وكان من مؤيدات دعوات الرسل ،ومن الاثباتات التي جاؤوا بها ،هي المعجزات التي كان الله سبحانه وتعالى يجر يها على يد أنبيائه،وذلك لدعم موقف الرسول في قومه ،حتى يصدقوا دعواه ،بأنه مرسل من قبل الله عز وجل ،وأنهم عليم السلام يتحدثون باسمه سبحانه و تعالى فهذا سيدنا نوح عليه السلام،قد دعا قومه إلى عبادة الله ونبذ الأصنام والشرك،ولكن قومه رفضوا تلك الدعوة فدعا عليهم بقوله (ربِّ إني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا ) (القمر 18)
فكانت هذه المعجزة عقوبة للكافرين،وعبرة للمؤمنين الذين حملهم معه في السفينة،وهذا سيدنا موسى عليه السلام،أمر قومه بعبادة الله سبحانه وترك عبادة فرعون الذي ادعى الألوهية،فأراهم المعجزات تلو المعجزات وسلّط الله عليهم القمل و البعوض و الجراد ،وجاءتهم سنين القحط و المجاعة، وأراهم عصاه التي انقلبت حية تسعى ،تلقف كل ما يأفكون من السحر،وأراهم يده البيضاء التي يشع منها النور من غير سوء ،مما أدى إلى إيمان السحرة به وعامة القوم،وغرق فرعون وجنوده في البحر،عقوبة وجزاءًلمن كفر بالله ورسالاته .
وكذلك الأمر بالنسبة لسيدنا عيسى عليه السلام ،وكيف آمن الحواريون به من خلال معجزاته ،كإحياء الموتى وإبراء الأعمى و الأبرص ،ونفخ الروح في الطين فينقلب طيراً بأذن الله ،وإنزال مائدة من السماء فيها ما تشتهي الأنفس من الطيبات .
ولذلك طلب مشركوا مكة من نبينا عليه الصلاة و السلام إظهار معجزاته
(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا أو يكون لك بيتاًمن زخرف أوترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا) (الإسراء93)
وأجابهم بقوله تعالى (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)
( العنكبوت 51) ......
جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه و سلم يدعى أبي بن خلف يحمل بيده عظاماً نخرة ففتها بيده ثم ألقاها في وجه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : يامحمد هل يستطيع ربك أن يعيد هذه العظام إلى الحياة مرة ثانية فأجابه النبي صلى الله عليه و سلم نعم يعيدها و يعيدك وتدخل النار إن شاء الله تعالى فنزل قوله تعالى (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) (يس 79)
فهذا يعتبر ارتقاء في الدليل ، فلم يُجر النبي صلى الله عليه وسلم معجزةً حتى يقنعه بصحة كلامه ،وإنما ساق له دليلاً عقلياً أن الذي خلقها أول مرة قادر على ذلك وهو عليه أهون .
أيها الأخوة المسلمون
إن طفولة العقل البشري ،كانت تستدعى إيمان الناس بالرسل دون حوار أو مناقشة عقلية ،فالإيمان هو التصديق للرسول بشكل تسليمي مستند إلى معجزة الرسل،و الخضوع لسلطان المعجزة التي يجريها الله تعالى على يد أنبيائه أو تسليط العقوبات الإلهية على الأقوام المخالفة للرسل .
أما الامتناع الذي الذي أبداه نبينا عليه الصلاة و السلام للجاحدين و المشركين في عصره ،وإلى غيرهم من اللاحقين في العصور المقبلة يقتضيه حال الدعوة و الخصوصية التي تتصف بها خاتمة الرسالات والتي سيخاطب البشر جميعاً لكونها رسالة عامة تخاطب العقل الراشد ،الذي تجاوز مرحلة الطفولة العقلية السابقة،ودخل في مرحلة الرشد و التمييز
إذ أنه لن يكون هناك نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم،فكيف سيؤمن الناس من بعده دون معجزات ،وكيف سيعتنقون هذا الدين؟! ولذلك كان أعظم معجزة للرسول هي معجزة عقلية ،وهي معجزة خالدة باقية لا تنقضي بانقضاء الدهر وهي القرآن الكريم
يقول الأمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال مناقشاً موضوع المعجزة :إذا كان دليل صحة قولي أن 2+3=5 هو أنني أستطيع أن أحوّل العصا إلى أفعى ،فإن تحول العصا إلى أفعى ،سيجعل الناس متعجبين لفعلي وهم في دهشة كبيرة ،ولكن لن يكونوا مقتنعين تماماً بأن 2+3=5 فيجب أن يكون البرهان على صحة قضية من جنسها .
وهذا هو معنى قوله سبحانه (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا ) ( النساء 174)
و البرهان الإلهي على صحة دعوى النبي عليه الصلاة و السلام هو آيات الله في الكتاب ،وآيات الله في الآفاق – أي الكونية – وآيات الله في الأنفس أي علم التاريخ و الاجتماع،وفي هذا ارتقاءفي نوع الدليل
أيها الأخوة المؤمنون
نقول إن الإيمان التسليمي القائم على المعجزات و الخوارق فحسب مضى زمانه وجاء عهد (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق)
لقد جاء عهد (أفلا ينظرون إلى الأبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) (الغاشية 17)
لقد جاء عهد (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ( فصلت 53)
لقد جاء عهد (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)(طه20)
لقد جاء عهد (ويرى الذين اوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) (سبأ 6 )
فولادة النبي صلى الله عليه و سلم هو عهد ولادة العقل الاستدلالي الذي يدل على الله وصدق أنبيائه .
إن إصرار القرآن الكريم على النظر في الكون ،ومناشدة العقل على التجربة و الوقوف على أخبار الأمم السابقة ،هو من مصادر المعرفة الإنسانية،وتوجيه الإنسان إلى الطريق الجديد،فتح لديه آفاق المعرفة وخلق فيه روح النقد و البحث و النظر،وبذلك أصبح للإيمان بالله طريقاً عقلياً إضافة إلى الطريق النقلي الذي يعتمد على القرآن الكريم و السنة المطهرة ،فلم يعد يقبل التقليد الأعمى في الإيمان ،وقد قال الله تعالى آمراً عباده بالتعرف عليه من خلال صفاته المبثوثة في خلقه (فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ( محمد 19) فعن طريق العلم يجب على المرء أن يتوصل ويشهد بوحدانية الله تعالى أما قوله تعالى
(إنما يخشى الله من عباه العلماء ) ( فاطر 38 ) يدل على ارتباط العلم بالإيمان ،وكلما أزداد الإنسان علماً كلما كان من الله أقرب وذلك لقوة رسوخ الإيمان في قلوب العلماء،بعد أن حكموا عقولهم فيها آمنوا به ، فعلموا مصداقيتة
إذ أن القناعة الفكرية و العقلية تتحكم في سلوك الإنسان وتصرفاته فتجعل الإنسان لا يحيد عن الحق ويرفض الزيف و الباطل
لذلك كان النهج الذي سارت به الدعوة ،تطوراً في الخطاب الديني للبشرية و دستوراً عاماً للسالكين من الاتباع للعمل بالدعوة وهذا النهج يعتبر من خصائص ختم النبوة ،فلكي يحصّل الإنسان كمال معرفته لنفسه ،ينبغي أن يترك ليعتمد على وسائله هو ،و الأسلوب الحديث في التربية يدعوا إلى ترك الإنسان ليتعلم من تجاربه و أخطائه مع التوجيه الخارجي لهذا المتعلم ودون التدخل المباشر في تفاصيل عمله ،وهذا يسمى التعلم عن طريق اكتشاف الخطأ ، فالعمل هو طريق المعرفة و الذي لا يعمل لا يخطأ ولا يتعلم شيئاً يقول العالم (الكسي كارل) في كتابه العلم يدعوا إلى الإيمان
( إذا لم نسلّم بوجود إله لهذا الكون فإننا نعجز عن تفسير وجود هذا الكون تفسيراً علمياً )
فقد توصل هذا العالم إلى حقيقة دينية عن طريق العلم و ليس عن طريق الرسل و الكتب السماوية و
الذي يقرأ كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) يرى إجماع العلماء على إثبات هذه الحقيقة العلمية من خلال النظر في الكون و عظمته .
و العلم الآن يقرر و سيقرر مستقبلاً مع تقدم علوم الاجتماع و علم الأنفس و اكتشاف قوانين التاريخ وسير المجتمعات,سيقرر صحة ما جاءت به الأديان من فضيلة الفضيلة وضرورة التمسك بها,و التمسك بالأخلاق و المثل العليا وهو ما تنادي به الأديان .
وضرورة نبذ الأخلاق الفاسدة و الرذائل لما تؤدي إلى دمار المجتمع والانحلال و التفكك .
لقد أصبح عدد المصابين بالايدز اليوم ما يقارب (73 مليون إنسان) منتشرين في العالم وصيحات علماء الاجتماع تتعالى في كل مكان ,بضرورة التمسك بالقيم و الأخلاق و الفضيلة , و العودة إليها لتحصين المجتمع , وهذا عين ما تنادي به الأديان و الشرائع السماوية , لقد توصل الإنسان لهذه الحقيقة عن طريق العلم وهذا مصداق قوله تعالى (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) ( سبأ 6 )
وستصبح أدلة صحة القرآن الكريم من عالم الشهادة , لأن القرآن هو كتاب الله المسطور وعالم الشهادة هو كتاب الله المنشور , وسيشهد الواقع على صحة آيات الكتاب المسطور .
إن التقدم العلمي الذي نعيشه اليوم , و التطور الهائل للعلوم , لن يكون حصيلته إلا الإيمان العلمي بالله عزوجل , وصحة ما جاء به الأنبياء , ولن يزيدنا العلم إلا تمسكاً بالحق و الإيمان , و افتخاراً آمنا بالله غيباً قبل أن نراه مشاهدةً , وصدق الله العظيم عندما قال (سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) ( فصلت 53)
والحمد لله رب العالمين
