" مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
الفصل الأول
أطلت الشمس باستحياء مبددةً ظلام الليل، محاولةً اختراق ركام السحب الكثيفة، باعثةً الضياء في المدينة الغارقة في الظلام، والمبتلة بفعل الأمطار؛ وعلى ضوء النهار الوليد أسرعت سيارة تشق عباب طريق الملك فهد الممتد وسط مدينة الرياض، والرذاذ يتطاير خلفها، وصاحبها يزيد من سرعتها، وهو يرقب بخوف المرآة الخلفية، ويتابع بقلق سيارتين سوداوين، أُطفئت أنوارها .. واتخذت طريقها بسرعة .. نحوه!
أخذ يبحث عن أقرب مخرج من هذا الطريق السريع، عندما لمح لوحة عريضة (طريق الأمير محمد بن عبدالعزيز "التحلية")، ودون أن يخفف من سرعته دخل طريق الخدمة، وعندما وصل إلى الطريق خفف سرعته مستخدمًا فرملة اليد، وانعطف بقوة وسيارته تعلن احتجاجها بهدير محركها القوي الذي كان يدور بأقصى سرعة، كاد أن يفقد توازن السيارة مع هذا الانعطاف الانتحاري وانزلاق السيارة على الأرض المبتلة، وبعد أن أعاد المكابح إلى وضعها الطبيعي ضغط على دواسة الوقود بكل قوة، ولم يعر الإشارة الضوئية الحمراء الاهتمام اللازم، وهو يرمق المرآة الخلفية بنظرة متوترة، ويتساءل في داخله، هل رآه من يتبعه!
لم يطل التفكير، فانعطف إلى اليمين مرة أخرى داخلاً شارعًا فرعيًا، وبدأ يتنقل بين الشوارع الضيّقة وهو محافظ على سرعته الخطرة، ومتجهًا نحو الجنوب، إلى أن أقبل على شارع الأمير سلطان بن عبدالعزيز (الثلاثين)، وقصد إحدى العمارات مقتحمًا مواقفها السفلية، ومحطمًا الحاجز الحديدي بكل قوة.
أوقف سيارته، ونزل منها بسرعة ملتقطًا حقيبة جلدية سوداء اللون، وأغلق الباب بعد أن تأكد من تأمين كافة الأبواب، وفتح صندوق السيارة، والتفت حوله بسرعة، وعندما لم يجد أحدًا، خلع ثوبه ورماه في الصندوق، وأخرج لباسًا رياضيًا أخضر اللون ولبسه بسرعة، ولبس نظارة سوداء، واعتمر فوق رأسه قبعة بيضاء اللون، وأغلق الصندوق، بعد أن رمى فيها كل ملابسه القديمة، ثم التقط حقيبته الجلدية وأسرع يركض نحو المخرج.
***
في شارع الثلاثين، كانت هناك سيارة أجره انهمك صاحبها في إصلاح إطارها الخلفي، وبدون تردد تقدم نحو صاحب سيارة الأجرة قائلاً:
- مرحبا ... هل أساعدك في تصليح ساعتك؟!
رفع صاحب الأجرة عينيه نحوه، وهز رأسه قائلاً:
- ولكن الوقت مازال مبكرًا.
- لا بأس .. فالشمس تغرب هنا متأخرة!
بعد تبادل هذه الكلمات العجيبة، التي لم تكن سوى كلمة السر، فتح صاحب الأجرة باب سيارته الخلفي، وأشار إليه قائلا:
- تفضل بالركوب يا سيّد (ماجد).
انطلقت سيارة الأجرة براكبها الوحيد تجوب شوارع الرياض المبتلة، إلى أن توقفت أمام منزل قديم، في مكان مهجور، نزل (ماجد) من السيارة، ودفع للسائق مبلغًا من المال، والسائق يبدي امتعاضه من المبلغ القليل.
وقف (ماجد) يرمق السيارة وهي تغادر المنطقة مسرعة، حتى اختفت وراء الأفق، تلفت حوله بحذر، وعندما اطمأن إلى خلو المنطقة من أي تواجد بشري، تقدم ناحية الباب القديم، وتجاهل الجرس ، ورفع يده وقرع الباب لثلاث مرات متوالية، وتوقف هنيهة، ثم عاد وقرعه مرة واحدة.
بدا المنزل مهجورًا ولا أثر للحياة فيه، ولكن سرعان ما بدأت أصوات فتح الأقفال تتعالى من الداخل، وانفتح الباب ببطء ليكشف عن مدخل متهالك بأرضية أسمنتية وعرة، وجدران مطلية بالجص الأبيض، تحمل بين جوانبها آثار خلفتها عشرات السنين، دلف (ماجد) إلى الداخل بهدوء، والتفت ينظر إلى من يقف خلف الباب، حيث كان هناك شاب في أوائل العشرين من عمره، يعالج أقفال الباب في مهارة، وبعد أن انتهى، التفت نحوه ومد يده قائلاً والسعادة تطل من عينيه:
- السيّد (ماجد) .. أنا (سلمان) ... إنه لشرف عظيم أن ألتقي بك شخصيًا، أرجوك تفضل معي فالقائد ينتظر وصولك.
تقدم (سلمان) يقوده إلى غرفة جانبيه، التي بدأت مغايرة تمامًا للمظهر الخارجي للمنزل، فعندما دخلها أحس (ماجد) بأنه قد انتقل إلى مكان آخر، فالإضاءة الساطعة، والديكور الخشبي الحديث، والغرفة الأنيقة التي تناثرت فيها الشاشات والأجهزة غريبة الشكل، بدت مغايرة للمكان كله.
خلف مكتب كبير، وضع عليه عدة شاشات متصلة بجهاز حاسب آلي عملاق، نهض رجل خط الشيب عارضيه، وبخطوات واسعة تقدم نحو (ماجد)، ومد يده قائلاً:
- (ماجد) .. قد لا تعلم مدى سعادتي لرؤيتك، خصوصًا بعد كل ما مر بك!
التقط (ماجد) يده بلهفة، وشد القبضة عليها، وهو يتأمل قسامة وجه (القائد) ويسترجع كل ما يعرفه عنه، فبالرغم من أن هذا هو لقاءه الأول به، إلا أنه قد حفظ كل العمليات التي قام بها القائد، ابتداءً من بطولاته في حرب الخليج، ومرورًا بالعمليات الخاصة التي قام بها شخصيًا.
- بل أنا من يكاد يطير فرحًا بلقائك أيها القائد.
قال ذلك (ماجد) وهو يطلق يد (القائد) الذي أشار له بالجلوس.
.
.
.
و للحديث بقيّة ..
مشاركة: رد: " مملكة البنقال "
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد™
رد: مشاركة: رد: " مملكة البنقال "
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رجل الظلام
شكرا سيدي لهذه الثقة
العمل لصاحبه : محمد الداود ولتميزه وروعته قدمته هنا راغبا في متابعته مؤجلا تسجيل اسم صاحبه في ختام الرواية حتى نكسب متابعة العمل
تقديري لك وللجميع
رد: " مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
تتمة الفصل الثاني:
.
.
استعاد (ميزان) دفة الحديث وقال وهو يخاطبهما :
- لو كان هاتفك لدى العامل الذي أخذه مني، لكان الأمر سهلاً، ولكني وإياه مجرد عاملين بسيطين المسؤول عنّا وعن قرابة عشرة منّا عامل آخر ، والذي من مهامه تنظيم أماكن عملنا، وجمع كل ما نحصل عليه، ومن ثم يسلمه إلى جهة مجهولة لا ندري عنها شيئًا .. هكذا تجري الأمور هنا.
- هنا أين؟
- في البطحاء ... !
- الخلاصة ... أين سنجد هاتف هذا الرجل؟
- ستجده بالتأكيد في (سوق البنغالين)، فكل مانجنيه يُعرض للبيع هناك لصالح (دون).
- (دون) .. وما الدون هذا ؟
- الرجل الكبير الذي يقود كل شيء، الذي تخضع البطحاء وسوق البنغاليين .. بل والبنغال جميعًا لسيطرته، هو الذي يدفع لنا الأموال لقاءنا عملنا لديه، هو الذي يدير كل العماليات، من سرقات الجوالات إلى التزوير، وتمرير المكالمات، وإدارة نوادي القمار الملاهي الليلية ... والقائمة تطول.
- ماذا ... أيعقل أن كل هذا لدينا ... ؟
تسللت ابتسامة صغيرة إلى أحد أركان شفتي (ميزان)، واستمر يقول والزهو بدا يظهر جليًا في صوته:
- نعم ... وأكثر، فتقريبًا معظم البطحاء تقع تحت سيطرة (دون) شخصيًا، لا تسألني عنه ... فأنا كمعظم البنغال نعرفه بهذا اللقب، ولا يعرفه شخصيًا سوى أناس يعدون على الأصابع، فشخصية (دون) تظل دومًا من أهم الأمور السرية التي يُقسمون عليها، بل تجد أن معظم البنغال يخشى حتى التحدث بهذا الشأن، لذا تجدهم يتصنعون الغباء مع سماع هذا الاسم.
نفض (عبدالله) رأسه غير مصدق لما يسمعه، وهو يقول:
- ما هذه التفاهات ... أنا لا أصدق شيئًا مما تقول أيها الحقير، أتريد أن ترهبنا بكلام رخيص كهذا؛ لكن اسمعني جيدًا .. سوف أذهب الآن للسوق الذي تقول عنه بأنه (سوق البنغال) ... وسأبحث عن جهازي، وسأجر أذن الشخص الذي سأجده لديه ... وسأوصله بنفسي إلى أقرب سيارة شرطة ... بلدنا ليس بلعبة لديكم يا أولاد الحرام، أنا لا أصدّق ما تقوله، وكل ما أريده منك أيها القذر هو أسم فقط ... أعطني اسمًا لأحد المحلات أو الأشخاص هناك؟
- أنا لا أعرف أحدًا في تلك المنطقة، ولكنّي قد أوصلت عدة أجهزة إلى محلات إلكترونيات متنوعة ... ربما قد تجد ما يساعدك هناك.
التفت (عبدالله) إلى (قايد) وهو يقول:
- سأذهب الآن إلى السوق الذي يقول عنه هذا، أوثق هذا المدعي لديك، وكمم فمه جيدًا، وسأعود إليك بعد أن أجد هاتفي، أو سأتصل بك لكي تسلمه إلى الجهات الأمنية المسؤولة.
- لا تحمل همًا ... سأتركه لدي إلى المساء .. إذا لم أسمع منك سأسلمه إلى الشرطة.، ولكن صدقني يا (عبدالله) الأمر لا يستاهل أن تخاطر بنفسك بالذهاب هناك .. فربما ما يقوله هذا الرجل صحيح؟
- لا تصدق ما يقوله هذا الأفاك .. سأعود لك بإذن الله بهاتفي.
- في رعاية الله ..
خرج (عبدالله) يشق ركام البشر متجهًا نحو ما اسماه (ميزان) سوق البنغاليين .. حيث يحكم (دون) مملكته ...
... مملكة البنغال!
.
.
انتهى الفصل الثاني ..
ومازال في الحديث بقيّة ..
رد: " مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
قصة جميلة جدا
ولم أرها إلا الليلة
كم هي رائعة وتصور واقع نعيشه مع هؤلاء الأقوام وهذه العمالة الفاسدة
والتي تمثل أكبر نسبة منها خريجي السجون وعتاة المجرمين في بلدهم .
نشكر الكاتب صاحب القصة
ونشكرك جدا أيها المبدع على النقل والطرح المميز والاختيار الموفق .
رد: " مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبوإسماعيل
قصة جميلة جدا
ولم أرها إلا الليلة
كم هي رائعة وتصور واقع نعيشه مع هؤلاء الأقوام وهذه العمالة الفاسدة
والتي تمثل أكبر نسبة منها خريجي السجون وعتاة المجرمين في بلدهم .
نشكر الكاتب صاحب القصة
ونشكرك جدا أيها المبدع على النقل والطرح المميز والاختيار الموفق .
تشرفنا بمتابعتك
رد: " مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
الفصل الثالث
التقرير الطبي:
الاسم: شهد محمد إبراهيم
العمر:8 سنوات
الجنسية: سعودية
التشخيص:غيبوبة غير معروفة الأسباب، ونقص حاد في العناصر الغذائية، وفقر في الدم، وتليف في الكبد، وفشل كلوي، مع ضمور في العضلات.
العلاج: غير معروف.
***
- أمي أريد أن أذهب معكِ؟ في كل مرة تقولين لي (المرة القادمة)، حسنًا هذه هي المرة القادمة قد أتت، أرجوكِ ... سأكون مؤدبةً ولن تسمعي لي أي صوت.
تعلقت الطفلة ذات الثمان سنوات بأذيال عباءة والدتها المزركشة، وهي تهتف بين دموعها بهذه العبارات، التفت نحوها والدتها، ومن خلف نظاراتها الشمسية الثمينة نظرت إليها وقالت:
- ستكونين مؤدبة يا (شهد) .. أليس كذلك؟
من خلف قناع الحزن هتفت (شهد) بلهفة فرحة وهي تقول:
- بالطبع أعدك بذلك.
- حسنًا .. أغسلي وجهك وأسرعي فسأكون بانتظارك في السيارة مع السائق.
جرت الصغيرة تسابق خطواتها الرشيقة، وهي تقفز عتبات الدرج، وأمام المرآة وقفت تغسل وجهها الجميل، تزيل ما علق به من آثار الدموع، وتمح عنه أطياف الحزن، وعندما انتهت جففت يديها الصغيرتين، والتقطت حذائها وحقيبتها وأسرعت حافية إلى السيارة التي كانت تقف بانتظارها بالخارج.
في السيارة وبعد أن لبست حذائها التفت نحو النافذة المعتمة لتمارس هوايتها المحببة في مشاهدة السيارات وراكبيها، وهي تهز رأسها على أنغام الأغنية العاطفية تحب والدتها سماعها دومًا، كانت الشمس على بعد ساعات من الغروب، والسيارات كعاداتها في هذا الوقت من يوم الخميس تملاء (طريق العليا). ابتسمت (شهد) وهي ترمق المبنى الشاهق بعينين جذلتين وهي تتوقع أنهما متجهتان نحوه، فهي لا تطيق صبرًا لكي تذهب إلى مدرستها وتخبر صديقاتها عن رحلتها مع أمها إليه. التفتت نحو والدتها وهي تقول:
- ماما .. سنذهب إلى (المملكة) .. أليس كذلك؟
- ليس اليوم يا حبيبتي، فنحن في طريقنا إلى مكان متخصص بالأواني المنزلية، نحتاجها لمنزلنا الجديد.
- وأين هذا المكان ؟
- اسمه (السبالة).
قطبت الصغيرة حاجبيها، وهي تحاول استيعاب هذا الاسم الغريب، وهي تحاول مقارنته بما لديها من كلمات في قاموس مفرداتها، قالت لأمها مرة أخرى:
- (ما أعرفه .. شكله مو حلو .. )
ابتسمت أمها وبانت أسنانها اللامعة واضحة من خلف لثامها الخفيف، وهي تقول:
- هكذا أنت .. كل مكان لا تعرفيه لابد أن يكون مكانًا سيئًا، لا تخشي شيئًا سوف يعجبك المكان بالتأكيد.
مطت (شهد) شفتيها، وهزت أكتافها الصغيرة، وألقت بظهرها على المقعد، وعقدت ساعديها الصغيرين على صدرها، مبديةً عدم اقتناعها بما قالته والدتها عنها، وقالت بلهجة العارفة ببواطن الأمور:
- أنا أعرف .. لن يعجبني هذا المكان.
بصبر نافذ قالت لها والدتها:
- أنتِ من أصر على المجيء، ولا تقلقي .. فلن يطول مكوثنا هناك.
في شوارع السبالة الضيقة، دخلت سيارة فارهة معتمة النوافذ، تمشي بهدوء إلى أن توقفت أمام أحد المحلات المشهورة للأواني المنزلية في ذاك الشارع، ونزلت منها امرأة بحجاب عصري، وفتاة صغيرة بقميص وردي وبنطال أحمر وحذاء أنيق بنفس اللون، ودلفا سويًا إلى المحل الكبير.
تهافت عمّال المحل على المرأة مرحبين بها، وهم يرمقون ما تخبئه العباءة الفرنسية المخصّرة، والعينين الكحيلتين المختبئتين خلف النظارة الأنيقة، والسيارة الفارهة بعيون مملوءة طمعًا، ويعرضون عليها ما تريد وما لا تريد، وكل منهم يريد أن يتقرب منها لينعم برائحتها الجذابة، وبينما انهمكت الأم في الاختيار، بدأت (شهد) كعادتها في استكشاف المكان، والجري بين الممرات، وكل من في المحل يخطب ودها ليُرضي والدتها، التي كانت ترقب ابنتها بعين الرضا وهي تلمحها تلعب في سعادة، وفي مرات أخرى تطلب منها الهدوء لكي لا تزعج العملاء الآخرين الذين يملئون المحل.
بدأ الملل يدب بين جوانح (شهد) التي تعودت على المحل بعد أن أمضت فيه وقتًا طويلاً، ولكن والدتها مازلت تريد شراء المزيد بالرغم من الأكياس الكثيرة التي تكدست أمام البائع، فقررت الخروج إلى السيارة حيث تركت حقيبتها وبداخلها هاتفها المحمول لكي تتصل بصديقتها، فبالرغم من عمرها الذي لم يتجاوز ثمان سنوات إلا أن والدتها سمحت لها باقتناء هاتف محمول يُسليها في وقت فراغها، استأذنت من أمها التي سمحت لها بذلك، ثم خرجت إلى الشارع.
كانت الشمس توشك على المغيب، والشارع يكتظ بالسيارات، وبعينيها الواسعتين كانت (شهد) تبحث عن السيارة لكنها لم تجدها، أعادت النظر مرة أخرى وهي تتساءل أين يمكن أن يذهب السائق، خصوصًا أنها سمعت والدتها تؤكد عليه أن ينتظر قريبًا من هنا، وبين زحمة السيارات والناس لمحت سيارة تشبه سيارتهم فبدون تردد اتجهت نحوها بخطوات سريعة وعندما اقتربت منها تعرّفت عليها فورًا، حاولت أن تفتح الباب، لكنه كان مقفلاً ... ولم يكن هناك أحد بالداخل.
.
.
وللحديث بقية!
رد: " مملكة البنقال " بقلم الكاتب محمد بن عبد العزيز الداود
تتمة الفصل الثالث:
بدأ الرعب يدب في داخلها، بعد أن لاحظت كثرة الأعين التي ترمقها، خصوصًا من أحد العمالة الذي بدا وكأنه يتبعها، شعرت (شهد) بالخوف منه وأسرعت تركض نحو المحل حيث تركت والدتها هناك، دخلت المحل بسرعة وبدأت تبحث في زحمة الناس عن والدتها، كانت تدور بين أروقته تطل في وجه كل من تشبه والدتها، .. ولكن دون فائدة.
بدأ الوقت يطول والمحل أطفأ جزء من أنواره وهو يستعد للإغلاق لوقت صلاة المغرب، وبدأ اليأس يتسلل إليها، وسرعان ما اغرورقت عيناها بالدموع،وتصاعد صوت تنفسها، وعلا شهيقها، والعبرة تكاد تخنقها، وفي غمرة يأسها توجهت نحو أحد العمال، الذي سرعان ما تعرف عليها وقال لها:
- ما تفعلين هنا ؟! أمك غادرت المحل منذ قليل.
وأشار نحو الباب و يشير حيث كانت الأكياس متراصة، مواصلاً:
- لقد حضر السائق وحمل كافة الأغراض.
أسرعت نحو الشارع مرة أخرى ودموعها تجري على خديها، وركضت نحو موقف السيارة، وعندما وصلت ... كانت الموقف خاليًا، وسيارة أخرى تستعد للوقف فيه!
أُسقط في يديها وبدأت تبكي بصوت مكتوم، وعادت نحو المحل الذي كان يغلق أبوابه لوقت صلاة المغرب، لمحها العامل وقال لها:
- اجلسي هنا، سوف تفتقدك والدتك، وتعود لأخذك.
في غمرة يأسها، وبين نشيجها الذي بدأ يتصاعد، ودموعها التي ازدادت غزارة، جلست على كرتون قذر مرمي بجانب المحل، وأسندت ظهرها على جداره، ووضعت رأسها بين ركبتيها، واستمرت تبكي في صمت، والوحدة تملأ كيانها.
ازداد المكان ظلمة، وعلى ضوء إنارة الشارع الضعيفة، رفعت (شهد) رأسها تسجدي الأنوار لكي تزيد من قوتها لتؤنس وحدتها، وتزيل وحشتها، عندما توقفت أمامها سيارة أجرة كان فيها ثلاثة أشخاص، تعرفت (شهد) على أحدهم، فلقد كان يراقبها عندما ذهب إلى السيارة في المرة الأولى، ظلَّ الثلاثة في السيارة يرمقونها بنظراتهم المريبة، ويتهامسون فيما بينهم، وهم ينظرون إليها وأحدهم يهز رأسه، ثم انفتحت أبواب السيارة ونزل منها الثلاثة رجال، يتلفتون حلوهم بحذر، وأحدهم يحمل في يده قماشًا أبيض اللون، واتخذوا طريقهم بسرعة ... نحوها.
في مكان آخر من الشارع انهمك السائق في رص الأكياس داخل سيارة فارهة، وامرأة توجهه لكي يصفها بعناية وحرص، وبعد أن انتهيا من وضع كافة ما معهما داخل السيارة، تلفتت المرأة حولها تبحث عن شيء ما، وعندما لم تجده التفت نحو المحل تنظر إليه وهي تصرخ:
- (شهد)!! ... أين (شهد) ؟! ...يا ربيّ لقد نسيتها في المحل!
وبكل لهفة تحملها لابنتها اندفعت تركض نحو المحل، غير عابئة بالسيارات التي علا صراخ عجلاتها من جراء عبور الأم المكلومة أمامها، وعندما اقتربت من المحل سمعت صرخة ابنتها وهي تنادي:
- (ماما) ... (ماما) .. (ما .. )
انقطع الصوت فجأة وأسرعت أمها تركض بأقصى طاقتها، وكل عاطفة بداخلها تجاه وحيدتها تعزز من سرعتها، نسيت كل شيء في حياتها وأصبح قلبها ينبض ويهتف بصوت واحد ... (شهد).
عندما وصلت المحل كانت هناك سيارة أجرة تنطلق مسرعة وصرير عجلاتها يدوي في المكان، مخلفةً فردة حذاء حمراء اللون، وقماشًا أبيضًا تفوح منه رائحة (الكلوفورم).
مذهولة وقفت الأم ترمق السيارة وهي تنطلق مبتعدة حاملة قطعة منها، وأجمل ما في حياتها،
لوهلة توقف كل شيء أمامها ...
نبضات قلبها،
تنفسها،
تفكيرها،
كل حواسها تجمدت،
وهي تحاول أن تستوعب ما قد حدث للتوّ، لم تعد قدماها قادرة على حملها، أظلمت الدنيا أمام ناظريها، وتهاوت على الأرض ولسانها وكل خلية من خلاياها تهتف:
- (شهد)!
.
.
انتهى الفصل الثالث ..
ومازال في الحديث بقيّة ..