أسرار الصيام
الحمد لله الذي جعل الصيام حصنا لأوليائه . وجعل شهر رمضان موسما للخيرات ، وجعل فيه من الفوائد ما لا يعد ولا يحصى ، وجعله شهر الصبر . حيث قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام : ( الصوم نصف الصبر ) رواه ابن ماجه.
وقال عليه الصلاة والسلام : ( صوم شهر الصبر يعني رمضان وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر ) رواه البزار عن علي رضي الله عنه . وقال تعالى : (( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ )) ( الزمر : 10 ) .
وناهيك في معرفة فضله قوله عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) رواه البخاري .
والصوم في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد كسائر العبادات . ولذا يقول عنه المولى عز وجل في الحديث القدسي : ( الصيام لي وأنا أجزي به ، يترك طعامه وشرابه من أجلي ) رواه البخاري .
فالصوم إمساك وكف عن الشيء هذا في اللغة .
أما في الشرع : فهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبد لله تعالى .
والناس في الصوم ثلاث درجات :1- صوم عامة الناس وهو الإمتناع عن الأكل والشرب والجماع .
2- صوم الصالحين وهو بالإضافة لما سبق كف السمع والبصر واللسان وسائر الجوارح عن الآثام والحرام .
3- صوم الأبرار وهو بالإضافة لما سبق صوم الفؤاد عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية .
* شروط وجوب الصيام :
من المعلوم أن للصوم شروطا كما لسائر العبادات ، فمن ذلك الإسلام ، فلا يصح من كافر .
والبلوغ والعقل شرطان لقوله عليه الصلاة والسلام : ( رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل ) رواه أبو داود .
ومن الشروط القدرة على الصوم ، والإقامة ويخرج بذلك المسافر وشاهده قوله تعالى : ] وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [ ( البقرة : 184 ) .
* ومن المفيد ذكر أصحاب الأعذار في الفقرة التالية :
الأعذار المبيحة للفطر في رمضان :
1- المجنون وهذا لا يجب عليه الصوم كما ذكرنا في الحديث السابق ولا يجب الإطعام عنه ، ولا يصوم عنه وليه . وإن كان كبيرا لأن المجنون والحالة هذه غير مكلف ، ومثله المعتوه ، والمسن الكبير الذي لا تمييز له .
2- الصغير غير المكلف . وهذا يؤمر بالصيام ولا يجب عليه . وإن صام صح صومه .
3- الكافر لا يصح منه الصوم كما أشرنا لأن من شروط ذلك الإسلام . ولا يجوز أن يعبد الله بالصيام وهو يشرك معه دعائه وعبادته وسائر أفعاله .
4- العاجز عن الصوم لمرض وألم يشق معه الصوم أو لكبر فلا يجب الصيام عليه ، وإنما يطعم عن كل يوم مسكينا وهذا في حال كون المرض لا يرجى برؤه .
5- المريض مرضا طارئا ويرجى برؤه يفطر للمشقة دفعا للحرج والكلفة . وإذا تعافى يقضي ولا يطعم عن الأيام التي أفطر فيها .
6- الحامل والمرضع تفطران إن خافتا على نفسيهما وعليهما القضاء ، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء والفدية وهي مد من البر ( الحنطة ) عن كل يوم لمسكين من المسلمين وهو ما يعادل ( 600 ) غرام تقريبا أو نصف صاع من غير البر كالذرة والشعير وهو ما يعادل كيلو ومائتي غراما تقريبا .
7- الحيض والنفاس فإن كلاهما عذر يمنع من صحة الصوم فإن طرأ على المرأة الصائمة حيض أو نفاس في وسط النهار فعليها وجوبا الفطر وقضاء ذلك اليوم والأيام الفائتة وإذا طهرت في ليلة رمضان قبل الفجر فعليها أن تمسك عند الفجر وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الشمس ودليله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم ) أخرجه البخاري و مسلم باب الصائم يصبح جنبا .
8- الردة عن الإسلام وهي مانعة من الصيام كسائر العبادات لخروج المرتد عن أهلية العبادة بالشرك مع الله .
9- المضطر لإنقاذ غريق أو مصاب في طريق فعليه وجوبا الفطر لأجل إنقاذ المسلم ويقضي بعد ذلك فقط .
10- المسافر إن شاء أفطر وإن شاء لم يفطر وذلك حسب حاله لقوله تعالى : [ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ] ... الآية ( البقرة : 185 ) . ولحديث أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أصوم في السفر ؟ وكان كثير الصيام ، فقال : " إن شئت فصم وإن شئت فافطر " أخرجه البخاري في باب الصوم في السفر والإفطار .
* سنن الصيام :
من السنن التي يختص بها المسلم في شهر رمضان :
- تأخير السحور ، وتعجيل الفطور لقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ، وأخروا السحور ) رواه أحمد .
- وإن من الأفضل الفطر على رطب فإن لم يجد فعلى تمرة فإن لم يجد فعلى الماء . وذلك قبل الصلاة . فإن لم يجد أفطر بالنية بقلبه .
- ومن السنن الجود في شهر رمضان ومدارسة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، والإكثار من الطاعات .
- وتجنب المنهيات وترك المحرمات والكلام الفاحش البذيء والسب والشتم ، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ( رواه البخاري ) وإن سابه أحد أو شتمه فليقل إني صائم امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل فإن سابه أحد فليقل : إني أمروء صائم ) متفق عليه .
- ومن السنن الاعتكاف في شهر رمضان وفي العشر الأخيرة آكد . ولا يخرج المعتكف من مكانه إلا لحاجة .
- ويجوز للصائم أن يتسوك في أول النهار وآخره ، وهو سنة في حقه كالمفطر .
* مفطرات الصائم :
1- الأكل والشرب وما في حكمهما من دخان أو غيره وبمعنى آخر الكف ما هو محسوس إلى الجسم سواء كان نافعا أو ضارا .
2- الجماع فإن جامع متعمدا في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة المغلظة وهي عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .
3- والدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله هلكت . قال : ( مالك ؟ ) قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر والعرق : المكتل قال : أين السائل ؟ فقال : أنا . قال : خذ هذا فتصدق به . فقال الرجل : على أفقر مني يا رسول الله ؟ فو الله ما بين لا بتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال : أطعمه أهلك ) أخرجه البخاري في كتاب الصوم .
4- إنزال المني يقظة باستمناء أو مباشرة أو مداعبة أو تقبيل ونحو ذلك . ومعلوم أن تقبيل الزوجة لا يفطر ما لم ينزل ، ولكن يكره ذلك في حق من لا يتحكم في شهوته إلا أن يكون شيخا كبيرا أو مالكا لإربه فلا بأس ، وتركه أولى لأنه وسيلة إلى الشهوة من غير قدرة على التحكم بعد الإثارة ، وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه ) أخرجه البخاري .
5- حقن الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشراب ، وأما الإبر التي لا تغذي ولا يستغنى بها عن الطعام والشراب فهذه والله أعلم لا تفطر فهي ليست بمعنى الأكل والشرب .
6- والأصل صحة الصيام حتى يثبت فساده بمقتضى دليل شرعي وهذه تشمل الإبر في الوريد والعضل . وسواء وجد طعمها في حلقه أو لم يجد ذلك . وإن كان استخدامها في الليل لمن كان غير مضطر أفضل وأحوط .
7- تعمد إخراج القيء . فإن تعمده فسد صومه وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه . وإذا بلع النخامة من حلقه أو صدره لم يفسد صومه لعموم البلوى . وإن بلعها بعد وصولها إلى فمه فسد صومه وعليه القضاء .
8- إخراج الدم بالحجامة ونحوها فأما خروج الدم من جرح كالرعاف وخروجه بقلع ضرس ونحوهما فلا يفسد الصوم لأنه ليس بحجامة ولا بمعنى الحجامة ولقد قال عليه الصلاة والسلام : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه البخاري .
* شروط الصوم الباطنة :
إن للصوم شروط واجبة واضحة وله شروط باطنة وحيث أشرنا إلى شروطه الواضحة الواجبة فسنذكر في هذا السياق أمور ستة هي :
1- غض البصر عن النظر إلى المحرمات وإطلاق النظر إلى وجه محرم ينافي كمال الصيام قال تعالى : [ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ] ( الإسراء : 36 ) ومعلوم أن الجوارح أمانة وقد اعتاد بعض الناس - هدانا الله وإياهم إلى رؤية بعض المنكرات كرؤية المتبرجات غير المحتشمات وهذا كله واجب الاجتناب في شهر الصيام وغيره .
وتأكده في شهر الصيام ظاهر لحرمته ، وفي الحديث القدسي ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى ) رواه البخاري .
2- كف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم من ذلك آلات اللهو والمعازف - ولذلك سوى المولى عز وجل بين الاستماع للحرام وأكل السحت قال تعالى : (( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )) ( المائدة : 42 ) والمعازف كلها حرام إلا ما دل الدليل على حله وهو الدف للنساء فقط حال أيام العرس .
3- حفظ اللسان عن الهذيان ، والغيبة والنميمة والكلام الفاحش ، والخصومة والمراء وذلك لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصيام جنة ، فلا يرفث ، ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله ، أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين الخ ) أخرجه البخاري .
* باب فضل حفظ اللسان في الصوم :
1- كف بقية الجوارح عن الآثام فاليد تكف عن البطش ، والرجل عن المشي في الحرام ، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار من شرب دخان أو أكل حرام ، فلا معنى للصوم عن الطعام الحلال ، ثم الإفطار على الحرام .
2- والصائم لا يترك ذلك إلا تلذذاً وإيثاراً لمحبة الله ومرضاته على شهوات نفسه ومثل الصائم الذي يفطر على الحرام كمن يبني قصراً ليهدم مصراً . وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ) رواه ابن ماجة .
3- فقيل : هو الذي يفطر على الحرام ، وقيل : هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهذا حرام ، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام .
4- أن لا يملأ بطنه عند الإفطار من الأكل وإن كان ذلك حالاً لقوله عليه الصلاة والسلام : ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه . وذلك لأن قلة الأكل تقوى المسلم على العبادة و القيام بعكس البطنة ، و هي ملء البطن وقد قيل : ( البطنة تذهب الفطنة ) وكما هو معلوم فإن من حكم الصوم تعويد النفس على ترك الأكل وترويض المعدة على قلة الأكل ، حتى يستفاد من الصوم في كسر الشهوة وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى ، وللتضييق على الشيطان لأن الشطيان يجري من ابن آدم مجرى الدم فالصيام يضيق عليه . وإذا حصل أن الإنسان أكثر من الأكل عند الإفطار فإن ذلك يرفع الشهوة ولن يحصل تضعيف قوى الشهوة إلا بالقليل من الأكل .
ولكن المشاهد في رمضان أن السمنة تزيد في غالب الناس أكثر من غيره من الشهور ، ولقد شاعت أنواع من الحلويات والأطعمة والمأكولات لا تعرف إلا بشهر رمضان ، ومن المعلوم أن الإسراف منهي عنه في سائر الأيام وفي رمضان آكد وأبلغ . قال تعالى : [ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ] . ( الأعراف : 31 ) والإسراف محظور والاقتصاد نصف المعيشة ومن لديه فضل مال ، فليتصدق به على من لا فضل له .
5- أن يكون قلب المسلم بعد الإفطار مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أتقبل صيامه أولا ؟ , فإن قبل فهو إن شاء الله من المقربين ويبشر بالجنة وإن رد عليه فهو من الممقوتين المبعدين .
6- وفي الختام أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ممن تقبل صيامهم وقيامهم وأن يبصرنا للتفقه في ديننا إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .