرتـقي بمقدار تجاوزه لظروفه، مثلما أنه يتـناقض بمقدار تماثله مع تلك الظروف" .

ولكي تدرك ما هي الفوقية التي يطالب بـها الغذامي المبدع ـ كما يسميه ـ انظر إلى مقالة في نفس الصفحة لم يذكر اسم كاتبها، وعنوانها (في اليوم المحاميد والثابت المعنوي) والمقالة تـناقش ما كتبه خالد المحاميد الكاتب الحداثي في صحيفة اليوم قبل ذلك، وكانت الأسماء التي وردت في المقالة للاستشهاد بأقوالهم هم : تايلور، وشتراوس، ومالينوفسكي، وراد كليف براون، وهربرت ماركوس، ومما ورد في المقالة قول الكاتب : "ثم لماذا هذا الفصل غير المنهجي بين الثـقافة والحضارة، هل هو نتاج من نتاجات المرحلة البرجوازية، كما قد ذهب هربرت ماركوس من قبل في تحليله لإشكالية هاتين الكلمتين في الحضارة الغربية قائلا ما معناه : إن الفصل بين الثقافة والحضارة هو نتاج المرحلة البرجوازية" .

وهكذا تـنقل المصطلحات الغربية إلى واقعنا مهما كان يختلف عن الواقع الذي نشأت فيه تلك المصطلحات، وذلك أن الحداثيين جعلوا من شروط الإبداع أن نكون فوق السائد والمألوف؛ ولا أعلم في أي المراحل يصنف

قلب الوفا
07 -09- 2009, 09:56 PM
باقي الموضوع تجدونه هنا
وعذرا ع طولة الصفحات ولكن لم يرتفع معي الرابط



http://saaid.net/book/open.php?cat=89&book=26 (http://saaid.net/book/open.php?cat=89&book=26)

ماجد الحدادي
07 -09- 2009, 10:18 PM
هنا لمن أراد التحميل


للتحميل (http://www.saaid.net/book/23.zip)

نحن
07 -09- 2009, 11:00 PM
بارك الله فيكم يا إخوان

موضوع مهم جدا للجميع

وجدان
07 -09- 2009, 11:05 PM
الله أكبر

رائع ياقلب الوفا رائع
كنت أجهّز لموضوع يشبه موضوعك القيّم
لكن بنشاطك المعهود سبقتيني
بارك فيك وفي أيامك وأسعدك المولى دائمًا وأبدًا ،،

حقيقةً تستحقين قُبْلة أخويّة تعجّ بالامتنان والشكر
على هذا الموضوع
الجميل، النّافع، المثير، المُنقِذ من الوقوع في المحظور
والموقِظ للأقلام المخدَّرة، والمذكِّر للغافل منها ،

وليتهم يفهمون ياقلب !!

قلب الوفا
07 -09- 2009, 11:05 PM
اشكرك مشرفنا ماجد
واشكر الجميع ع تواجده وتفاعله

قلب الوفا
07 -09- 2009, 11:10 PM
الله أكبر

رائع ياقلب الوفا رائع
كنت أجهّز لموضوع يشبه موضوعك القيّم
لكن بنشاطك المعهود سبقتيني
بارك فيك وفي أيامك وأسعدك المولى دائمًا وأبدًا ،،

حقيقةً تستحقين قُبْلة أخويّة تعجّ بالامتنان والشكر
على هذا الموضوع
الجميل، النّافع، المثير، المُنقِذ من الوقوع في المحظور
والموقِظ للأقلام المخدَّرة، والمذكِّر للغافل منها ،


وليتهم يفقهون ياقلب !!




غاليتي لهفه انا ممتنه اكثر لتفاعلكم الجميل كما عهدناك
عذرا لم يرتفع الرابط ولااعلم مالمشكله نظرا لطول الكلام
ولكن ماقصر مشرفنا ماجد ساعدني
وانتي ايضا لك قبله اخويه ع روحك الرائعه
غاليتي :
هي كلمه فقط اريد ان اضيفها ::
من اراد ان يضع نصاااا فعليه ان يكون نصه مو جه للكل بلغه مفهومه خاليه من اي نقطه قد تكون مدلسه او لاتنطوي على شيئ ممتع للقارئ
حين تطرح نصا فانت توجهه للعامه هنا -وان لم يرد احد انتقاده فلا يضعه للعامه بل عليه ان يختص به لنفسه

من اساليب النقد الادبي السليم ان يكون النص الادبي واضحا مفهوم الكلمات
اثرتني موضوعات كثيره هنا قد تندرج تحت مفهوم الحداثه
لم انم حتى حصلت ع مرادي ووضعته لكم هنا لابرئ مما قد يختلج بصدري
اشكرك غاليتي

وجدان
09 -09- 2009, 01:30 AM
موضوع قيّـم
ويستحق التثبيت.

شكرًا لك ياقلب الوفا .

قلب الوفا
09 -09- 2009, 01:56 AM
هلابك لهفه واشكرك غاليتي على حظورك المميز
وتشجيعك الدائم

حامد الجدعاني
30 -09- 2009, 03:26 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في عام 1406 إن لم تخني الذاكرة
كنت ممن يحضرون أمسيات النادي الأدبي فيجدة
التي كانت تقام في قاعة فندق العطاس أيامها كنت في المرحلة الثانوية
و في إحدى الأمسيات كان الضيف هو شاعر العراق الكبير ( عبد الوهاب البياتي )
حيث شنف آذاننا بقصائد من إبداعه:fraud: على مدى ساعتين أكثر
ونحن جلوس نصيخ السمع ونحاول التركيز ::sa07:: فيما يقال أمامنا لكن ::sa03::
و بعد أنخرجت ::sa04:: حاولت أن أتذكر بعض ذلك الإبداع فلم أجد إلا :
شوارع بغداد المهدمة و الكلاب السود تطرد .......... :mad: أستغفر الله و أشياء من هذا القبيل
عزمت على عدم الرجوع و التوبة من ضياع ذلك الوقت في الهراء السقيم
و قد كانت تأتيني الدعوات على بريد المدرسة
الأخت ( قلب الوفا ) شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية
و جعله الله في ميزان حسناتك

قلب الوفا
11 -10- 2009, 01:06 AM
حياك الله اخي حامد وشاكره تواجدك واضافتك القيمه
الله يجزاك خير يارب
اعتذر لتاخر الرد لعدم انتباااهي وربي

لوركا
20 -12- 2009, 01:33 AM
كتاب متزمت
لا أنصح بقرأته
يعج بالفكرالتكفيري
أنغلاق بشكل لا يوصف
تم تغيير الكتاب بعد توقيع سماحة الشيخ بن باز
حيث لم يكن المضمون هو ما تم التوقيع عليه
صاحبه هداه الله ممن
يقتل الابداع بحجة التمسك لنهج القدماء
يرى أن كل كلمه تؤدي لـ خارج المله
حتى دلالات الحروف
عن من على في بـ كلها محرمه

لا أنصح يقرائته خصوصاً الذين لم يتمرسوا على القضايا الفكريه
سيصبحون صيداً سهلاً بيد التكفيريين