أم المؤمنين خديجه بنت خويلد رضي الله عنها
والله ما أبدلني الله خيراً منها... قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدَّقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس... حديث شريف
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية كانت تدعى قبل البعثة الطاهرة...
بداية التعارف
كانت السيدة خديجة امرأة تاجرة ذات شرف و مال، فلمّا بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالٍ لها الى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له مَيْسَرة، فقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخرج في مالها حتى قَدِم الشام.
وفي الطريق نزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فسأل الراهب ميسرة: (من هذا الرجل ؟ ) ... فأجابه : (رجل من قريش من أهل الحرم)... فقال الراهب: (ما نزل تحت هذه الشجرة قطٌ إلا نبي)...
ثم وصلا الشام وباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً الى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتدَّ الحرّ يرى مَلَكين يُظلاَّنه -صلى الله عليه وسلم- من الشمس وهو يسير على بعيره... ولمّا قدم -صلى الله عليه وسلم- مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فربحت ما يقارب الضعف...
الخطبة و الزواج
وأخبر ميسرة السيدة خديجة بما كان من أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- فبعثت الى رسول الله وقالت له: (يا ابن عمّ ! إني قد رَغبْتُ فيك لقرابتك، وشرفك في قومك وأمانتك، وحُسْنِ خُلقِك، وصِدْقِ حديثك)... ثم عرضت عليه نفسها، فذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك لعمّه الحبيب الذي سُرَّ وقال له: (إن هذا رزقٌ ساقهُ الله تعالى إليك)...
ووصل الخبر الى عم السيدة خديجة، فأرسل الى رؤساء مُضَر، وكبراءِ مكة وأشرافها لحضور عقد الزواج المبارك، فكان وكيل السيدة عائشة عمّها عمرو بن أسد، وشركه ابن عمها ورقة بن نوفل، ووكيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمّه أبو طالب...
وكان أول المتكلمين أبو طالب فقال: (الحمد لله الذي جعلنا من ذريّة إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسُوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله لا يوزن برجلٍ إلا رجح به، وإن كان في المال قِلاّ، فإن المال ظِلّ زائل، وأمر حائل، ومحمد مَنْ قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وقد بذل لها من الصداق ما آجله وعاجله اثنتا عشرة أوقية ذهباً ونشاً -أي نصف أوقية- وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل)...
ثم وقف ورقة بن نوفل فخطب قائلا: (الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردُّ أحدٌ من الناس فخركم ولا شرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله)...
كما تكلم عمُّها عمرو بن أسد فقال: (اشهدوا عليّ يا معاشر قريش أنّي قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد)... وشهد على ذلك صناديد قريش...
الذرية الصالحة
تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- السيدة خديجة قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وولدت السيدة خديجة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولده كلهم إلا إبراهيم، القاسم -وبه كان يكنى-، والطاهر والطيب -لقبان لعبد الله -، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة عليهم السلام... فأما القاسم وعبد الله فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه -صلى الله عليه وسلم-...
إسلام خديجة
وبعد الزواج الميمون بخمسة عشر عاماً نزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمنت به خديجة، وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قَصَب -اللؤلؤ المنحوت-، لا صخب فيه ولا نصب)...
فضل خديجة
جاء جبريل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إن الله يقرأ على خديجة السلام)... فقالت: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك السلام ورحمة الله)...
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خيرُ نسائها مريم، وخير نسائها خديجة)...
عام المقاطعة
ولمّا قُضيَ على بني هاشم وبني عبد المطلب عام المقاطعة أن يخرجوا من مكة الى شعابها، لم تتردد السيدة خديجة في الخروج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتشاركه أعباء ما يحمل من أمر الرسالة الإلهية التي يحملها... وعلى الرغم من تقدمها بالسن، فقد نأت بأثقال الشيخوخة بهمة عالية وكأنها عاد إليها صباها، وأقامت قي الشعاب ثلاث سنين، وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى...
عام الحزن
وفي العام العاشر من البعثة النبوية وقبل الهجرة بثلاث سنين توفيت السيدة خديجة -رضي الله عنها-، التي كانت للرسول -صلى الله عليه وسلم- وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها، وفي نفس العام توفي عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبو طالب، لهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسمي هذا العام بعام الحزن...
الوفاء
قد أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السيدة خديجة ما لم يثن على غيرها، فتقول السيدة عائشة: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة، فقلت: (هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها)... فغضب ثم قال: (لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذْ كفرَ الناس، وصدَّقتني إذ كذّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء)... قالت عائشة: (فقلتْ في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبّةٍ أبداً)
مواقف تربويه
وفي إحدى الليالي من رمضان وعلى وجه التحديد يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان من العام الأربعين لميلاده عليه السلام وفي أثناء تحنثه وتعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء نزل أمين الرسالة السماوية جبريل عليه السلام ناشرًا نوره السماوي على غار حراء والتقى بمحمد الأمين عليه الصلاة والسلام قائلاً: اقرأ.. فرد رسول الله عليه السلام بكل عفوية: لست بقارئ.. فرسول الله عليه الصلاة والسلام كان أميًا لم يتعلم القراءة والكتابة. فأخذه جبريل وضمه إليه فكان التقاء الأمينين أمين السماء وأمين الأرض وقد كانت ضمته قوية حتى إنه قد أجهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال له: اقرأ. فقال: لست بقارئ: ثلاثًا ثم قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ،عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: من 1 ـ 5]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره فأخبر بذلك خديجة وقال: قد خشيت على عقلي فثبّتته وقالت: أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتُقري الضيف وتعين على نوائب الحق.. تصديقًا وتثبيتًا وإعانة على الحق فهي أول صديق له رضي الله عنها.
وفاة خديجه بنت خويلد رضي الله عنها
في الشهر الذي توفي فيه أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم توفيت أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنين وقد حزن عليها حزناً شديداً لأنها كانت من أكبر أعوانه وأرق الناس له ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى توفاها الله تعالى إلى رحمته، وكان كثيراً ما يذكرها بعد وفاتها ويترحم عليها.