عبادتان في وقت واحد .... بقلم: فضيلة الدكتور عبد الوهاب الناصر الطريري
بينما الصحابة ينتظرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليُصلي بهم صلاة الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة؛ إذ خرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا هو يحمل على عاتقه أمامة ابنة بنته زينب، وأُقيمت الصلاة وسُويّت الصفوف، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مصلاه، ثم كبّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة والصبيّة على حالها قد ارتحلت عاتقه الشريف، حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها برفقٍ في الأرض، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده أخذها فاحتملها على عاتقه مرّة أخرى، ثم قام حتى أتـمّ صلاته والصبية على عاتقه إذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
1- يبين هذا المشهد كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعيش حياته ببساطة وعفوية؛ إذ يخرج من بيته إلى الصلاة حيث يحتشد الناس في المسجد، وعلى عاتقه طفلة صغيرة هي ابنة بنته في مشهدٍ هو أبعد ما يكون عن التواقر المتكلّف ومراسم الهيبة المصطنعة، ولكنه الوضوح في الحياة البشرية والتجاوب التلقائي مع المشاعر الإنسانية، ومع ذلك فإن بساطته -صلى الله عليه وسلم- لم تنقص من مهابته، و قد أُلقيت عليه المهابة، وكُسِي بالوقار والجلال، ولكنه كان بسيطًا في عظمته، عظيمًا في بساطته، واضحًا في بشريّته: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 93].
2- إن مشهد الطفلة وهي ترتحل عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعصب بيديها الصغيرتين رأسه متشبثة به صلى الله عليه وسلم يكشف أن هذا المشهد امتداد لمشهد قبله كان داخل بيت النبوة، ويوحي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان في بيته بحال مناغاة وملاعبة لهذه الطفلة، وعندما أراد أن يخرج للصلاة كانت في أوج تعلقها به، فلم تتركه يخرج، ولم يتركها تبكي، وإنما احتملها على عاتقه، وخرج بها في مشهد إنساني يضج بالمشاعر الأبوية الدافقة والرحمة النبوية الغامرة.
3- خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى عاتقه بُنيّة أنثى والأنوثة في هذا المشهد مضاعفة. فهي بنت بنته. ثم يخرج بها إلى الصلاة أمام صفوف المصلين، ويُصلي وهي على عاتقه ليُقدم درسًا عمليًا في الحفاوة بالبنات. وليقضي على بقايا جاهلية في النفوس، والتي كانت تميل مع الأبناء كل الميل، وتزدري البنات، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }(58) {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل: 58 - 59] ، فما أبعد المفارقة بين من يتوارى عن القوم؛ لأنه بُشّر بالأنثى وبين من يخرج إلى حشود الناس وعلى عاتقه البنت الأنثى.
4- إن هذا الحنان والرحمة بهذه الصبيّة الصغيرة هو بـرٌّ تتسع دائرته لتشمل أمها زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي ستعيش فرحة مضاعفة لمكانة ابنتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويا لله لقلب زينب لو قد سُئلت أين ابنتها، فأجابت: حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج بها إلى الصلاة!!
إن البر بالبنات يتجاوزهن إلى البر بأبنائهن وبناتهن فتتسع دائرته وتتتابع حلقاته.
5- إن الذي حمل بنت بنته في صلاته، يضعها إذا سجد، ويحملها إذا قام هو الذي قال: "وجُعلت قرة عيني في الصلاة". فهو أعظم الخَلْق خشوعاً وتعظيماً لقدر الصلاة. ومع ذلك لم يكن في حمله لبنته في صلاة مفروضة على هذه الصفة إخلال بحق الصلاة، ولكنْ إيضاح لجوانب اليسر في الشريعة، ولذا علّق الإمام الذهبي على هذه القصة بقوله: فماذا يفعل الفقيه المتنطع بذلك؟!
وليس ببعيد أن نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يؤدي عبادتين في وقت واحد: صلاته لربه وإحسانه لبنته وبنت بنته، وإنه جمعهما في هذا المقام.
