بنت المدخلي
11 -10- 2009, 03:53 AM
:
أموات يحكمون العالم
في القرن الخامس قبل الميلاد ألّف المفكر العسكري الصيني "سُون تزي" كتابه الأشهر في الاستراتيجيات العسكرية "فن الحرب" الذي يُعد من أكثر الكتب التي أثرت في الفكر العسكري الصيني بشكل خاص والعالمي بشكل عام، وبلغ من تأثيره حداً جعل من أحد القادة اليابانيين يقول عن مؤلفه:" إن تأثير سُون تزي على الفكر العسكري الياباني قد تجاوز إسهامات الشخصيات العظيمة في تاريخ اليابان قديماً وحديثاً"، كما يروى أن نابليون بونابرت قرأ هذا الكتاب أكثر من مرة وكان يطلع عليه حتى أثناء المعارك، وقاربت عدد المرات التي قرأه فيها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت المئة مرة! بل تدخلت تطبيقات هذا الكتاب في أدق التفاصيل العسكرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تخطت تطبيقات هذا الكتاب الحروب لتصل إلى المجالات الإقتصادية والتجارية والبحث العلمي وغيرها من المجالات ذات الطبيعة التنافسية!
إن سون تزي مثال "حي" على عشرات الأموات التي تحكم أفكارهم مجريات الأحداث في العالم، فمثلاً، كتاب "الأمير" لمكيافيللي الذي كتبه ليؤكد على أن الغاية تبرر الوسيلة، والذي وصفه موسوليني، الزعيم الإيطالي في الحرب العالمية الثانية، بأنه "ملازم رجل الحكم"، أُعتبر بمثابة المحرك الرئيس لسياسات الدول الغربية منذ كتابته في أوائل القرن السادس عشر حتى اليوم، وقد تمخضت عن أفكار هذا الكاتب عدد من المدارس الفلسفية السياسية ذات التأثير القوي على مراكز صنع القرار في الغرب اليوم.
وكذلك مؤلفات الفيلسوف الفرنسي روسو التي كانت بمثابة "كتاب مقدس" لزعماء الثورة الفرنسية (عام 1789م) التي استطاعوا -بتطبيق أفكاره- قلب النظام وتحرير الشعب الفرنسي من النظام الملكي المستبد ومن ثم تحرير كافة الشعوب الأوروبية التي كانت تخضع لأنظمة مشابهة، بل حتى أن دساتير تلك الدول وقوانينها دخلتها أفكار روسو وآراؤه بشكل مؤثر وكبير وسُنَّ كثير منها على شكل قوانين ملزمة، مما جعله "حاكماً ميتاً" تسري أحكامه على الأحياء.
وفي القرن التاسع عشر نجد كتاب كارل ماركس الشهير "رأس المال" الذي وُزّع منه ما يقارب الـ500 مليون نسخة واعتبرت نصوصه مقدسة لدى الشيوعيين الذي أخذوا يتعاملون معها تعامل المتدينين مع نصوص الكتب المقدسة.
وفي مثل هؤلاء يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف: "إن المبدع يموت نصف موت، لأن روحه تظل من بعده في أعماله"، وذلك باعتبار أن فكر المبدع باقٍ ليحيا بعد موته.
وحتى أنه لو عدنا إلى جذور الأسباب التي أدت إلى أغلب الصراعات البشرية، لوجدنا أنها قامت -بالأساس- على تعارض بين عقائد وثوابت وضعها أشخاص مقدسون أو مبجلون لدى الأطراف المتصارعة، كتلك الصراعات التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت، والرأسماليين والشيوعيين وغيرها. ومن طرائف ما يذكر أنه في بداية حرب الخليج الأخيرة أطلق العراق صواريخ صينية الصنع مسماة باسم الإمبراطور الصيني "ييانغ" تجاه الكويت التي قاومتها ببطاريات دفاع جوي مصرية الصنع مسماة باسم الفرعون "آمون"، فبدا الصراع -تخيلياً بطبيعة الحال- بين الإمبراطور الصيني والفرعون المصري!!
أما في تاريخنا الإسلامي فسنجد -بعد الرسول عليه السلام وصحابته الكرام- أن الإمام أبو حنيفة هو صاحب السبق الفكري في بقاء أفكاره كمُنظِّمة لسلوك الأمة من بعده، فهو مؤسس علم الفقه الإسلامي الذي أصبح بمثابة الشريان الرئيس الذي يغذي العلاقات بين الأفراد في الأمة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرناً، وقال عنه الشافعي:"الناس عيال على أبو حنيفة في الفقه" بمعنى أن أياً ما كُتب وبُحث في الفقه منذ تأسيسه حتى اليوم يعود بالفضل على الإمام أبو حنيفة باعتبار أن أفكاره هي التي أنشأت هذا العلم، فضلاً عن اعتبار المذهب الحنفي -القائم مباشرة على أفكار الإمام- هو المذهب الرسمي للدولتين العباسية والعثمانية مما جعله أكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً وأكثرها تأثيراً، وبالتالي بقاء أفكار الإمام "المتوفى" وما تفرع عنها لتحكم العلاقات بين مئات الملايين من المسلمين الأحناف اليوم.
إن نظرتنا السريعة على هؤلاء "الأموات" الذين استطاعو أن يجعلوا أفكارهم حية تنمو وتتطور عبر الزمن رغم كونهم ليسوا أنبياء أو مؤسسي أديان، ورغم تجاوز مدة وفاتهم عشرات ومئات السنين، يجعلنا نفكر بعمق باعتبار أن الحياة ليست حياةً بقدر ما هي فرصة للحياة!
***
فلنجعل من حياتنا فرصةً لنحيا عبر التاريخ، بأفكارنا وإنجازاتنا، التي بواسطتها، وبواسطتها فقط، يحيا ذكرنا وتحفر أسماؤنا على صحائف التاريخ الخالدة.
عبدالله الجمعة
أموات يحكمون العالم
في القرن الخامس قبل الميلاد ألّف المفكر العسكري الصيني "سُون تزي" كتابه الأشهر في الاستراتيجيات العسكرية "فن الحرب" الذي يُعد من أكثر الكتب التي أثرت في الفكر العسكري الصيني بشكل خاص والعالمي بشكل عام، وبلغ من تأثيره حداً جعل من أحد القادة اليابانيين يقول عن مؤلفه:" إن تأثير سُون تزي على الفكر العسكري الياباني قد تجاوز إسهامات الشخصيات العظيمة في تاريخ اليابان قديماً وحديثاً"، كما يروى أن نابليون بونابرت قرأ هذا الكتاب أكثر من مرة وكان يطلع عليه حتى أثناء المعارك، وقاربت عدد المرات التي قرأه فيها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت المئة مرة! بل تدخلت تطبيقات هذا الكتاب في أدق التفاصيل العسكرية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تخطت تطبيقات هذا الكتاب الحروب لتصل إلى المجالات الإقتصادية والتجارية والبحث العلمي وغيرها من المجالات ذات الطبيعة التنافسية!
إن سون تزي مثال "حي" على عشرات الأموات التي تحكم أفكارهم مجريات الأحداث في العالم، فمثلاً، كتاب "الأمير" لمكيافيللي الذي كتبه ليؤكد على أن الغاية تبرر الوسيلة، والذي وصفه موسوليني، الزعيم الإيطالي في الحرب العالمية الثانية، بأنه "ملازم رجل الحكم"، أُعتبر بمثابة المحرك الرئيس لسياسات الدول الغربية منذ كتابته في أوائل القرن السادس عشر حتى اليوم، وقد تمخضت عن أفكار هذا الكاتب عدد من المدارس الفلسفية السياسية ذات التأثير القوي على مراكز صنع القرار في الغرب اليوم.
وكذلك مؤلفات الفيلسوف الفرنسي روسو التي كانت بمثابة "كتاب مقدس" لزعماء الثورة الفرنسية (عام 1789م) التي استطاعوا -بتطبيق أفكاره- قلب النظام وتحرير الشعب الفرنسي من النظام الملكي المستبد ومن ثم تحرير كافة الشعوب الأوروبية التي كانت تخضع لأنظمة مشابهة، بل حتى أن دساتير تلك الدول وقوانينها دخلتها أفكار روسو وآراؤه بشكل مؤثر وكبير وسُنَّ كثير منها على شكل قوانين ملزمة، مما جعله "حاكماً ميتاً" تسري أحكامه على الأحياء.
وفي القرن التاسع عشر نجد كتاب كارل ماركس الشهير "رأس المال" الذي وُزّع منه ما يقارب الـ500 مليون نسخة واعتبرت نصوصه مقدسة لدى الشيوعيين الذي أخذوا يتعاملون معها تعامل المتدينين مع نصوص الكتب المقدسة.
وفي مثل هؤلاء يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف: "إن المبدع يموت نصف موت، لأن روحه تظل من بعده في أعماله"، وذلك باعتبار أن فكر المبدع باقٍ ليحيا بعد موته.
وحتى أنه لو عدنا إلى جذور الأسباب التي أدت إلى أغلب الصراعات البشرية، لوجدنا أنها قامت -بالأساس- على تعارض بين عقائد وثوابت وضعها أشخاص مقدسون أو مبجلون لدى الأطراف المتصارعة، كتلك الصراعات التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت، والرأسماليين والشيوعيين وغيرها. ومن طرائف ما يذكر أنه في بداية حرب الخليج الأخيرة أطلق العراق صواريخ صينية الصنع مسماة باسم الإمبراطور الصيني "ييانغ" تجاه الكويت التي قاومتها ببطاريات دفاع جوي مصرية الصنع مسماة باسم الفرعون "آمون"، فبدا الصراع -تخيلياً بطبيعة الحال- بين الإمبراطور الصيني والفرعون المصري!!
أما في تاريخنا الإسلامي فسنجد -بعد الرسول عليه السلام وصحابته الكرام- أن الإمام أبو حنيفة هو صاحب السبق الفكري في بقاء أفكاره كمُنظِّمة لسلوك الأمة من بعده، فهو مؤسس علم الفقه الإسلامي الذي أصبح بمثابة الشريان الرئيس الذي يغذي العلاقات بين الأفراد في الأمة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قرناً، وقال عنه الشافعي:"الناس عيال على أبو حنيفة في الفقه" بمعنى أن أياً ما كُتب وبُحث في الفقه منذ تأسيسه حتى اليوم يعود بالفضل على الإمام أبو حنيفة باعتبار أن أفكاره هي التي أنشأت هذا العلم، فضلاً عن اعتبار المذهب الحنفي -القائم مباشرة على أفكار الإمام- هو المذهب الرسمي للدولتين العباسية والعثمانية مما جعله أكثر المذاهب الإسلامية انتشاراً وأكثرها تأثيراً، وبالتالي بقاء أفكار الإمام "المتوفى" وما تفرع عنها لتحكم العلاقات بين مئات الملايين من المسلمين الأحناف اليوم.
إن نظرتنا السريعة على هؤلاء "الأموات" الذين استطاعو أن يجعلوا أفكارهم حية تنمو وتتطور عبر الزمن رغم كونهم ليسوا أنبياء أو مؤسسي أديان، ورغم تجاوز مدة وفاتهم عشرات ومئات السنين، يجعلنا نفكر بعمق باعتبار أن الحياة ليست حياةً بقدر ما هي فرصة للحياة!
***
فلنجعل من حياتنا فرصةً لنحيا عبر التاريخ، بأفكارنا وإنجازاتنا، التي بواسطتها، وبواسطتها فقط، يحيا ذكرنا وتحفر أسماؤنا على صحائف التاريخ الخالدة.
عبدالله الجمعة