الفنان الفلسطيني بشار الحروب / ما بين أفق و شرقيات
دوما كنت أسائل نفسي ما الذي يشدني بقوة خفية إلى لوحات هذا الشاب ؟؟؟
بمعرضه السابق أفق وقفت مأسورا أمام إبداعه، وفي شرقيات
كنت اشعر أنني سجين لوحاته
عرفت بشارا شابا لطيفا جريئا بطرح أرائه منذ سنوات قلائل..كنت
اشعر بثورة من طموح تتفجر هادرة في حوارياتنا عن الثقافة والأدب
والفن...كنت اسعد به حين يزورني بمكتبي المتواضع وأجلس معه
ساعات بدون ملل أو كلل
حين دعاني إلى معرضه السابق أفق وبهدوئه الشديد الذي ينم عن ثقة كبيرة بالنفس، لم أكتف فقط بتلبية الدعوة بل بذلت جهدي بدعوة معارفي وأصدقائي إلى المعرض، كما قمت بالاتصال ببعض الأصدقاء في أجهزة التلفاز من أجل تغطية الحدث
كان افتتاح معرضه ذاك أشبه بعرس بعدد الحضور وجمالية اللوحات، أذكر أنني وقفت
طويلا أمام إحدى لوحاته بصمت وذهول...جاءني بشار متسائلا..قلت له لوحاتك أسرتني ولكن هذه اللوحة بالذات قد كبلتني، شكرني بشار بكلمات لطيفة فقلت له يا بني لا أجاملك...انت تعرفني جيدا، فلا تشكر أحاسيسي..أنا من يشكرك على منحي فرصة لتذوق جماليات تداعب مني الروح..تستحضر طيف حبي البعيد خلف الشمس..
كنت أسائل نفسي من أين يأتي بشار بهذه القوة بالتعامل مع الريشة واللون ؟؟ ...لكن نظرة إلى نشأته من الممكن أن تجيب على هذا التساؤل.. بشار من مواليد بلدة خاراس جنوب الخليل، بلدة جميلة جدا على سفح جبل تطل على سهوب وتلال..ربيعها وكأنه لوحة من جنان، طبيعة اهل جبال الخليل معروفة بالقوة والصلابة، وفي نفس الوقت الطيبة والكرم.. لذا لم يكن غريبا أن يأتي بشار بقوة الحفر بالريشة وقوة ألوانه المتدرجة بشكل أساسي بألوان الأزرق بتدريجاته من الغامق إلى الفاتح.. وكأنه يستدرج بريشته أفق السماء الممتد أمام عيونه منذ ولادته حتى شبابه، مستلهما ألوان الربيع الساحر وحقول العنب بهذه البلدة الجميلة...
بشار من مواليد عام 1978 نشأ وترعرع في بلدته خاراس تحت الم الاحتلال وقهره، فكان هذا عاملا مفجرا للقهر بنفسه شلالا من ألوان ترفض الاحتلال مضافا إلى عوامل الطبيعة المحيطة به، وما كاد يبلغ العاشرة من العمر حتى تفجرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كافة أرجاء الوطن ثورة بالحجر والصدور العارية لتضيف كما جديدا من التأثيرات على نفسيته، تأثيرات متمازجة بلون الدم المسكوب شهداء ودمعات أمهات تترقرق على الوجوه من أمهات شهداء وأسرى نالت بلدته منها نصيب.. لذا لم يكن غريبا سطوع اللون الأحمر القاني بقوة في لوحاته متمازجا مع الأزرق لون السماء والأصفر لون الشمس التي يحلم بها.. وساهم بصقل موهبته دراسته وحصوله على بكالوريوس فنون جميلة تخصص تصوير ومشاركته بالعديد من الورش الفنية، إضافة لعمله كمحاضر للفنون الجميلة والتصميم الجرافيكي.
وفي شبابه أتى إلى رام الله المدينة المتميزة بحركتها ونشاطها الثقافي والفني ولكن سائب مجيئه تفجر انتفاضة الأقصى بعنفوانها وقوتها، وسقوط الآف الشهداء والحصار على مدن الضفة، وكان لرام الله نصيب الأسد من ذلك لوجود مقر الرئاسة وتعرضه للحصار، وكان اجتياح رام الله في نهاية آذار لعام ألفين واثنين تجربة جديدة لبشار تركت أثرها عليه وعلى ريشته، فمنذ اليوم الأول للاجتياح جرى مداهمة بيته وتخريبه وتدمير اللوحات الموجودة فيه، وتم أسره مع عدد من اصدقائة الفنانين وجرى نقلهم مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين بظروف البرد وقسوة الجو إلى معتقل عوفر السيئ الصيت والسمعة، فالاحتلال لا يميز بين فنان ومقاتل، فالكل في نظره مقاتل ولعل الفنان مقاتل أخطر.
في طفولته كان بشار طفلا كثير الحركة، له مشاكسات طفل يتفجر بداخله ثورة قوية، فكان محبوبا من كل أمهات الحي الذي يقطنه، فنشأ ومفهوم الأم والأخت يلعب دورا كبيرا في حياته، عكسه بقوة في نسائه الشرقيات في لوحاته، فنجد المرأة الشرقية ممثلة بالأم تسكن خبايا اللوحات، فنرى بإحدى اللوحات امرأتين كسيوف مغروزة في الأرض منتصبة بشموخ فوق الخرائب، وفي لوحة أخرى ثلاث منها كسيوف أيضا، وكـأن بشار أراد أن يشير لنا أن الأم في فلسطين هي السيف المقاوم الشامخ المنتصب الذي لا يكسر ولا يهزم..
نجد الأم أيضا – المرأة – منتصبة القامة وكأنها مئذنة لمسجد، نجدها في قباب شرقية مثلت دوما جزءا من البناء التقليدي في بلدات الوطن، فتحولت النساء الأمهات المتلفعات باللباس التقليدي الشامخات بفخر بدون انكسار إلى عنان السماء، كأنهن مآذن وقباب بشموخ وعزة.
في ثنايا لوحات بشار نرى العديد من الرموز المخفية بالحواشي والدواخل، نرى وجوها بعيدة وعيونا تحدق بقوة إبصار، نجد طيورا ونجد ديكة لعلها ترمز إلى الفجر القادم، نرى شموسا وأقمارا ونجوما..اراه الغد..وكل ذلك متمازجا مع قوة الوان متدرجة من الأزرق الغالب على اعماله، إلى الأحمر القاني والأصفر المضيء متمازجا مع لون الأرض وأزهار الربيع وشقائق النعمان.
و لا بد من الإشارة إلى أن بشار زار المغرب وأقام فيها شهرا كاملا، سألته عن زيارته هناك وانطباعاته، قال لي لم اشعر بغربة إطلاقا، كنت أرى في وجوه النساء هناك أمي والأمهات في خاراس بلدتي.. رأيت أن نساء العرب جميعا بغض النظر عن المكان ومكان الإقامة هن نفس أمهاتنا في خاراس وأنحاء الوطن..
لذا نجد في لوحات بشار استحضار المكان واستحضار البيئة، استحضار الوطن والأم والأخت، استحضار المرأة الشامخة بعيدا عن زج جسد المرأة كجسد مجرد، ولكن المرأة الرمز بلباس أمهاتنا وجداتنا..فشعرت كم أعطى للمرأة قيمتها الحقيقية بتصويرها بأشكال شكلت أساسا في لوحاته، أساسا أعطى المرأة وقارها و احترامها وشموخها وحنانها فهي ينبوع الحنان ورمز للعطاء اللامحدود ...
أعجبني جدا ما قاله صديقي الفنان نبيل عناني رئيس رابطة التشكيليين الفلسطينيين عن معرض شرقيات لبشار الحروب ( لا يمكن أن يتساوى التعبير اللفظي أو المدون بالكلمات مع ما يدركه الإحساس البصري المرئي، على الرغم من أن اللغتين مختلفتان ولكنهما يقعان في مجال دائرة الإبداع، ومن الضروري أن يحاور كل منهما الآخر ليكملا بعضهما البعض .
أعمال بشار الأخيرة تؤكد على رؤية خاصة بعناصرها الإنسانية، تجبرك على التمعن والدخول إلى التجربة وتسير مع انسيابية الفرشاة التي تصطدم بين حين وآخر بألوان ساخنة تتمحور حول وجه طفل يطل عليك أو امرأة تحمل هموم الحياة.
ينقلنا بشار الحروب ضمن عشقه للون الأزرق إلى استمرارية الحلم الذي يحمل الأمل ورؤية صادقة تؤكد انتصار الحب والخير ).
هو هكذا بشار في لوحاته فنانا مبدعا معبرا، ريشته تحفر كإزميل في صخر، تتراوح خطوطه بين النعومة والقسوة، يجبرنا أن نقف بدهشة وصمت أمام تعابيره، كما قال لي يوما أثناء حوار بيننا ( أنا لا اهتم كثيرا إن لم تبع لوحاتي، يكفيني ما تمنحه لي هذه اللوحات من راحة لنفسي وأنا ارسمها )..
فنان نتاجه حتى الآن معرضان شخصيان وأحدى عشرة مشاركة منذ عام 2001 وحتى الآن، إضافة لمشاركات في معظم المعارض الجماعية في فلسطين، تنقلت مشاركاته بين الوطن واليابان والإمارات وفرنسا ولبنان ودبي والمغرب، إضافة لجداريتين في المغرب في الرباط وأصيله..
أكتب هذه الكلمات واشعر أنني لم أف بشار حقه، وأن لوحاته ما زالت تحمل بداخلها أسرارا كثيرة لم أتمكن من الوصول إليها، ولعلي أتمكن يوما ومع معرض جديد من الغوص أكثر في بحر شفاف
ومتلاطم في آن واحد من بحور إبداعات بشار الحروب
منقول