التحليل النفسي للرئيس الأمريكي السابق ( كلينتون)
التحليل النفسي لشخصية الرئيس كلينتون
السطحية والسذاجة ليستا بالصفات المناسبة للرأي الذي يربط بين الفضائح الجنسية للرئيس الأميركي وبين الأزمة العراقية، إذ أنه من المؤكد أن ضخامة المؤسسة، وتحديد توجهاتها لا يلغيان تأثير شخصية رئيس هذه المؤسسة في وسائل التعامل مع أهداف هذه المؤسسة ومصالحها. فالرئيس الأميركي عندما يدخل إلى البيت الأبيض يدخل معه حوالي الألفين من المستشارين والمساعدين. وعناصر هذا الجهاز تحمل معها تناقضاتها ومشاعرها وخصوصاً عواطفها السلبيّة، بدءاً من التمتّع بالسلطة، مروراً بمشاعر الثأر والحقد والانتقام، وصولاً إلى تأمين استمراريتها في السلطة. وتجنباً للخوض في التفاصيل، نرى مراجعة تأثير الدوافع النفسية للرؤساء الأميركيين السابقين في مصالح الولايات المتحدة ومواقفها. بل أننا نلاحظ طغيان هذا التأثير لدى بعض الرؤساء، مما طرح ضرورة الخلاص منهم سواء عن طريق الاغتيال أو عن طريق تفجير الفضائح في وجوههم.ردة فعل الناخبين الأميركيين كانت البحث عن أنبياء، يتولون رئاستهم ويتحملون مسؤولية تطبيق دستورهم الأميركي، الذي يرفعونه إلى مرتبة "التوراة الحديثة". لذلك فهم يصابون بالصدمة عندما تفتضح بعض عيوب نبيّهم المختار. لكن مشاعر الصدمة هذه تختفي إذا ما تأخر ظهور الفضائح إلى ما بعد خروج الرئيس من السلطة (وبالتالي من وضعية النبي). من هنا وصل اهتمام الناخب الأميركي إلى "أداء الرئيس في غرفة النوم"، وما إذا كان هذا الأداء يؤثر في أدائه الرئاسي.الأزمة العراقية الراهنة ( الأزمة التي فجرتها ادارة كلينتون في أواخر العام 1997) تمثل قمة الحيرة بالنسبة للمواطن الأميركي العادي. وليس أدل على هذه الحيرة من تناقض نتائج استفتاءات الرأي، التي أجرتها كبريات الصحف الأميركية، حيث راوحت نسبة مؤيّدي كلينتون ما بين 42% و76%، وهذا التأرجح حصل خلال أقل من أسبوعين!! مرد هذه الحيرة إلى إدراك الأميركيين المخاطر الجديدة المهددة لمصالحهم. وهي مخاطر من نوع جديد مختلف عن مخاطر فترة الحرب الباردة. ولعل أولى هذه المخاطر الجديدة، تتمثل ببعض الدول التي تعمل على سد الثغرات الناجمة عن سقوط الاتحاد السوفياتي، ومحاولتها لعب دور الشرطي الإقليمي، والعراق كان أحد هذه الدول. من هنا، فإن التحرك الأميركي في الخليج كان دائماً تحرّكاً استراتيجياً، بدءاً من تهديد كيسينجر، قبل عشرين عاماً، باحتلال منابع النفط، ومروراً بالعمل على تقنين تدفق النفط الخليجي، وتطبيق سياسة الاحتواء المزدوج، ووصولاً إلى تفجير الصراعات في الكويت والبحرين والعراق وإيران والبقية تأتي.ولكن كيف يطمئن الأميركي لقيادة هذه المواجهات على يد رئيس تزكم فضائحه السياسية والمادية والجنسية الأنوف داخل الولايات المتحدة وخارجها؟.الجواب باختصار شديد هو القيمة البراغماتية القائلة بأن الرخاء (الحفاظ على المصالح) هو الأهم، ولا توجد قيمة ما تفوق الرخاء أهمية.أما من جهة كلينتون المهدد بالفضائح وبالإطاحة من الرئاسة، فهل هو قادر على قيادة هذه المواجهة من دون التأثر بأجواء هذه الفضائح؟ وهل يمكنه التحكم في ردود فعله؟ وببساطة شديدة نصل إلى سؤال موضوعي صريح ومباشر هو : "هل تؤثر علاقة كلينتون بمونيكا في موقفه من العراق؟". الجواب هو نعم بالتأكيد، إلاّ أن التأثير الأكثر طغياناً هو علاقته مع امرأته هيلاري. فهذه العلاقة هي الحاضنة الرئيسية لفضائح كلينتون، خصوصاً أنها متورطة في جميع هذه الفضائح السياسية والجنسية والمادية، بل أن لهيلاري فضائحها الخاصة. والأهم من هذا وذاك أن نمط هذه العلاقة مختلف عن أنماط علاقات رؤساء الفضائح السابقين مع زوجاتهم. فعلى الرغم من طغيان شخصية جاكلين كنيدي، فإن زوجها نجح في عزلها عن التعاطي المباشر في شؤونه الخاصة. أما زوجة نيكسون فكانت غائبة تماماً. وهذا يختلف عن علاقة كلينتون الزوجية، وهو الذي احتاج عدة مرات إلى تدخّل الزوجة لإنقاذه. بدءاً من منصبه كحاكم ولاية، مروراً بفترة ترشيحه، وبفضيحة وايت ووتر غيت، وفضائح تمويل الحملة الرئاسية، وصولاً إلى الفضائح الجنسية.ويزداد ضغط هيلاري على زوجها من خلال عدد من التهديدات المبطّنة، التي لا يمكنه مواجهتها حتى لو تمكن من تحقيق وضعية "البطل الأميركي". من هذه التهديدات احتمال طلب هيلاري الطلاق بعد الخروج من البيت الأبيض، إضافة إلى أن شائعات العلاقات خارج إطار الزوجية لم توفر هيلاري. ومهما يكن، فانطلاقاً من مسلمة علمية تؤكد أثر الدوافع النفسية في سلوك الشخص وفي أدائه، وأيضاً انطلاقاً مما ذكرناه أعلاه نجد أن متابعة السلوك العام لكلينتون وتحليله، سيكونان على علاقة مباشرة بأدائه في الأزمة العراقية بوصفها متزامنة مع أزماته الشخصية.
1ـ التحليل النفسي لسلوك كلينتون : من خلال المعلومات المتسرّبة والمتوافرة عن الرئيس كلينتون، فإن من الممكن طرح فرضيات مدعومة حول بعض ملامح شخصيته وسماتها. ونبدأ بـ :
أ ـ التدمير الذاتي : إن قضية العلاقات الجنسية للرئيس هي قضية مثيرة للجدل في أوساط الناخبين الأميركيين، وهي مسألة يدركها الجميع. حتى أن كلينتون كان قد اضطر للدفاع عن نفسه، واستعان بزوجته لدفع تهمة جنسية وُجهت إليه أثناء الانتخابات. ومع ذلك فهو استمر غير مبال في تحرشاته الجنسية. وهذا يعكس سلوك التدمير الذاتي الذي يجده مثلاً لدى مدمن المخدرات، الذي يدرك الأضرار من تعاطيها، وهو مع ذلك يستمر في إدمانها.
ب ـ سلوك المقامرة : وصل كلينتون إلى سدة الرئاسة عقب سلسلة من المقامرات. فهو قامر بالحصول على تمويلات لحملته الانتخابية بصورة ملتوية، وقد ظهرت أخيراً دلائل على تلقّيه مساعدات خارجية بهذا الشأن. ونجاح مقامراته جعل المعلقين يصفونه بالقدرة على استغلال الثغرات في نظام فاسد. ولن ننسى مقامرات كلينتون في المجال المالي، وديونه فيه، وأيضاً مقامراته المتكرّرة بحياته الزوجية.
ج ـ الخوف من المستقبل : ولهذا للخوف أسبابه الموضوعية المبرّرة. فهو سيخرج من الرئاسة مثقلاً بالديون ليواجه باحتمالات أفضلها تعيينه رئيساً لجامعة يال، إضافة إلى ما يتسرب من احتمال طلاق هيلاري له. وهو سيحال على التقاعد وعمره 54 سنة، ومن الطبيعي أن يخشى من "اضطرابات المتقاعدين". وهذا الخوف من المستقبل الذي دفعه، ومنذ سنوات، للشكوى من عدم وجود كارثة تختبر فيها رئاسته فتعطيه دفعاً معنوياً للمستقبل. وفي غيابها حاول دفع عملية السلام جتى رشح لجائزة نوبل. وهو أدرك أن قرار السلام ليس بيده من خلال مواجهة نتنياهو له. لذلك تحوّل إلى المقامرة بخلق كارثة تدعم خوفه من المستقبل.
د ـ التبعيّة الاعتمادية : في التصنيف النفسي – السياسي ينتمي كلينتون إلى النمط المنفعل – الإيجابي، مثله مثل الرئيس السابق ريغان. وخصائص هذا النمط أنه مساير ومتعاون أكثر مما هو ذو شخصية قوية وحيوية مع مسحة من التفاؤل. وهو يفاوض بشكل جيد ولكنه يحيط نفسه بالأصدقاء القدامى الذين يجلبون له العار، ويفجرون الفضائح من حوله. هذه التبعية للأصدقاء، تبدأ بالزوجة، وتمر بالمؤيدين، أصحاب الفضل، وتصل إلى الأصدقاء الطامحين.
لقد أثارت زوجة ريغان فضائح عديدة من حوله، بدءاً من اعتماد التنجيم مرجعاً للقرارات، ومروراً بشبهة علاقاتها الجنسية، وصولاً إلى دفع زوجها للكذب، وتوريطه بصداقات غير مأمونة. لكن عفة ريغان الجنسية ليست موضوع مناقشة، إذ تبدّت لديه علائم تصور الغدد الجنسية واضحة. في المقابل فقد كافأ كلينتون أصحاب الفضل في تجديد فترة رئاسته بإحداث تغيرات أساسية في هيكلية مساعديه. ولم تقصّر زوجته بالفضائح المالية (وايت ووتر) ولا الجنسية، كما لم تقصّر في تفجير خلافاتها معه. وهي حافظت على تبعيّته بالتستّر على فضائحه الجنسية.
هـ ـ الرغبات المتناقضة : يريد كلينتون احتلال مكانة مميّزة بين الرؤساء الأميركيين،وهي رغبة جامحة لديه، لكنه يريد في المقابل أن يرضي غرائزه الجنسية، وأن يحتاط لخروجه من البيت الأبيض. ثم أنه يريد دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، لكنه يتحرّق لتحقيق نصر عسكري في منطقة الخليج. وهو يريد احتواء الدول الاشتراكية السابقة، لكنه يوسع حلف الأطلسي. هو أيضاً يعمل على استمرار سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، لكنه يريد ضرب العراق وإخراجه نهائياً من هذه السياسة…الخ.
وبما أن الحصول على الأهداف المتناقضة متعذّر، فإن فشل تحقيقها يدفع الشخص إلى الكذب الذي مارسه كلينتون في المعلومات التي أدلى بها حول وايت ووتر، وحول علاقاته النسائية، وحول موقفه من إيران ومن عملية السلام…الخ. ولعلها التبعية المشار إليها أعلاه هي التي تكسبه مرونة في التعامل مع الأجهزة الأمر الذي يجنّبه مصير كنيدي، الذي لم يكن يملك مثل تلك المرونة.
2ـ أداء كلينتون الرئاسي : لا بد لهذا الأداء من أن يتأثر بالسمات الشخصية، وفي طليعتها المقامرة. ففي قراءة موضوعية نجد أن حظ كلينتون سينقذه من رئاسة ثالثة (يمنع ترشيحه لثلاث فترات). نقول من حظه، لأن الفترة الرئاسية المقبلة ستترافق مع دخول الولايات المتحدة حقبة زمنيّة شديدة الصخب ( هذا البحث منشور بتاريخ 3/1/1998).. فهي لم تستطع لغاية الآن تعديل وجهة مصالحها السياسية والاقتصادية بما يتناسب مع واقع ما بعد الحرب الباردة. كما أنها تنتظر بفارغ الصبر قيام القطب المواجه بالإعلان عن نفسه كعدو حضاري لها، يساعدها على استعادة توجهها في الزمان والمكان. فهل يستفيق المارد الصيني؟ أم يتكرّس الإسلام كعدو حضاري؟ أم ترى تتحقّق نبوءة نيكسون في مذكراته بترشيح أوستراليا لخلافة الدور الأميركي؟ أما الخطر وعوامله داخل الولايات المتحدة، فإنها غير مرشحة للتجاهل خلال السنوات المقبلة. وهذا ما ينبّه إليه "صموئيل هنتنغتون" في مقالته عن تآكل المصالح الأميركية. ولا شيء يقف في وجه التحول الداخلي الأميركي إذا ما تآكلت مصالحه، وفقد الرخاء المادي، الذي يشكّل المادة اللاصقة الوحيدة للفسيفساء الأميركية.
من هنا القول بأن سعي كلينتون لعرض عضلاته الرئاسية هو سعي معاكس لمجرى الزمن. والحكمة تقتضي منه العمل الهادئ على إعادة توجيه المصالح الأميركية بالاتجاه الصحيح، وعدم الشكوى من الفارق بين قوة الولايات المتحدة العسكرية، وبين حجم نفوذها الفعلي، لأن هذه الشكوى تدفعها إلى خلق أعداء وهميين ( وهذا ما فعلته ادارة بوش الإبن بعد 3 سنوات من نشر هذا البحث). فهل لدى العراق ما يجعله عدوّاً حقيقيّاً، أم أنها الحاجة الكلنتونية الملحّة إلى اختلاق عدو حتى ولو كان وهمياً؟ أم أنها مقامرة جديدة بالإعلان عن نهاية الاحتواء المزدوج وإبدالها بسياسة التفتيت العنقودية التي من شأنها أن تهدد كل المصالح الأميركية في كل العالم. ( وهذا الكلام الموجه لكلينتون وقتها يصح اليوم توجيهه الىسياسة الرئيس ووكر بوش الذي اندفع في الاتجاه الخاطيء الذي حذر البحث كلينتون من سلوكه).