رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
لقد بقي واقفاً يتعرق،ولم يحرك ساكناً.الطاقة نفسها التي فجرت فيه حقده العارم الذي راح ينبثق من عينيه ضد العالم أجمع ،شلته بشكل كامل أيضاً بحيث ما عاد يستطيع تحريك أي عضو في جسده،فما بالك بتحريك يده باتجاه سلاحه أو الضغط على الزناد بإصبعه.نعم،لم يعد بإمكانه حتى هز رأس ليتخلص من قطرة عرق كانت عالقة على ذؤابة أنفه وتدغدغه. لقد قامت هذه الطاقة بتجميده.حولته خلال هذه الساعات فعلاً إلى صورة تشبه تمثال أبي الهول بعظمته وعجزه.كان فيها توتر كهربائي يقوم بمغنطة قطعة حديد ليجعلها تسبح في الفراغ،أو ضغط عالٍ يشبه ذلك الذي يكون في قبة أحد المباني الضخمة والذي يقوم بتثبيت كل حجر في المكان المحدد له.بدت طاقة تمنّي،وكانت احتمالاتها تكمن في:لو أنني استطعت... لو أنني قمت بفعل... وددت لو أنني... وجوناثان الذي راح يدبج أقسى التمنيات بالكوارث والتهديدات في داخل نفسه، كان يعرف في اللحظة عينها أنه لن يتمكن أبداً من تحقيقها،وأنه ما عاد الرجل المناسب لهذه الأفعال.فهو ليس رجلاً مجنوناً يقوم في حالة من الاضطراب النفسي والضياع،أو بدافع الكره الغريزي،بارتكاب أفعال إجرامية. ليس لأن أفعالاً كهذه كانت بنظره لا أخلاقية،إنما ببساطة لأنه بدا عاجزاً عن التعبير عن نفسه بالأفعال أو بالكلمات،إنه لم يكن فاعلاً أبداً،وإنما كان متلقياً صبوراً.
حوالي الساعة الخامسة صارت حالته من البؤس بحيث ظن أنه لن يتمكن من مغادرة مكانه قرب الدعامة على الدرجة الثالثة من مدخل البنك،وأنه سوف يموت هنا حتماً.لقد أحس كما لو أنه شاخ على الأقل عشرين عاماً،وأن قامته قد قصرت على الأقل عشرين سنتيمتراً، وهو يقف هنا منذ ساعات يتلقى قيظ الشمس الخارجي، ويذوب بحرارة حقده الداخلية ويتلف.نعم،لقد أحس بنفسه مهترئاً، فهو لم يعد يشعر برطوبة عرقه.مهترئ ومهلهل،منطفئ ومتصدع كتمثال أبو الهول الحجري بعد خمسة آلاف سنة.ولن ينقضي وقت طويل عليه حتى يجف تماماً فيحترق ويتقلص ويتفتت ويصير غباراً أو رماداً ويسقط في هذه البقعة،حيث مازال يحاول أن يبقى على قدميه.سيسقط مثل كومة قذارة صغيرة لتأتي ريح فتبعثرها، أو تكنسها عاملة النظافة أو يجرفها المطر.نعم،هكذا ستكون نهايته:ليس كرجل مسن متقاعد محترم يتمتع بصرف معاشه التقاعدي في بيته على سريره ، بين الحيطان الأربعة خاصته ، بل هنا أمام بوابة البنك ، ككومة قذارة صغيرة ! كان يود لو يئِنْ أوانه الآن في هذه اللحظة،لو يتسارع انهياره وتكون النهاية.أن يفقد وعيه، أو تتداعى ركبه ويسقط مغمياً عليه. راح ي بذل جهداً عظيماً كي يغيب عن وعيه ويغمى عليه.إبان طفولته كان يستطيع دائماً تحقيق ذلك كلما أراد،إذ يحبس نَفَسَه حتى يفقد وعيه،أو يوقف قلبه لزمن ضربة. أما الآن فإنه لم يعد يستطيع فعل أي شيء،ما عاد يستطيع التحكم بنفسه وقدراته مطلقاً،أو حتى ثني ركبه لكي يتداعى ويهوي.لم يعد بإمكانه إلا الوقوف كما هو لتلقي ما يمكن أن يحدث له.
هنا تنبه إلى الفحيح البعيد لمحرك سيارة السيد رودلز.لم يسمع زموراً،فقط ذلك الأزيز المصفّر المنخفض الذي كان يسمعه دائماً حين تقترب ببطىء من الفناء الخلفي جهة بوابة الخروج. ومن خلال تسلل هذا الضجيج الخفيف إلى أذنه ودخوله فيها، وسريان ذلك الفحيح مثل تيار كهربائي في كل أعصابه، شعر جوناثان بطقطقة في مفاصله وتمدد في عموده الفقري. كما أحس، بدون أي تدخل منه،كيف اقترب فخذاه المتباعدان الواحد نحو الآخر، واستدارت قدمه اليسرى على كعبها، وكيف انثنت ركبته تأهباً للسير وتلتها اليمنى، ثم اليسرى... وكيف كان يضع كل قدم أمام الأخرى وراح يمشي فعلاً، بل يهرول،يهبط الدرجات الثلاث قافزاً وهو يسرع بخفة على طول حائط البنك حتى مدخل السيارات. يفتح البوابة، يقف منتصباً، يرفع يده اليمنى بعنفوان إلى حافة قبعته بحركة التحية،ويترك السيارة تعبر. لقد فعل كل ذلك بأوتوماتيكية محضة، دون إرادة منه، واقتصرت مشاركة وعيه على أخذ العلم وتسجيل حركاته وأفعاله.الإسهام الأصلي الوحيد الذي قام جوناثان بفعله ضمن ما حدث هو متابعته لسيارة السيد رولدز وهي تتحرك مبتعدة، وإلقاؤه نظرة ملؤها الشر خلفها وتمتمته بلعنات كثيرة.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
في طريق عودته إلى مكانه ثانية أمام البنك، تلاشى سعار غضبه،كانت هذه الومضة الإرادية الأخيرة فيه. وبينما كان يصعد الدرجات الثلاث بطريقة آلية نضب ما تبقى في قلبه من الكره، وحين وصل إلى مكانه اختفت تلك النظرات السامة المرغية والمزبدة من عينيه . وأخد ينظر إلى الشارع نظرةً فيها شيء من الانكسار. أصبح يبدو له كما لو أن عينيه ما عادتا ملكه، كما لو أنه يجلس، هو بالذات، خلف عينيه ينظر من خلالهما مثلما ينظر من خلال نافذة جامدة مدورة. نعم أصبح يشعر كأن هذا الجسد كله الذي يحيط به لم يعد جسده،بل كأنه هو ، جوناثان - أو هذا الذي بقى منه – ليس أكثر من جنّي صغير منكمش في قفص ضخم لجسد غريب. قزم عاجز مسجون في آلة آدمية شديدة الضخامة والتعقيد وليس بإمكانه السيطرة عليها أو التحكم فيها، لم يعد يقودها ويوجهها كما يريد ويشتهي ،بل راحت تسيّر نفسها بنفسها، أو أن قوى خارجية ما باتت تتحكم بها . في هذه اللحظة كانت هذه الآلة تقف أمام الدعامة – ليس مثل أبي الهول في استرخائه داخل نفسه، بل مركونة ومعلقة مثل دمية مسرح العرائس – وظلت واقفة مدة الدقائق العشر الأخيرة من الدوام حتى تمام الخامسة والنصف، حين أطل السيد فيلمان للمرة الأخيرة من البوابة الزجاجية المسلحة ليقول : سوف نغلق. هنا بدأت هذه الآلة، دمية مسرح العرائس ، جوناثان،بالحركة بطاعة ودخلت مبنى البنك. جلست أمام منصة التحكم بالأبواب الكهربائية، شغّلتها، وبدأت بالضغط تباعاً على زري البابين الداخلي والخارجي ليتمكن الموظفون من مغادرة البنك. ثم أغلقت سوية مع السيدة روك الباب المضاد للحريق المؤدي لغرفة الخزينة التي كانت السيدة روك قد فتحتها سوية مع السيد فيلمان. حررت بالاشتراك مع السيد فيلمان جهاز الإنذار، وأطفأت منصة التحكم مجدداً، وغادرت البنك مع السيدة روك و السيد فيلمان. أنزلت الغلق الحديدي حسب الإجراءات المتبعة، بعد أن أقفل السيد فيلمان الباب الداخلي و السيدة روك الباب الخارجي الزجاجي المسلح.بعد ذلك قامت بانحناءة خشبية خفيفة تحية للسيدة روك و السيد فيلمان، إذ فتحت فمها وتمنت للاثنين مساء سعيداً وعطلة نهاية أسبوع هانئة.وتلقت بالمقابل بعرفان أفضل التمنيات للعطلة من السيد فيلمان و"نلتقي يوم الاثنين" من السيدة روك.انتظرت بلباقة حتى ابتعد عنها الاثنان بضع خطوات،ثم انتظمت في سيل المشاة لتترك نفسها تندفع في الجهة المعاكسة.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
المشي يهدىء الأعصاب ،في المشي تكمن قوة شافية. هذه الرتابة في تحريك قدم بعد الأخرى بإيقاع متزن مع التلويح بالذراعين على الجانبين، هذا التسارع في تردد النفس والنشاط الخفيف في النبض ، ذلك التوضيف الضروري للعينين والأذنين لتحديد الاتجاه والمحافظة على التوازن ، هذا الشعور بالهواء الذي يهف على الجلد، كل هذه أشياء تضطر الروح والجسد للتوحد بطريقة حتمية،وتترك الروح، حتى لو كانت في أشد حالاتها غياباً وتثاقلاً، تنمو وتتسع.
هذا ما حصل أيضاً لجوناثان المزدوج،للجني الصغير المسجون في دمية ضخمة.شيئاً فشيئاً،وخطوة بعد خطوة، أخد ينمو في جسده من جديد وملأه تماماً، وبدأ يستعيد سيطرته عليه بإطراد حتى تمكن أخيرا من التوحد معه.لقد اكتمل هذا تقريبا عند زاوية شارع دوباك، فقطع شارع دوباك (الدمية جوناثان كانت ستنحرف هنا حتماً إلى اليمين بشكل أوتوماتيكي لتصل إلى شارع دوبلانش من الطريق المعتادة) وترك شارع سانت بلاسيد، حيث يقع الفندق الذي يسكن فيهن تركه إلى يساره ومضى مستقيماً صعوداً في شارع أبّيه غريغوار،ومن هناك إلى شارع فوغيرار،ثم إلى حدائق اللوكسمبورغ.دخل المتنزه وقام بالالتفاف حوله ثلاث مرات سالكاً الممرات الجانبية الأكثر طولاً، هناك حيث يمارس الناس رياضة الركض تحت الأشجار على طول السور، بعدها اتجه جنوباً وذهب صوب بولفار دو مونبارناس صاعداً حتى مدافن مونبارناس، دار حولها مرة،وثانية، ثم اتجه غرباً إلى المنطقة الخامسة عشرة واخترقها حتى بلغ نهر السين.مشى على ضفته صاعداً باتجاه الشمال الشرقي إلى المنطقة السابعة ثم السادسة... دائماً أبعد و أبعد – فليلة صيفِ كهذه لا تنتهي أبداً – ثم عاد إلى حدائق اللوكسمبورغ التي كانت تقفل أبوابها مع اقترابه منها، فتوقف عند بوابتها الحديدية على يسار مبنى مجلس الشيوخ.لقد كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً لكن ضوء الشمس مازال ساطعاً كما في وضح النهار تقريباً. يستطيع المرء استقراء قدوم المساء من اتشاح ضوء النهار بلون ذهبي خفيف واصطباغ حواف الظلال باللون البنفسجي.باتت حركة المرور في شارع فوغيرار خفيفة، بل نادرة تقريباً،واضمحلت كتلة المارة.
المجموعات القليلة منهم قرب مخارج المتنزه وعلى زوايا الشوارع صارت تتلاشى وتختفي على شكل أفراد في الحارات الكثيرة حول المسرح الروماني وكنيسة سانت سوبليس .أحدهم يذهب لتناول كأس وآخر إلى المطعم أو إلى البيت. كان الهواء عليلاً يحمل رائحة ورد خفيفة. لقد عم الهدوء. باريس كانت تأكل.
شعر فجأة كم هو متعب .كانت رجلاه وكتفاه وظهره تؤلمه من السير لساعات عديدة،وقدماه تحترقان في الحذاء.تملكه فجأة شعور بالجوع أيضاً، بدا جوعه من الشدة بحيث جعل معدته تتشنج. غن لديه رغبة بتناول الحساء،تناول سَلَطة مع خبز أبيض طازج وقطعة لحم.كان يعرف مطعماً قريباً جداً من هنا،في شارع ديكانيت حيث توجد كل هذه الأكلات كوجبة واحدة مقابل سبع وأربعين فرنكاً ونصف بما فيها الخدمة. لكنه لا يريد الذهاب إليه في حالته هذه فرائحة العرق تفوح منه، كما أنه ما زال يلبس سرواله الممزق.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
لقد قرر الذهاب إلى فندقه. في الطريق إلى هناك، في شارع (أسّاس) يوجد محل بقالة تونسي وهو مازال مفتوحاً. اشترى علبة سردين،قالباً صغيراً من جبن الماعز،إجاصة، زجاجة نبيذ أحمر وخبزاً عربياً مرقوقاً.
كانت غرفة الفندق أصغر من غرفته التي تقع على شارع دولابلانش،من جهة بدا عرضها لا يكاد يتجاوز عرض الباب الذي يدخل منه المرء أليها، أما طولها فلا يتجاوز الثلاثة أمتار.حيطانها لا تتوازى مع بعضها تماماً كما هو بديهي ،بل كانت – إذا نُظر أليها من جهة الباب – تنفرج متباعدة عن بعضها البعض حتى تصبح المسافة بينها عند آخر الغرفة حوالي المترين، ثم تعاود تقاربها بسرعة لتلتقي في نهايتها على شكل محراب ذي زوايا ثلاث. إذاً كان للغرفة شكل يشبه التابوت،وليست على أية حال أرحب مساحة من تابوت. فالسرير يلاصق طولياً حائط الغرفة ، بينما رُكّب على الحائط الآخر مغسلة يوجد تحتها كرسي مرحاض يمكن تحريكه إلى الأمام والخلف، وفي المحراب يقبع كرسي وحيد. في الجهة اليمنى فوق المغسلة بُنيت نافذة،بالأحرى طاقة إنارة صغيرة مزججة في السقف ، يمكن فتحها وإغلاقها بواسطة سلكين معدنيين رفيعين. عبر هذه الطاقة تسربت لفحات خفيفة من الهواء الرطب الدافئ إلى التابوت، حملت معها بعض اللغط الخافت من العالم الخارجي: قرقعة صحون، خرير ماء في مرحاض،مزق من كلمات برتغالية وإسبانية،بعض الضحكات،انتحاب طفل،وفي بعض الأحيان صوت زمَور سيارة بعيدة جداً.
جلس جوناثان القرفصاء على السرير بقميصه ولباسه الداخليين وأخد يأكل. الطاولة التي كان يأكل عليها هي عبارة عن الكرسي الذي وضع عليه حقيبة ملابسه الكرتونية ومد عليها كيسا ورقياً.راح يقطع السردين بسكين جيب إلى شريحتين بالطول يلتقط إحداها برأس السكين، يسقطها على مزقة من الخبز ويدفع باللقمة داخل فمه. عند علكه لها يختلط لحم السمك اللين المشبع بالزيت بالخبز المرقوق عديم الطعم لتشكل معاً كتلة ذات طعم شهي.ربما تنقصه القليل من قطرات حمض الليمون، فكر جوناثان،ولكن هذا يقارب حدود المجون في التذوق.لأنه حين صار يتناول بعد كل لقمة رشفة من النبيذ الأحمر، ويتركها تنزلق على لسانه ثم يحركها بين أسنانه، فتختلط نكهة السمك المعدنية بعطر النبيذ المنعش المائل إلى الحموضة لتشكل مجتمعة طعماً مقنعاً، أصبح جوناثان مقتنعاً أنه لم يسبق له في حياته أن تناول وجبة ألذ من هذه التي يقوم بتناولها في هذه اللحظة.كانت العلبة تحتوي على أربع سمكات سردين كفته ثماني لقمات، تَّم علكها مع الخبز بتأن،وأُلحقت بثماني رشفات من النبيذ.كان يأكل بشكل متباطء جداً،فقد قرأ ذات مرة في جريدة أن الأكل بسرعة،وخصوصاً حين يكون المرء شديد الجوع،يضر بالصحة ويؤدي لمشاكل هضمية، وفي بعض الحالات يؤدي حتى إلى الشعور بالغثيان والتقيؤ.
راح يأكل ببطء أيضاً لأنه كان يظن أن هذه هي آخر وجبة له في حياته.
بعد أن أجهز على السردينات كلها، وبعد أن مسح الزيت المتبقي بالخبز وقام بتناوله، أكل جبن الماعز والإجاصة. كانت الإجاصة ريانة إلى حد أنها كادت تنزلق من يده بينما هو يقوم بتقشيرها. وكان جبن الماعز من الكثافة والتماسك بحيث راح يلتصق على نصل السكين، وأصبح طعمه فجأة مرّاً مائلاً إلى الحموضة وجافاً في الفم.فانكمشت لثته كما لو أن هلعاً قد أصابها، وانقطع تدفق لعابه لوهلة وجيزة،لكن الإجاصة كانت هنا،وقضمة من الإجاصة الحلوة الرطبة الغضة أعادت كل شيء إلى سيلانه وتمازجه بعد تحرره من سقف الحلق والأسنان لينزلق هابطاً على اللسان... ثم قطعة جبن أخرى، انكماشة خفيفة ، قضمة أجاص جديدة ملطفة ، جبن ثم أجاص. كان يتلذذ بالأكل إلى درجة أنه قام بكشط بقايا الجبن بالسكين عن غلافه الورقي، والتهم أطراف غلاف لب الإجاصة والذي كان عادة يقتطعه من الفاكهة ليرمي به في الزبالة.
بقى جالساً لفترة وهو يستمتع بلعق أسنانه بلسانه قبل أن يأكل ما بقى من الخبز ويشرب ما بقى من النبيذ.التقط علبة السردين الفارغة وبقايا الإجاصة وغلاف الجبن الورقي وقام بإلقائها مع فتات الخبز في الكيس الورقي، ثم وضعه مع زجاجة النبيذ الفارغة بجوار باب الغرفة.نحّى الحقيبة عن الكرسي، أرجع الكرسي إلى مكانه في المحراب، غسل يديه واتجه إلى السرير، طوى الغطاء الصوفي على أسفل السرير وتدثر بالملاءة فقط، ثم أطفأ النور.لم يكن يدخل الغرفة أدنى بصيص من الضوء،ولا حتى من تلك الطاقة.لم يكن يدخلها إلا ذلك التيار الضعيف من الهواء الرطب، وتلك الضجة الآتية من البعيد ، البعيد جداً. كان الجو حاراً."غدا سأنتحر" قال لنفسه، ثم أقفل عينيه ونام.
أثناء الليل قَدِمت عاصفة ماطرة. وهي من النوع الذي لا يفرغ حمولته من الرعد والبرق دفعة واحدة، بل من النوع الذي يستغرق وقتاً طويلاً ويحتفظ بقواه لأطول مدة. ساعتان من الزمن راحت العاصفة خلالهما تتلكأ في السماء.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
أرعدت عن بُعد، غمغمت قليلاً،تنقلتْ بين جزء من المدينة وآخر، تمددت وتمطت، نَمَت ونَمَت ، حتى امتدت أخيرا فوق كل المدينة كغطاء رصاصي اللون. انتظرت قليلاً، شحنت نفسها خلال ترددها بتوتر أعظم ، لكنها لم تنطلق بعد ... تحت هذا الغطاء الرصاصي ساد سكون مطلق، لم تكن أية نسمة هواء تتحرك في هذا الطقس الرطب ، لم تتحرك أية ذرة غبار.كانت المدينة تبدو جامدة، ترتجف من الجمود – إن جاز للمرء أن يقول – كانت ترتجف تحت التوتر المحدق، كما لو تحولت هي نفسها إالى عاصفة تنتظر أن تندفع إلى السماء فتفجر نفسها فيها.
ولكن ، أخيراً ، بينما الصباح يقترب والشمس توشك على البزوغ،سُمِعَ صوت دوي، دوي أوحد بدا من القوة وكأن المدينة كلها قد انفجرت.انتفض جوناثان في سريره جالساً.لم يكن قد سمع الدوي بوعي كامل حتى يميز فيه دوي الرعد، لقد بدا الأمر سيئاً جداً : فقد اخترق الرعد في لحظة استيقاظه كل أعضائه مثل هلعٍ عارم لم يعرف له سبباً، مثل الذعر عند رؤية الموت. الشيء الوحيد الذي استطاع أن يعيه هو صدى الدوي، صدىً متعدد واهتزازات قوية للرعد.وأحس أن البيوت في الخارج تتساقط مثل رفوف الكتب،وأول فكرة طرأت إلى ذهنه أنه قد آن الأوان،وأن النهاية قد ابتدأت.ليست نهايته هو وحده، بل نهاية العالم، دمار الكون، زلزال أرضي، قنبلة نووية، أو كلاهما معاً، في كل الأحوال النهاية المطلقة .
فجأة عم سكون كصمت المقابر. لم يعد هناك من اهتزازات تُسمع ، أو صوت تساقط، أو قعقعة ، لم يعد هناك شيء أو صدى لشيء. وهذا الصمت الممتد كان أكثر إثارة للفزع من ضوضاء دمار العالم. فقد بدا لجوناثان على الرغم من كونه ما زال موجوداً، لكن ما عداه لا يوجد شيء، لا يوجد فوق ولا تحت، ليس من خارج، ليس من آخر يستطيع أن يهتدي به .كل حواسه: البصر،السمع، جهاز التوازن عنده – كل ما كان بإمكانه أن يخبره من هو وأين هو موجود الآن –كانت غارقة في الفراغ المطبق للعتمة والصمت. فقط شعر بقلبه يخفق بعنف وبجسده وهو يرتجف. أدرك فقط أنه يجلس على السرير ، ولكن على أي سرير؟ وأين يقف هذا السرير؟ هذا إذا كان السرير مازال في مكانه، ولم يسقط بعد في مكان ما من الحضيض،إذ يبدو وكأنه يتأرجح،فأخد جوناثان يتشبث بكلتي يديه بالفراش، كي لا يقع، كي لا يفقد هذا الشيء الوحيد الذي يمسكه بيديه. راح يبحث بعينيه عن متكأ في الظلام،وبأذنيه عن متكأ في الصمت،ما عاد يسمع أو يرى شيئاًَ، لاشيء البتة. شعر بتلبك في معدته وتصاعد إلى فمه طعم سردين منفر "فقط لا تتقيأ" فكر جوناثان "فقط لاتستفرغ، ليس الآن على كل حال، لاتلفظ بأحشائك وروحك إلى الخارج !"... ثم بعد أبدٍ طويل مقيت، استطاع أن يميز شيئا في العتمة.بالتحديد بدا شعاع خافت جداً في الأعلى إلى اليمين، حزمة ضئيلة من الضوء. بدأ يحدق ويتشبث فيها بقوة بكلتي عينيه. كانت بقعة مربعة صغيرة من الضوء، من فتحة تبدو مثل الحد الفاصل بين الداخل والخارج، كنافذة في غرفة ما... ولكن أية غرفة ؟ إنها ليست غرفته ! لايمكن أن تكون هذه غرفته ! إن النافذة في غرفته تقع فوق مقدمة السرير، وليست مرتفعة هكذا في السقف.إن هذه... ليست هذه غرفتك في بيت عمك ايصاً، إنها غرفة الأولاد في بيت أهلك في شارنتون، لا ليس غرفة الأولاد، إنه القبو، نعم القبو، أنت الآن موجود في قبو بيت أهلك وفي الخارج تدور رحى الحرب، وأنت محبوس،موؤود ومنسي.لماذا لايأتون ؟ لماذا لا ينقذونني ؟ لماذا يعم صمت القبور هذغا؟ أين الآخرون؟ ياإلهي،أين هم الناس الآخرون الآن ؟ فأنا لن أستطيع متابعة الحياة من دونهم حتماً !
كان يهم بالصراخ.أراد أن يصرخ عالياً تلك الجملة بأنه لن يستطيع متابعة الحياة دون الناس، يصرخ بها في الصمت المطبق.بهذا الحجم بدا قنوطه،بهذا اليأس صار خوف الطفل العجوز جوناثان نويل من أن يُترك وحيداً.وفي اللحظة نفسها التي أراد فيها الصراخ، أتاه الجواب.لقد سمع شيئا.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
سمع طرقة، طرقة خفيفة جداً،ثم طرقة أخرى،وثالثة ورابعة،في مكان ما في الأعلى.ثم أصبح الطرق أكثر تناغماً، مثل قرع خفيف على طبل، وأخذ يشتد أكثر فأكثر حتى تحول من قرع طبل إلى هدير هائل قوي تعرف جوناثان فيه على صوت تساقط المطر.
هنا عادت الأشياء إلى ترتيبها السابق،وتعرف جوناثان في تلك البقعة المربعة المضيئة على غطاء فتحة السقف، وتعرف في الضوء الشاحب على الخطوط الرئيسية لغرفة الفندق،المغسلة،الكرسي، الحقيبة والجدران.
أرخى من تشبث أصابع يده العصبي بالفراش،وسحب فخذيه إلى صدره وطوقهما بذراعيه. بقى جالسا في تكوره هذا طويلاً،نصف ساعة على القل،وهو يستمع إلى هدير المطر.
ثم نهض من السرير وارتدى ثيابه.لم يكن بحاجة لأن يشعل الضوء،فهو يستطيع أن يتدبر أمره في ضوء الفجر.أخذ الحقيبة والمعطف والمظلة، وغادر الغرفة.نزل الدرج بهدوء. كان موظف الاستقبال المناوب مازال نائماً.اتجه جوناثان نحوه على رؤوس أصابعه كي لا يوقظه، وضغط ضغطة سريعة على زر تحرير الباب الكهربائي أحدثت ضجة خفيفة ثم انفتح الباب.وخرج إلى الهواء الطلق .
في الشارع تلقفته برودة وضوء الصباح الرمادي الأزرق.كان المطر قد توقف،لكن الماء ما زال يقطر من الأسطحة وينسال عبر المظلات.وعلى الرصيف تشكلت برك صغيرة من الماء.راح جوناثان يهبط شارع دوسيفر . لم يكن هناك أي شخص أو سيارة على مد البصر . كانت الأبنية تقف بصمت وتواضع وبراءة تحرك المشاعر ، وهي تبدو كأن المطر قد غسل عنها قدرها . مظهرها المتباهي وتوعدها.
هناك على الجهة الأخرى.عند قسم المواد الغذائية من متجر بون مارشيه راحت قطة تهرول مسرعة بمحاذاة واجهة العرض، ثم اختفت تحت منصات بيع الخضار الفارغة.إلى اليمين في ساحة بوسيكو كانت أغصان الأشجار تطقطق من ثقل البلل.بدأ شحروران بالتغريد، وصدى تغريدهما يرتد عن واجهات الأبنية متضخماً ليضاعف من حجم السكون المخيم على المدينة.
عَبَر جوناثان شارع دوسيفر وانعطف إلى شارع دوباك كي يذهب إلى بيته.مع كل خطوة يخطوها بنعل حذائه المبلل على الإسفلت المبلل كانت تسمع أصوات كتلك التي يسمعها المرء عندما يمشي في الوحل.إنه كالمشي بقدمين حافيتين، فكر جوناثان، قاصداً بهذا الأصوات،وليس ذلك الشعور الزلِق بالبلل الذي أصاب الحذاء والجوارب. أخذت تتملكه رغبة كبيرة في خلع الحذاء والجوارب والمضي بقدمين حافيتين،لكنه إذا لم يفعلها فلأنه شعر بالكسل، وليس لأنه ظن أن الأمر قد يبدو مستهجناً.إلا أنه بدأ يقفز عن قصد في برك الماء.راح ينط في وسطها،وهو يمشي بشكل متعرج من بركة إلى أخرى، حتى أنه غيّر في إحدى المرات جهة الشارع وعبر إلى الرصيف المقابل لأنه رأى هناك واحدة جميلة بشكل خاص وكبيرة. فقفز فيها وسقط عليها بقدمين مستقيمتي، بعثر ارتطامها الماء وبلل واجهات المحلات والسيارات المتوقفة هناك،كما تبللت أطراف سرواله.لقد شعر بمتعة لذيذة،وتمتع بهذه الحماقة الطفولية وكانه قد استعاد حريته المطلقة.
كان ما زال على ابتهاجه وحبوره حين وصل إلى شارع دولابلانش ودخل البناء،واسرع
الخطا وهو يمر بمحاذاة غرفة السيدة روكار المغلقة ليعبر الفناء الخلفي ويصعد درج الخدمة الضيق.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
فقط في الأعلى، وهو يقترب من الطابق السادس،راح صدره ينقبض وهو يفكر في نهاية الطريق: في الأعلى تنتظر الحمامة،ذلك الحيوان الشنيع.سوف تكون جالسة بأطرافها الحمراء ذات المخالب في آخر الممر، محاطة ببرازها وزغبها يتطاير حولها. بجناحيها،وتلامسه هو،جوناثان،بجناحيها، ومن المستحيل تجنبها في هذا الممر الضيق...
وضع حقيبته أرضاً وظل واقفاً،رغم أنه لم يبقَ أمامه إلا خمس درجات. لم يكن يريد التراجع. لقد أراد أن يستريح لدقيقة صغيرة فقط،أن يسترد أنفاسه قليلاً، ويترك وقتاً لقلبه كي يهدأ قليلاً قبل أن يكمل الجزء الأخير من الطريق.
أخذ ينظر إلى الخلف، كان نظره يتتبع حركة الإلتواءات الحلزونية لسور الدرج حتى أسفله،ورأى أضواء تشع من الجانب في كل طابق من طوابق البناء. كان ضوء الصباح قد فقد زرقته وأصبح أكثر افراراً ودفئاً،هكذا بد لجوناثان. بدأ جوناثان يسمع أصوات الصباح الأولى تنبعث من شقق العمارة: رنين كؤوس، الصوت المكتوم لإغلاق باب براد، موسيقى خفيفة تنبعث من مذياع.ثم فجأة،اقتحمت أنفه رائحة أليفة،إنها رائحة قهوة السيدة لاسال، فقام باستنشاق هذه الرائحة بضع مرات،وشعر كأنه يشرب من هذه القهوة فعلاً.رفع حقيبته وتابع صعوده.ماعاد يشعر بالخوف مطلقاً.
حين ولج الممر لمح شيئين فوراً وفي اللحظة ذاتها: النافذة المغلقة،وممسحة معلقة لتجف فوق حوض الشطف قرب المرحاض المشترك.لم يتمكن من رؤية نهاية الممر بعد، لأن حزمة الضوء الباهر الداخلة من النافذة راحت تعشي عينيه.لكنه تابع سيره إلى حد ما دون شعور بالخوف.تجاوز حزمة الضوء ودخل منطقة الظل بعدها. بدا الممر خالياً تماماً. الحمامة اختفت.البقع أزيلت ونظفت .
وما عاد هناك أي زغب أو ريش يرتجف على البلاط الأحمر. .
تمّت..
.
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
رائعة يامعاذ ,
وأنت أروع ,
الأدب المترجم كثيراً ما ينقلنا إلى ثقافة وحضارة وفكر مختلف جداً
فقط نتقاسم معهم المشاعر الإنسانيّة ,!
أُهطل علينا هكذا دائماً ياصديقي !
رد: رواية ( الحمامة ) - الألماني : باتريك زوسكيند
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدالقاضي
رائعة يامعاذ ,
وأنت أروع ,
الأدب المترجم كثيراً ما ينقلنا إلى ثقافة وحضارة وفكر مختلف جداً
فقط نتقاسم معهم المشاعر الإنسانيّة ,!
أُهطل علينا هكذا دائماً ياصديقي !
حقاً .. الأدب المُترجمُ عبارة عن تراثٍ وحضارةٍ مغايرةٍ جداً .
والمشتركُ من القواسم كثير بحقّ ناهيكَ عن اللغة الأدبيّة , والأساليبِ الجميلة .
وزوسكيند .. يمتلكُ الكثيرَ من القموّماتِ الجديرة بالقِراءة .
الجميل الصديق / محمد
الهطولُ ينهمرُ بتواجد قرّاءٍ ومهتمّين أمثالك .
لا عدمتكَ سيّدي .
ودٌ يمتدّ
.
.