رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف أو جمعت عملا فإنما جمعك للتكسير أو رفعت إلى طرفك رجع البصر خاسئا وهو حسير وهل أنت في الدول إلا خيال تكتفي الهمم بطيفه أو أصبع يلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه وساع على رأسه قل ما أجدى وسار ربما أعطى قليلا وأكدى
ثم وقف وأكدى أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى كم برزت فما أغنيت في مهمه وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان جريء الجنان مداخل بمخلبك بين ذوي الاقتناص معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص فلو جريت خلفي إلى أن تحفى وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى فما كنت مني إلا بمنزلة المدرة من السماك الرامح والبعرة على تيار الخضم الطافح فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر لتستوجب حقا وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها إلا الأشقى إن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار فلا رعى الله عزائمك القاصرة ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة ثم قطع الكلام وتمثل بقول أبي تمام
( السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
فلما تحقق تحريف القلم حرجه وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم
رجع إلى خداعه وتنحى عن طريق قراعه وعلم أن الدهر دهره والقدر على حكم الوقت قدره وأنه أحق بقول القائل
( لحنها معرب وأعجب من ذا ... أن إعراب غيرها ملحون )
فالتفت إليه وقال أيها المتلهب في قدحه والخارج عما نسب إليه من صفحه ما هذه الزيادة في السباب والتطفيف في كيل الجواب وأين علم الشيوخ عند جهل الشباب أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث وتعلم أخاك على الشعث وتحلم كما زعمت أنك السيد وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك أما أنا وأنت للملك كاليدين وفي تشييده كالركنين الأشدين وما أراك عبتني في الأكثر إلا بتحول جسدي الذي ليس خلقه علي وضعفه الذي ليس أمره إلي على أن أشهى الخصور أنحفها وأقوى الجفون أضعفها وأزكى النسيمات أعلها وأدنفها وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر وحسنها الأشهر ولو أنك تقول بالفصاحة وتقف في هذه الساحة لأسمعتك في ذلك من أشعارهم وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم وكذلك عيبك سواد خلقتي التي
( أكسبها الحب حلية صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق )
فيا لله ويا للحجر الأسود من هذه الحجة البائره والكرة الخاسره وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء وذل الحكماء على أن إطلاقات معروفي معروفة وسطوات أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة فأستغفر الله مما فرط في مقالك والتقويض من عوائد احتمالك فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض إن الله لا يحب الفساد واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض ولا تشك أني قسيمك ولو قيل لك يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض وإن أبيت إلا أن تهدد وتجرد الشغب وتحدد فاذكر محلنا من اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية أيد الله نعمها وجازى بالإحسان شيمها وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها ولا عطل مشاهد المدح من أنسها ولا أخلى قرائض الباس والكرم من قيام خمسها فأقسم من بأسه بالليل وما وسق ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق لو تجاور الأسد والظباء بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل ورتعا في روض لا يجهل ولو لجأ إليها النهار لما راعه بمشيئة الله الليل بزجر أو الليل لما غلب على خيطه الأسود الخيط الأبيض من الفجر وعلى ذلك فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب والمعاضدة على محو الأزمات والنوب والاستقامة على الحق ولا عوج والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة ويجعل بينك وبين الغي حجابا مستورا وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورا
فعند ذلك نكس السيف طرفه وقبل خديعة القلم قائلا لأمر ما جدع قصير أنفه وأمسك عن المشاغبة خيفة الزلل فإن السيوف معروفة بالخلل ثم قال أيها الضعيف الجبار البازغ في ليل المداد نجما وكم في النجوم غرار لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكرت وأحسن بما أشرت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وقد تغافلت عن قولك الأحسن ورددتك إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تماما على الذي أحسن فإنها اليد التي
( لو أثر التقبيل في يد منعم ... لمحا براجم كفها التقبيل )
والراحة التي
( تسعى القلوب لغوثها ولغيثها ... فيجيبه التأمين والتأميل )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم ومكنها من رتبتي العلم والعلم ودارك بكرمها آمال العفاة بعد أن ولا ولم ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل ومجده الذي إذا جر ذيله ود الفضل لو تمسك منه بالفضل لأطلت الآن في ذكر مجدها الأوضح وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها إن أنطقت الصامت فأفصح ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد والمجادلة التي عز أمرها على الحديد أقررت أنت أننا للملك كاليدين ولم تقر أينا اليمين وفي آفاقه كالقمرين ولم تذكر أينا الواضحة الجبين وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه ولا يتهم فهمه فيظهر أينا المفضول من الفاضل والمخذول من الخاذل ويقصر عن القول المناظر ويستريح المناضل وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم الذي أشرت إلى يده الشريفة وتوسلت بمحاسنها اللطيفة فإنه مالك زمامنا ومنشئ غمامنا ومصرف كلامنا وحامل أعبائنا الذي ما هوى للهوى وصاحب أمرنا ونهينا وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى ليفصل الأمر بحكمه ويقدمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه فقدم خيرة الله على ذلك الاشتراط وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط فنشط القلم فرحا ومشى في أرض الطرس مرحا وطرب لهذا الجواب وخر راكعا وأناب وقال سمعا وطاعة وشكر الله على هذه الساعة يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
الآن ظهر ما تبغيان وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان وحكم بيننا الرأي المنير ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير ثم تفاصلا على ذلك وتراضيا على ما يحكم به المالك وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخر ومقام المآثر وغوث الشاكي وغيث الشاكر ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر ولا تجبر ما هو كاسر إن شاء الله تعالى
تمت رسالة الشيخ جمال الدين التي كشف بها عن قناع المغايرة وأتى فيها بكل مثال ليس له مثيل ووسمها بصاحب حماة فأطاعه عاصي الأدب ووهب الله له على الكبر إسماعيل
نرجع إلى أبيات البديعيات فبيت الشيخ صفي الدين
( فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم ) الشيخ صفي الدين غاير الناس في الدعاء لعذاله وما ذاك إلا أن العذول ما برح ممتزجا بذكر الأحباب فكلما كرروا عذله وذكروا أحبابه فرجوا كربه بذلك الذكر
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( تغاير الحال حتى للنوى فئة ... أصبحت منتظرا أيام وصلهم )
أما الشرح في نوع المغايرة فقد طال
والكلام في بيت عز الدين يضيق عنه المجال فإنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام
وبيت بديعيتي
( أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم )
الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم في مدحه لمعنى وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة الحبيب فانظر إلى حسن المغايرة وغرابه المعنى وحسن التركيب
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر التذييل
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
التذييل هو أن يذيل الناظم أو الناثر كلاما بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتجري مجرى المثل بزيادة التحقيق
والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج إلى الكمال
والتذييل لم يفد غير تحقيق الكلام الأول وتوكيده
ومن أعظم الشواهد عليه قوله تعالى ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) فالجملة الأخيرة هي التذييل الذي خرج كلامه مخرج المثل السائر
ومثله قوله تعالى ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) فالجملة الأخيرة هي تذييل خرج في الكلام مخرج الأمثال التي ليس لها مثيل وقوله تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله ) ففي هذه الآية الشريفة تذييلان أحدهما قوله تعالى ( وعدا عليه حقا ) فإن الكلام كان قد تم قبل ذلك وحسن السكوت عليه والآخر قوله تعالى ( ومن أوفى بعهده من الله ) فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر
ووقع ذلك في السنة الشريفة وهو قول النبي ( من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه
وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ولا يهلك على الله إلا هالك )
فقوله ( لا يهلك على الله إلا هالك ) هو التذليل الذي تتعلق البلاغة بأذياله وخرج الكلام فيه مخرج الأمثال وهذا التذليل انفرد بإخراجه مسلم ومن هذا الباب قول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
اتفق أهل البديع على أن قوله أي الرجال المهذب من أحسن تذييل وقع في شعر لأنه خرج مخرج المثل ومثله قول بعض العرب
( ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل )
فعجز هذا البيت كله تذييل وهو في غاية الكمال ولقد أحسن بعضهم في هذا الباب حيث قال
( صدقتك الود أبغي الوصال ... وليس المكاذب كالصادق )
( فجازيتموني بطول البعاد ... وكم أخجل الحب من واثق )
فكل من عجزي البيتين تذييل وخرج الكلام فيهما مخرج المثل وأحسن منه قول الحطيئة
( نزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد )
فإن عجز البيت كله تذييل خرج مخرج المثل وصدر البيت استقل بالمعنى المراد على انفراده وفيه أيضا مع اتصاله بالعجز تعطف حسن في قوله يعطي ويعط وبالتعطف صار بين العجز والصدر ملاحمة وملاءمة شديدة ورابطة وثيقة قال ابن أبي الأصبع عجز هذا البيت إذا انفرد استقل مثلا وتذييلا كما أن الصدر إذا انفرد استقل بالمعنى المقصود من جملة البيت والغرض المطلوب من التمثيل أيضا وقل أن يوجد بيت بين صدره وعجزه مثل هذا التلاحم على استقلال كل قسم بنفسه وتمام معناه ولفظه ومن التذييل الحسن قول أبي الشيص
( وأهنتني فأهنت نفسي عامدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم )
فعجز البيت كله تذييل في ضمنه مطابقة لذكره الهوان والكرامة
ومن بديع التمثيل قول ابن نباتة السعدي
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
فإنه استوفى ما أراده من المدح في الشطر الأول ثم احتاج إلى تتميم البيت وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحسانا وتوكيدا فأخرجه مخرج المثل السائر حيث قال تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض
قال ابن أبي الأصبع هذا البيت إن نظر فيه إلى قول أبي الطيب المتنبي
( تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي )
فبيت ابن نباتة أفضل من بيت المتنبي لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه إذ لم يجعله في حيز من يتمنى شيئا وجعل في قدرته وجوده ما يبلغ مادحه كل أمنية فلم يبق له أمل وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة في قوله دون مبلغه واستعارة في اللفظ بقوله تمسي الأماني صرعى ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي لممدوحه جعله ابن نباتة لمادحه مع زيادة المبالغة في المدح بكونه أخرجه مخرج المثل السائر كما بينا فهو أشهر وأسير وأبقى
وإذا تأمل الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني وهذا قد استقل به صدر بيت ابن نباتة والعجز ملزوم صدره لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل صار كأنه استأنف معنى آخر مستقلا بجميع معنى بيت المتنبي مع كونه زاد بأن جعل للمادح ما جعله المتنبي للممدوح وهذا غاية في حسن الأدب
وقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه
انتهى كلام ابن أبي الأصبع في النقد الحسن الذي قرره على بيت أبي الطيب وبيت ابن نباتة
وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة وهي باب الإيغال والتذييل والتمكين والتكميل
والفرق ظاهر فإن الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق به وهو أيضا مما يأتي بعد تمام المعنى كالتكميل والتذييل
وأما التمكين فليس له مدخل في هذه الأبواب لأنه عبارة عن استقرار القافية في مكانها لأنها لا تزيد معنى البيت بل إذا حذفت نقص معنى البيت لأنها ممكنة في قواعده
وأما التكميل فإنه وإن أتى بعد تمام المعنى فهو يفارق الإيغال والتذييل من وجهين أحدهما كونه يأتي في الحشور والمقاطع والإيغال والتذييل لا يكونان إلا في المقاطع دون الحشو والإيغال والتذييل لا يخرجان عن معنى الكلام المتقدم والتكميل لا بد أن يأتي بمعنى يكمل الغرض على التكملة المتقدمة إما تكميلا بديعيا أو تكميلا عروضيا
والتذييل يفارق الإيغال لكونه يزيد على الكلمة التي تسمى إيغالا ويستوعب غالبا عجز البيت
وبيت صفي الدين في التذييل
( لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت عز الدين الموصلي
( تذييل عيشي ورزقي قسمة حصلت ... في أول الخلق والأرزاق بالقسم )
وبيت بديعيتي
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
فقولي وكفى بالله في القسم هي الجملة التي جاءت بعد تمام الكلام وحسن السكوت عليه واشتملت على معناه وزادته في القسم تحقيقا وتوكيدا وجرت مجرى المثل الذي ما يجارى في شرفه وكماله وأما لفظة التذييل التي هي تسمية لهذا النوع المقصود ففات الشيخ عز الدين فيها لفظة طال فإنني لو لم أذكر الطول ما ترشحت تورية التذييل ولا وقع لها في القلوب مواقع فإن الطول من لوازم الأذيال وطويل ذيل اللقاء في البيت من ألطف الاستعارات وقولي يا عاذلي هو التكميل الذي يأتي في الحشو وقد تقدم الكلام عليه وتقرر
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر التفويف
( خشن ألن أحزن افرح امنع اعط أنل ... فوف أجد وش رقق شد حب لم )
التفويف تأملته فوجدته نوعا لم يفد غير إرشاد ناظمه إلى طرق العقادة
والشاعر إذا كان معنويا وتجشم مشاقه تقصر يده عن التطاول إلى اختراع معنى من المعاني الغريبة وتجفوه حسان الألفاظ ولم يعطف عليه برقة وتأنف كل قرينة صالحة أن تسكن له بيتا ولكن شروع المعارصة ملزم به ولم يسعني غير تشريع الطباق في بيته
وهو في اللغة مشتق من الثوب المفوف الذي فيه خطوط بيض والمراد تلوينه ونقشه ومن ظريف قول ابن قاضي ميلة
( بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه برد الكلام المفوف )
والتفويف في الصناعة عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والغزل وغير ذلك من الفنون والأغراض كل فن في جملة من الكلام منفصلة عن أختها مع تساوي الجملة في الوزنية
ويكون بالجملة الطويلة أو المتوسطة أو القصيرة وأحسنها وأبلغها وأصعبها مسلكا القصار فمثال ما جاء منه بالجملة الطويلة قول النابغة
( وأعظم أحلاما وأكبر سيدا ... وأفضل مشفوعا وأكرم شافع )
وبالجملة المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون
( ته أحتمل واحتكم أصبر وعز أهن ... وذل أخضع وقل أسمع ومر أطع )
ومثال ما جاء بالجملة القصيرة قول أبي الطيب المتنبي
( أقل أنل أقطع إحمل عل أسل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل )
أقل من الإقالة في العثرة أنل من الإنالة والآعطاء أقطع من الإقطاع احمل من قولهم حمله على فرسه عل من الاستعلاء والعلو أسل من السلو أعد أي أعدني إلى موضعي من الجوائز زد أي زدني مما كنت أعهده منك هش من الهشاشة وهي التهلل والبشر من بش البشاشة وهي البشر وطلاقة الوجه تفضل من الأفضال ادن أي قربني إليك وقوله سر من التسري وهو أن يعطيه جارية يتسراها صل من الصلة ولم أقصد بحل هذه الألفاظ إلا إيناسا تزول به وحشة العقادة عن المتأمل فإن هذه الجملة ما استولت عليها عقادة التركيب إلا لكون كل كلمة منها فعل أمر ولم يأت في الجملة القصيرة على هذه الصفة شيء من فصيح الكلام وعلى هذا المنوال نسج أصحاب البديعيات وبالله المستعان
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله
( أقصر أطل اعذل اعذر سل خل أعن ... خن هن عن ترفق كف لج لم )
وهذا النوع ما نظمه العميان وبيت الشيخ عز الدين
( فوف أزف انظم أنثر خص عم أفد ... اعتب أدر أبرق ارعد اضحك ابك لم )
هذا البيت بيت ما نحت من الجبال ولكن الجبال نحتت منه وبيت بديعيتي
( خشن ألن احزن افرح امنع اعط أنل ... فوف اجد وش رقق شد حب لم )
قد تقدم قولي للعاذل
( والله ما طال تذييل اللقاء بهم ... يا عاذلي وكفى بالله في القسم )
ولما قررت له ذلك قلت له في بيت التفويف إن شئت تخشن في عذلك وإن شئت تلين وإن شئت تحزن وإن شئت تفرح وإن شئت تمنع وإن شئت تعطي وإن شئت تفوف العذل وتجيد نقشه وتوشيته وترقق فيه أو تشد معناه أن الكل بالنسبة إلى صدق المحبة سهل ولكن النكتة في قولي له أعني للعاذل حب لم يعني إذا حب لم يعد ذلك كأني أقول له
( من لم يبت والحب يقرع قلبه ... لم يدر كيف تفتت الأكباد )
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض مخاطبا لعاذله
( دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر المواربة
( يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي )
المواربة براء مهملة وباء موحدة وهي مشتقة من الأرب وهي الحاجة لكن ذكر ابن أبي الأصبع أنها مشتقة من ورب العرق بفتح الواو والراء إذا فسد فهو ورب بكسر الراء
كأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه
وحقيقة المواربة أن يقول المتكلم قولا يتضمن ما ينكر عليه فيه بسببه ويتوجه عليه المؤاخذة فإذا حصل الإنكار عليه استحضر بحذقه وجها من الوجوه التي يمكن التخلص بها من تلك المؤاخذة إما بتحريف كلمة أو تصحيفها أو بزيادة أو نقص أو غير ذلك
فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف فقول عتبان الحروز
( وإن يك منك كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب )
( فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب )
فلما بلغ الشعر هشاما وظفر به قال أنت القائل ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال يا أمير المؤمنين ما قلت إلا ومنا أمير المؤمنين شبيب فتخلص بفتح الراء بعد ضمها وهذا ألطف مواربة وقعت في هذا الباب وشاهد الحذف قول أبي نواس في خالصة جارية أمير المؤمنين الرشيد هاجيا لها
( لقد ضاع شعري على بابكم ... كما ضاع حلي على خالصه )
فلما بلغ الرشيد ذلك أنكر عليه وتهدده بسببه فقال لم أقل إلا
( لقد ضاء شعري علي بابكم ... كما ضاء حلي علي خالصه )
فاستحسن الرشيد مواربته وقال بعض من حضر هذا بيت قلعت عيناه فأبصر
وشاهد التصحيف في المواربة يأتي في أبيات البديعيات ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي في المواربة من غير البديعية لما بلغه وفاة القاضي فتح الدين بن الشهيد وكان القاضي فتح الدين يرجح جانب الشيخ شمس الدين المزين على الشيخ عز الدين لبغض كان في خاطره لا لاستحقاق
( دمشق قالت لنا مقالا ... معناه في ذا الزمان بين )
( اندمل الجرح واستراحت ... ذاتي من الفتح والمزين )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( لأنت عندي أخص الناس منزلة ... إذ كنت أقدرهم عندي على السلم )
المواربة في أخص يريد بها أخس بالسين المهملة وأقدرهم يريد بها أقذرهم بالذال المعجمة والمواربة في أقدرهم بالتصحيف
وهذا النوع لم ينظمه العميان في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( لأنت أفتح ذهنا في مواربة ... وبالتعقل منسوب إلى النعم )
مراد الشيخ بأفتح أقبح وبالتعقل التغفل وقال في شرحه إنه أراد بالنعم النعم وهو اسم جامع للإبل وغيرها وأراد بذلك المواربة بالتحريف أيضا
سلمنا له ذلك ولكن لم أر في بيته قبل المواربة معنى يستأنس به الذوق
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على ما تقدم من خطاب العاذل
( يا عاذلي أنت محبوب لدي فلا ... توارب العقل مني واستفد حكمي )
قولي للعاذل أنت محبوب لدي من له أدنى ذوق يفهم منه أن مرادي المواربة بمجنون والمراد بلفظة توارب توازن والمعنى قبل المواربة مستقيم وهو في غاية الكمال وإذا حصلت المواربة صار البيت
( يا عاذلي أنت مجنون لدي فلا ... توازن العقل مني واستفد حكمي )
وأنتقل من صيغة المدح المقبول إلى صيغة الهجو الصريح
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر الكلام الجامع
( جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم )
الكلام الجامع هو أن يأتي الشاعر ببيت مشتمل على حكمة أو وعظ أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال ويتمثل الناظم بحكمها أو وعظها أو بحالة تقتضي إجراء المثل كقول زهير بن أبي سلمى
( ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم )
وقول أبي نواس
( إذا كان غير الله في عدة الفتى ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد )
وقول المتنبي
( وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( من كان يعلم أن الشهد مطلبه ... فلا يخاف للدغ النحل من ألم )
فإنه حصر فيه الكلام الجامع بشروطه وأجراه مجرى المثل مع ما أودع فيه من الحكمة وزاد على ذلك بما كساه من ديباجة الرقة ولطف السهولة وحسن الانسجام وأما العميان فما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( كلامه جامع وصف الكمال كما ... يهيج الشوق أنواعا من الريم )
قد تقرر إن الكلام الجامع هو أن يأتي الناظم ببيت جملته حكمة أو موعظة أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال وليس بين الشطر الأول من البيت وبين الشطر الثاني مناسبة ولا إيناس ملاءمة ولم أر لجريان المثل دخولا في باب هذا البيت وبيت بديعيتي
( جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم )
حكمة هذا البيت ما أجريت مثلها على هذا النمط إلا ليعلم المتيقظ أن فيه إشارة لطيفة إلى بيت عز الدين
فإني قررت أن ليس في كلامه الجامع ما يشعر بحكمة تجري مجرى الأمثال فوجوده عند أهل الذوق كالعدم والله الموفق
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر المناقضة
( إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا إثر عيسهم )
المناقضة تعليق الشرط على نقيضين ممكن ومستحيل ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط فكأن المتكلم ناقض نفسه في الظاهر إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين ومثاله قول النابغة
( وإنك سوف تحكم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب )
فإن تعليقه وقوع حكم المخاطب على شيبة ممكن وعلى شيب الغراب مستحيل ومراده الثاني لا الأول لأن مقصوده أن يقول إنك لا تحكم أبدا
والفرق بين المناقضة وبين نفي الشيء بإيجابه أن هذا الباب ليس فيه نفي ولا إيجاب ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط وبيت الشيخ صفي الدين في المناقضة
( وإنني سوف أسلوهم إذا عدمت ... روحي وأحييت بعد الموت والعدم )
فتعليق الشرط بين النقيضين الممكن والمستحيل ظاهر والبيت في غاية الحسن والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت عز الدين
( إني أناقض عهد النازحين إذا ما شاب عزمي وشبت شهوة الهرم )
الشيخ عز الدين قرر في بيته وشرحه إن شيب العزم ممكن وشباب شهوة الهرم مستحيل
فرأيت تصوير شيب العزم وإمكانه وسبك استعارته في قالب التشبيه كما تقرر
في باب الاستعارة فيه أشكال فإنهم قالوا الاستعارة هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه
ولم أر في شيب العزم وجها للمبالغة في التشبيه وعلى كل تقدير فالممكن والمستحيل في بيت عز الدين فيهما نظر
وبيت بديعيتي
( إني أناقضهم إن أزمعوا ونأوا ... وجر نمل ثبيرا إثر عيسهم )
تعليق الشرط على الممكن والمستحيل في هذا البيت أوضح من الكلام عليه والله أعلم بالصواب
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر
( ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم )
هذا النوع الذي هو رد الإعجاز على الصدور سماه المتأخرون التصدير
والتصدير هو أخف على المستمع وأليق بالمقام وقد قسمه ابن المعتز على ثلاثة أقسام
الأول ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره أو كانت مجانسة لها كقول الشاعر
( يلفى إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأي لا يفل عرمرم )
والثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه وهو الأحسن كقول الآخر
( سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داعي الندى بسريع )
ومثله
( تمنت سليمى أن أموت صبابة ... وأهون شيء عندنا ما تمنت ) ومثله
( سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أني يفيق فتى به سكران )
وشاهد الجناس في هذا الباب للسري الرفاء
( يسار من سجيتها المنايا ... ويمنى من عطيتها اليسار )
والأكثر أن تكون الكلمة التي في العجز عين الكلمة التي في الصدر لفظا وإن قبل اللفظ اشتراكا زاد النوع حسنا
مثاله
( ذوائب سود كالعناقيد أرسلت ... فمن أجلها منا النفوس ذوائب )
والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلام في أي موضع كان كقول الشاعر
( سقى الرمل صوب مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل )
هكذا عرف ابن المعتز هذا القسم الثالث من التصدير
لكن قال ابن أبي الأصبع إن هذا التعريف مدخول وصدق فإن ابن المعتز قال في أي موضع كان والكلمة إذا كانت في العجز لم تسم تصديرا لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به من المدخل بحيث يقول بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من صدره
قال ابن أبي الأصبع أيضا الذي يحسن أن يسمى به القسم الأول تصدير التقفية والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو وقد وقع من القسم الأول في الكتاب العزيز قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ومن القسم الثاني قوله تعالى ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ومن القسم الثالث قوله تعالى ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون )
قال ابن أبي الأصبع وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز وهو أن يأتي فيما الكلام فيه منفي واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول الشاعر
( فإن تك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد )
وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر كما ذكرناه وسماه التبديل وهو أن يصير المتكلم الأخير من كلامه أولا أو بالعكس كقولهم أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك قال ابن أبي الأصبع لم أقف لهذا النوع على شاهد شعري فقلت
( اصبر على خلق من تصاحبه ... واصحب صبورا على أذى خلقك )
أصحاب البديعيات نظموا القسم الثاني الذي قرره ابن المعتز وهو ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة فيه وهو الذي وقع الاتفاق على أنه الأحسن
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله
( فمي تحدث عن سري فما ظهرت ... سرائر القلب إلا من حديث فمي )
هذا النوع أعني التصدير ما برحت السهولة نازلة بأكناف أذياله فإنه سهل المأخذ ويتعين على الأديب المعنوي أن لا يتركه ساذجا من نكتة أدبية يزداد بها بهجة فإن الشيخ صفي الدين مع عدم تكلفه بتسمية النوع وسبكه في قالب التورية من جنس الغزل لم يأت به إلا ساذجا
وبيت العميان في بديعيتهم
( وحقهم ما نسينا عهد حبهم ... ولا طلبنا سواهم لا وحقهم )
لعمري إن بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع أعمر من بيت الصفي ومن بيت العميان فإنه مع التصريح بتورية التسمية حلى نوع التصدير بمكررها في طرفي بيته وهو
( فهم بصدر جمال عجز عاشقه ... عن وصله ظاهر عن باحث فهم )
وبيت بديعيتي
( ألم أصرح بتصدير المديح لهم ... ألم أهدد ألم أصبر ألم ألم )
ديباجة التورية في عجز هذا البيت وصدره لا تخفى على صاحب الذوق السليم ولو استقل هذا البيت بنظم نوع التصدير مجردا لم يكن تحته كبير أمر كبيت الحلي وبيت العميان
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم
( قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم )
القول بالموجب ويقال له أسلوب الحكيم وللناس فيه عبارات مختلفة منهم من قال هو أن يخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم أو يقول بالصفة الموجبة للحكم ولكن يثبتها لغير من أثبتها المتكلم
وقال ابن أبي الأصبع هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه
قال صاحب التلخيص في تلخيصه وإيضاحه القول بالموجب ضربان
أحدهما أن تقع صفة من كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه كقوله تعالى ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم وبالأذل عن فريق المؤمنين وأثبتوا للأعز الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم
انتهى كلام صاحب التلخيص
ومنه قول القبعثري للحجاج لما توعده فقال لأحملنك على الأدهم والمراد به
القيد فرأى القبعثري أن الأدهم يصلح للقيد والفرس فحمل كلامه إلى الفرس وقال مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فصرف الوعيد بالهوان إلى الوعد بالإحسان وفي هذا ما لا يخفى على المتأدب من حسن التلطف وشدة الباعث على فعل الخير إذ لا يليق بمن له همة عالية أن يقال له مثلك من يفعل الخير فيقول لا بل أفعل الشر
والقسم الثاني من كلام صاحب التلخيص أن القول بالموجب هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه وهذا القسم الذي تداوله الناس ونظمه أصحاب البديعيات كقول ابن حجاج
( قال ثقلت إذ أتيت مرارا ... قلت ثقلت كاهلي بالأيادي )
( قال طولت قلت أوليت طولا ... قال أبرمت قلت حبل ودادي )
وحذاق البديع أخلوا هذا الباب من لفظة لكن فإنهم خصصوا بها نوع الاستدراك بحيث يفرق بينهما فرق دقيق وهذا هو الفرق
ومن أحسن ما وقع في هذا النوع قول محاسن الشواء
( ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما فيهم إلا للحمى قارض )
( وقد بهتوا لما رأوني شاحبا ... وقالوا به عين فقلت وعارض )
وأورد الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل إلى صناعة الترسل بيت الأرجاني في الاستدراك شاهدا على هذا النوع وهو
( غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما )
( ثم قالت أنت في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )
قد تقرر أن لفظه لكن خصص بها أهل البديع نوع الاستدراك لأجل الفرق بينه وبين القول بالموجب ولم يستشهدوا على نوع الاستدراك بغير بيتي الأرجاني
قال الشهاب محمود في البيتين إنه أعجبه معناهما ونظم فيه قوله وهو شاهد على القول بالموجب ( رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا )
( فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت وبالخصر أيضا )
وبيت الحلي
( قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم ... سلوت عن صحتي والبرء من سقمي )
فقوله سلوت عن صحتي هو حمل لفظ وقع من كلام الغير على خلاف مراده
وبيت العميان أوردوه بحرف الاستدراك وهو
( كانوا غيوثا ولكن للعفاة كما ... كانوا ليوثا ولكن في عداتهم )
رأيت ترك الكلام على هذا البيت أليق بالمقام
وبيت عز الدين الموصلي
( قالوا مدام الهوى قول بموجبه ... تسل قلت شبابي من يد الهرم )
لما قال الشيخ عز الدين بعد تسل شبابي من يد الهرم علمنا أنها الكلمة التي أشار إليها ابن أبي الأصبع وقال إن المخاطب يعكس بها معنى كلام المتكلم وهو عين القول بالموجب
وتسل هنا أحسن من سلوت في بيت الحلي فإن تسل يقبل الاشتراك ومراد المتكلم هنا داء السل فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم ونقله باشتراك التورية إلى الوجه الذي أراده ولم يخرج عن موضوعها في معنى السل الذي لم يخرج عن الوجهين غير أن قول الموصلي مدام الهوى قول بموجبه لم يخل من شدة العقادة وبيت بديعيتي
( قولي له موجب إذ قال أشفقهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم )
فلفظة تسل هي الكلمة المعتمد عليها في عكس معنى كلام المتكلم من المخاطب فإن المتكلم أراد السلو في لفظه تسل وهي فعل أمر فعاكسه المخاطب بالاشتراك ونقلها بالتورية إلى صفة التسلي بالنيران فإنه لما قال له تسل قال بناري يوم فقدهم
ورقة البيت وانسجامه لا تخفى على أهل الذوق السليم والله أعلم
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر الهجو في معرض المدح
( وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم )
هذا النوع من مستخرجات ابن أبي الأصبع وهو أن يقصد المتكلم هجاء إنسان فيأتي بألفاظ موجهة ظاهرها المدح وباطنها القدح فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه كقول الحماسي
( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا )
( كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانا )
فظاهر هذا الكلام المدح بالحلم والعفة والخشية والتقوى وباطنه المقصود أنهم في غاية الذل وعدم المنعة وظريف قول بعضهم في الشريف ابن الشجري
( يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدى به الفكر )
( ما فيك من جدك النبي سوى ... أنك لا ينبغي لك الشعر )
ومن ملح هذا الباب قول ابن سنا الملك في قواد
( لي صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأني حسن الاحتيال )
( لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال )
( يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجو طيف الخيال )
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع لقد تشبثت بأذيال القاضي السعيد بن سنا الملك في هذا النوع بقولي فيمن ادعى الفقه والكرم
( إن فلانا أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه )
( وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه )
( فيحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه )
والفرق بين الهجاء في معرض المدح وبين التهكم أن التهكم لا تخلو ألفاظه من اللفظ الدال على نوع من أنواع الذم أو لفظة توهم من فحواها الهجو
وألفاظ المدح في معرض الذم لا يقع فيها شيء من ذلك ولا تزال تدل على ظاهر المدح حتى يقرن بها ما يصرفها عنه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( من معشر يرخص الإعراض جوهرهم ... ويحملون الأذى من كل مهتضم )
فقوله ويحملون الأذى من كل مهتضم ينظر إلى قول الحماسي يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة والمراد بما أبطنه الذل وعدم المنعة
والعميان لم ينظموا هذا النوع
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( في معرض المدح تهجى من قبيلته ... أعراضهم بين معمور ومنهدم )
الذي أقوله إن الشيخ عز الدين قفل مصراعي بيته ومنع الأفهام من الدخول إليه فإني لم أجد فيه ما يدل على مجرد المدح ولا اقترن به ما يصرفه إلى صيغة الهجو بل أقول وأنا أستغفر الله إن هذا البيت أجساد ألفاظه ما دب فيها من المعاني روح وليس له بهذا النوع إلمام
وبيت بديعيتي
( وكم بمعرض مدح قد هجوتهم ... وقلت سدتم بحمل الضيم والتهم )
فحمل الضيم ينظر إلى قول الحماسي إذ ظاهره الحلم والحسن وباطنه الذل وعدم المنعة ولكن حمل التهم هو الغاية القصوى في ظاهره وباطنه والله أعلم
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر الاستثناء
( عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم )
الاستثناء استثناءان لغوي وصناعي
فاللغوي إخراج القليل من الكثير وقد فرع النحاة من ذلك في كتبهم فروعا كثيرة
والصناعي هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى يزيد على معنى الاستثناء ويكسوه بهجة وطلاوة ويميزه بما يستحق به الإثبات في أبواب البديع كقوله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) فإن في هذا الكلام معنى زائدا على مقدار الاستثناء وذلك لعظم الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم وذلك مثل قولك أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلانا فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته ويفخم مقدار كبريائه بخلاف قولك أمر الملك بكذا فعصاه فلان
ومثاله قوله تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) فإن في الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة تهويلا على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه وإن في حكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة العظيمة تعظيمها لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف والإيجاز في اختصار هذا اللفظ بهذه البلاغة العظيمة ظاهر فإن لفظ القرآن أخصر وأوجز من قولنا تسعمائة سنة وخمسين عاما ولفظ القرآن بتقييد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة
عليه ومثله قوله تعالى ( فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) فالله تعالى لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر استثنى من خلودهم في النار بلفظ مطمع حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله إن ربك فعال لما يريد أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار
ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة استثنى من خلودهم ما ينفي الاستثناء حيث قال عطاء غير مجذوذ أي مقطوع وهذه المعاني في هذه الآيات الشريفة زائدة على الاستثناء اللغوي
ومن أمثال الاستثناء اللغوي في الشعر قول النميري
( فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني )
هذا الاستثناء في غاية الحسن فإنه تضمن المبالغة في زيادة مدح الممدوح وذلك أن هذا الشاعر يقول إني لو كنت في حيز العدم لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكنا من رؤيتي ليس لك مانع يمنعك عني فالزيادة هنا في غاية اللطف وهي قوله إلا أن تصد فأنت في القدرة علي غير ممنوع وهذا غاية المبالغة في المدح
ومن الاستثناء نوع سماه ابن أبي الأصبع استثناء الحصر وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير ونظم فيه قوله
( إليك وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب )
فإن خلاصة هذا البيت قول الناثر للممدوح لا تحث الركائب إلا إليك ولا يصدق المحدث إلا عنك وهذا الحصر لا يحسن في الاستثناء الأول فإنه لو قال سبحانه وتعالى فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وعاما صح لولا توخي الصدق في الخبر
وقوله تعالى ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا أبليس ) لا يمنع أن يقال ورهطه لولا مراعاة الصدق في الخبر وعلى منوال الاستثناء الأول الذي هو العمدة في هذا الباب نظم أصحاب البديعيات وهو إخراج القليل من الكثير بزيادة معنى بديع يزيد على معنى الاستثناء فبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( فكل ما سر قلبي واستراح به ... إلا الدموع عصاني بعد بعدهم )
فبيت صفي الدين هنا غير خال من العقادة ومراده فيه أن كل شيء كان يسره قبل الفراق ويطيعه عصاه إلا الدموع فإنها أطاعته
ومعنى هذه الزيادة اللطيفة لا يخفى على أهل الذوق
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( الناس كل ولا استثناء لي عذروا ... إلا العذول عصاني في ولائهم )
مراد عز الدين في زيادة معناه على معنى الإستثناء أن عذوله خالف الإجماع
وبيت بديعيتي
( عفت القدود فلم أستثن بعدهم ... إلا معاطف أغصان بذي سلم )
قال الله تعالى ( كل حزب بما لديهم فرحون ) هذا البيت ما أعلم أنني إذا أطنبت في وصفه يكون الإطناب لشدة فرحي به لكونه نظمي أو لأن الأمر على حقيقته
فإن زيادة معناه على معنى الاسثتناء وغرابة أسلوبه وشرف نسيبه وحسن انسجامه وسهولة ألفاظه ومراعاة نظيره لا تخفى على المنصف من أهل الأدب
وأما ترشيح تورية الاستثناء بذكر القدود والمعاطف فإنه من النسمات التي حركت القدود والمعاطف والتكميل بذي سلم لكون القصيدة نبوية في غاية الكمال
والذي أقوله إنه ما يدخل نظر المتأمل إلى بيت أعمر منه في هذا الباب والله أعلم بالصواب
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر التشريع
( طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
هذا النوع أعني التشريع سماه ابن أبي الأصبع التوأم
وأراد بذلك مطابقة التسمية للمسمى فإن هذا النوع شرطه أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان القريض وقافيتين فإذا أسقط من أجزاء البيت جزأ أو جزأين صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول كقول الحريري
( يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردي وقرارة الأكدار ) ... ( دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا تبا لها من دار )
وهي قصيدة كاملة معروفة في مقاماته من ثاني الكامل وتنتقل بالإسقاط إلى ثامنه فتصير
( يا خاطب الدنيا الدنية ... إنها شرك الردى )
( دار متى ما أضحكت ... في يومها أبكت غدا )
وزيادة القافيتين ظاهرة ووقع قبل كلام الحريري من كلام العرب في هذا الباب
( وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالا )
( ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطالا )
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرمال والقتال لكان الشعر من الضرب المجزو المرفل من الكامل وهو
( وإذا الرياح مع العشي ... ي تناوحت هوج الرمال )
( ألفيتنا نفري الغبيط ... لضيفنا قبل القتال )
فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه وصار لكل بيت من هذين البيتين قافيتان ولا شك أن هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف فإنه راجع إلى الصناعة لا إلى البلاغة والبراعة إذ وقوع مثل هذا النوع في الشعر من غير قصد له نادر ولا يحسن أن يكون في النثر فإنه ما يقع فيه إلا ترصيعا ولا يظهر حسنه إلا في النظم لأن فيه الانتقال من وزن إلى وزن آخر فيحصل بذلك من الاستحسان ما لا يحسن في النثر لأن النثر على كل حال كلام مسجوع ليس فيه انتقال من وزن إلى وزن وأوسع البحور في هذا النوع الرجز فإنه قد وقع مستعملا تاما ومجزوا ومشطورا ومنهوكا فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف فإذا أسقطت ما بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكا فإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي البيت مشطورا فإذا أسقطت ما بعد الثالثة بقي مجزوا وإذا لم تسقط شيئا كان تاما
ولأبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي ناظم البديعية في غير بديعيته المذكورة هنا
( يرنو بطرف فاتر مهما رنا ... فهو المنى لا أنتهي عن حبه )
( يهفو بغصن ناضر حلو الجنى ... يشفي الضنا لا صبر لي عن قربه )
( لو كان يوما زائري زال العنا ... يحلو لنا في الحب أن نسمى به )
( أنزلته في ناظري لما دنا ... قد سرنا إذ لم يحل عن صبه )
فهذه الأبيات من الرجز التام وهو الضرب الأول منه فإذا تركتها على حالها فهي
من التام وإذا أسقطت من البيت الأول لا أنتهي عن حبه ومن الثاني لا صبر لي عن قربه ومن الثالث في الحب أن نسمى به ومن الرابع إذا لم يحل عن صبه صارت من الرجز المجزوء وإن أسقطت من البيت الأول قوله فهو المنى إلى آخره ومن الثاني يشفي الضنا إلى آخره ومن الثالث يحلو لنا إلى آخره ومن الرابع قد سرنا إلى آخره صارت من الرجز المشطور
وإن أسقطت من الأول
قوله مهما رنا ومن الثاني حلو الجنى ومن الثالث زال العنا ومن الرابع لما دنا صار من الرجز المنهوك
ولكن القوة في ذلك والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع في بيت واحد وهذا هو المطلوب من نظام البديعيات لأجل الاستشهاد بأبياتهم على كل نوع لا سيما الملتزم بتسميته على الصيغة فإنه لو جاء بالتسمية والنوع في بيتين بطل حكم التورية وخرج عن شروط البديعيات
وبيت الشيخ صفي الدين
( فلو رأيت مصابي عندما رحلوا ... رثيت لي من عذابي يوم بينهم )
يخرج له من هذا البيت
( فلو رأيت مصابي ... رثيت لي من عذابي )
وهو مجزوء المجتث وبيته عند العروضيين
( البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال )
وقد تعين إيراد ما نظمه أبو عبد الله الضرير في البيتين لأجل المعارضة وهما
( واف كريم رحيم قد وفى ووقى ... فعم نفعا فكم ضرا شفى فقم )
( فقم بنا فلكم فقرا كفى كرما ... وجود تلك الأيادي قد صفا فقم )
أقول لو اختصر العميان هذين البيتين وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع لكان أجمل بهم فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين وقصد الناظم فيهما أعني البيتين أنك إذا أسقطت من البيت الكلمة الموازنة لفعلن من آخر كل نصف وهما قوله ووقى وقوله فكم صار الوزن من الضرب الأول من البسيط وهو التام إلى الضرب الثالث منه وهو المجزو لأنه قد حذف منه جزءا من آخر كل نصف فصار
( واف كريم رحيم قد وفى ... وعم نفعا فكم ضرا شفى )
( فقم بنا فلكم فقرا كفى ... وجود تلك الأيادي قد صفا )
وهذا مع ركته وثقالة نظمه غير المشهور من البسيط فإنه لم يشتهر منه سوى العروض الأولى المخبونة ووزنها فعلن ولها ضربان المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها
وبيت الشيخ عز الدين
( وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا ... وكم هوى في مقال ذل من حكم )
أخبر أن تشريع العذول في حكم الهوى ضلال حتى يرشح بتورية التشريع في تسمية النوع ويخرج من بيت الشيخ عز الدين بيت من قافية أخرى من منهوك الرجز فنصفه في الشطر الأول وفي الهوى وفي الشطر الثاني وكم هوى وهذه عبارته في شرحه بنصها فصار باقي البيت بدون الجزأين الأولين
( ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم )
وهذا البيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد ووزنها فعلن وشاهدها
( للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه )
ولقد برز الشيخ عز الدين في ذلك على متقدميه فإن الشيخ صفي الدين لم يتحصل له بيتان من بيت ولا للشيخ أبي عبد الله الضرير ولكن قال الشيخ عز الدين في شرحه إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة وبسط العبارة في الدعوى بسببه فأردت أن لا أنسج في الشرح على غير منواله فقلت
( طاب اللقا لذا تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
فيخرج من بيتي
( طاب اللقا ... على النقا )
وهو بيت بقافية أخرى من منهوك الرجز كبيت الشيخ عز الدين ولكن شتان بين قولي ( طاب اللقا ... على النقا ) وبين قوله ( وفي الهوى ... وكم هوى ) فإن بيته لا تتم به فائدة ولا يحسن السكوت عليه وصار باقي بيتي بدون الجزأين الأولين
( لذ تشريع الشعور لنا ... فنعمنا في ظلالهم )
وهو بيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد وهي التي رتب عز الدين عليها ما بقي من بيته
( ضل تشريع العذول لنا ... في مقال ذل من حكم ) ولكن الفرق في تشريع الشعور ظاهر والتورية في قوله فنعمنا في ظلالهم عند ذكر الشعور كلامها سائغ عند أهل الأدب وهذا البيت مع صعوبة مسلك هذا النوع اجتمع فيه من أنواع البديع السهولة والانسجام والتورية في موضعين والتمكين في القافية والجناس المطلق بين تشريع وشعور والتذييل البديعي فإني أتيت بجملة بعد تمام الكلام الأول زادت معناه تحقيقا وتوكيدا وجرت مجرى المثل وفيه نوع التشريع الذي هو المقصود هنا والله أعلم
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر التتميم
( بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم )
التتميم كان اسمه التمام وإنما سماه الحاتمي التتميم وسماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه
والتتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه وهو على ضربين ضرب في المعاني وضرب في الألفاظ
فالذي في المعاني هو تتميم المعنى والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن والمراد هنا تتميم المعنى ويجيء للمبالغة والاحتياط كقول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي )
فقوله غير مفسدها احتراس واحتياط ويجيء في المقاطع والحشو وأكثر مجيئه في الحشو ومثاله قوله تعالى ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) فقوله ( من ذكر أو أنثى ) تتميم وقوله ( وهو مؤمن ) تتميم ثان في غاية البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام وجرى على الصحة ولو حذفت الجملتان نقص معناه واختل حسن البناء
ومن هذا القسم قول النبي مما انفرد به مسلم ( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفرائض إلا بنى الله له بيتا في
الجنة ) فوقع التتميم في هذا الحديث في أربعة مواضع منها قوله مسلم ومنها قوله لله ومنها كل يوم ومنها قوله من غير الفرائض
ومن أناشيد قدامة على هذا القسم
( أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب )
فقوله ويعطوه تتميم فإنه في غاية الحسن وهو شاهد على ما جاء منه للاحتياط
ومثال ما جاء منه للمبالغة قول زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا )
فقوله على علاته تتميم للمبالغة
وغاية الغايات في التتميم للمبالغة قوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) فقوله على حبه هو تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين
وأما التتميم الذي جاء في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها وهو على ضربين أيضا كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربا من المحاسن
فالأولى من العيوب والثانية من النعوت والمراد هنا الثانية لا الأولى ومثالها قول المتنبي
( وخفوف قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما )
فإنه جاء بقوله يا جنتي لإقامة الوزن فأفاد تتميم المطابقة وهو ضرب من المحاسن المشار إليها ولقد وهم جماعة من المؤلفين وخلطوا التكميل بالتتميم وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل وبالعكس
وتأتي شواهد التكميل في مواضعها والفرق بين التكميل والتتميم أن التتميم يرد على الناقص فيتمه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله إذ الكمال أمر زائد على التتميم وأيضا أن التمام يكون متمما لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده والتكميل يكملها
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( وكم بذلت طريفي والتليد لكم ... طوعا وأرضيت عنكم كل مختصم )
فالتتميم في قوله طوعا فإنه أراد به أنه لم يبذل ذلك كرها فتم بهذا المعنى
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( والبدر مذ لاح في التتميم دان له ... والشمس مذعنة طوعا لمحتكم )
قوله في التتميم هو التتميم بعينه مع زيادة التورية في التشبيه وقوله طوعا تتميم ثان لكن تقدمه الشيخ صفي الدين بقوله طوعا وأرضيت عنكم كل مختصم
وبيت بديعيتي متعلق ببيت التشريع الذي قبله وهو
( طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا ... على النقا فنعمنا في ظلالهم )
( بكل بدر بليل الشعر يحسده ... بدر السماء على التتميم في الظلم )
فقولي بليل الشعر هو التتميم الذي تستعار من استعارته المحاسن فإني لو قلت بكل بدر يحسده بدر السماء لصح المعنى ولكن زدت البدر الأرضي بقولي بليل الشعر تتميما وحسنا
وقولي على التتميم تتميم ثان مع زيادة التورية التي فيها تسمية النوع الملتزم بها وقولي في الظلم تتميم ثالث ليس له نظير فإن به تم المعنى وتمت رتبة اللف والنشر
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر تجاهل العارف
( وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم )
تجاهل العارف تسميته لابن المعتز وسماه السكاكي بسوق المعلوم مساق غيره لنكتة المبالغة في التشبيه
وهو عبارة عن سؤال المتكلم عما يعلم سؤال من لا يعلم ليوهم أن شدة التشبيه الواقع بين المتناسبين أحدثت عنده التباس المشبه بالمشبه به وفائدته المبالغة في المعنى نحو قولك أوجهك هذا أم بدر فإن المتكلم يعلم أن الوجه غير البدر إلا أنه لما أراد المبالغة في وصف الوجه بالحسن استفهم أهذا وجه أم بدر ففهم من ذلك شدة الشبه بين الوجه والبدر فإن كان السؤال عن الشيء الذي يعرفه المتكلم خاليا من الشبه لم يكن من هذا الباب بل يكون من باب آخر كقوله تعالى ( وما تلك بيمينك يا موسى ) فإن السؤال هنا ما وقع لأجل المبالغة في التشبيه المشار إليه في تجاهل العارف بل هو لفائدة أخرى
أما الإيناس لموسى عليه السلام لأن المقام مقام هيبة واحترام وإما إظهار المعجز الذي لم يكن موسى يعلمه
ومنه قوله لعيسى عليه السلام ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) فإن السؤال هنا لم يكن للتشبيه وإنما هو توبيخ لمن ادعى فيه ذلك
ومن الناس من جعل تجاهل العارف مطلقا سواء كان على طريق التشبيه أو على غيره إذا تقرر هذا فاعلم أن تجاهل العارف من حيث هو إنما يأتي لنكتة من نحو مبالغة
في مدح أو ذم أو تعظيم أو تحقير أو توبيخ أو تقرير أو من تدله في الحب وأنا أذكر أمثلة الجميع هنا فمنه للمبالغة في الغزل قول الشاعر
( أجفون كحيلة أم صفاح ... وقدود مهزوزة أم رماح )
ومنه للمبالغة في الشوق وطول الليل
( وشوق ما أقاسي أم حريق ... وليل ما أكابد أم زمان )
وللمبالغة في النحول
( وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد )
( وشكك في عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد )
ومنه للمبالغة في الغزل
( في الخيف من ظبيانه سمراء ... أقوامها أم صعدة سمراء )
ومثله
( أثغرك يا هند أبدى ابتساما ... أم البرق سل عليه حساما )
ومثله قول شرف الدين راجح الحلي
( من أطلع البدر في ديجور طرته ... وأودع السحر في تكسير مقلته )
( ومن أدار يواقيت الشفاه على ... كأس من الدر يحمي خمر ريقته )
ويعجبني من هذا القصيد قوله وإن كان من غير ما نحن فيه
( يحنو النسيم عليه من لطافته ... والدهر ألين منه عند قسوته )
ومثله في اللفظ والمعنى قول ابن نباتة
( في مرشفيه سلاف الراح من عصره ... ومعطفيه قوام البان من هصره )
( وفي ابتسام ثناياه ومنطقه ... من نظم الدر أسلاكا ومن نثره )
ومن تجاهل العارف للمبالغة في تعظيم الممدوح قول ابن هانئ المغربي
( أبني العوالي السمهرية والمواضي ... المشرفية والعديد الأكبر )
( من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير )
قيل إنه لما تجاهل في هذا البيت عن معرفة الممدوح ترجل الجيش بكماله تعظيما للممدوح إذ هو ملكهم وهذه القصيدة سارت بها الركبان والحداة تشدو ببلاغتها وهي أحب من قفا نبك في الشهرة لفصاحتها ومطلعها
( فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر )
وما أحلى ما قال بعده
( وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر )
أقول إن هذه الاستعارات المرشحة يرشح ندى البلاغة من بين أوراقها وتتعثر فحول الشعراء في حلبة سباقها ومنها
( في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر )
( لا يأكل السرحان شلو طعينم ... مما عليه من القنا المتكسر )
( قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمر )
( وتظل تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهن سفائن في أبحر )
( حي من الأعراب إلا أنهم ... يردون ماء الأمن غير مكدر )
( لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر )
( صعب إذا نوب الزمان استصعبت ... متنمر للحادث المتنمر )
( وإذا عفا لم تلق غير مهلل ... وإذا سطا لم تلق غير معفر )
( فغمامه من رحمة وعراصه ... من جنة ويمينه من كوثر )
ولم أستطرد إلى هذا القدر من نظم ابن هانئ إلا لعلمي أنه عزيز الوجود وغريب في هذه البلاد
ومن تجاهل العارف للمبالغة في المدح قول إمام هذه الصناعة ومالك أزمة البلاغة والبراعة القاضي الفاضل من مديح العادل
( أهذي كفه أم غيث غوث ... ولا بلغ السحاب ولا كرامه )
( وهذا بشره أم لمع برق ... ومن للبرق فينا بالإقامه )
( وهذا الجيش أم صرف الليالي ... ولا سبقت حوادثها زحامه )
( وهذا الدهر أم عبد لديه ... يصرف عن عزيمته زمامه )
( وهذا نعل غمد أم هلال ... إذا أمسى كنون أم قلامه )
( وهذا الترب أم خد لثمنا ... فآثار الشفاه عليه شامه )
سبحان المانح هذا الأديب الذي لم ينسج الأوائل على منواله ولا تتعلق الأفاضل من المتأخرين بغبار أذياله
ومنها وليس من تجاهل العارف ولكنه من المرقص والمطرب
( وهذا الدر المنثور ولكن ... أروني غير أقلامي نظامه )
( وهذي روضة تندى وسطري ... بها غصن وقافيتي حمامه )
( وهذا الكاس روق من بناني ... وذكرك كان من مسك ختامه )
وقوله أيضا من تجاهل العارف للمبالغة في المديح
( أهذه سير في المجد أم سور ... وهذه أنجم في السعد أم غرر )
( وأنمل أم بحار والسيوف لها ... موج وإفرندها في لجها درر )
( وأنت في الأرض أم فوق السماء وفي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر )
ومما جاء في تجاهل العارف للمبالغة في التعظيم قول سيدنا القطب الفرد الجامع عبد القادر الكيلاني قدس الله ضريحه وأعاد علينا من بركاته في الدنيا والآخرة بمحمد وآله
( أأظما وأنت العذب في كل منهل ... وأظلم في الدنيا وأنت نصيري )
( وعار على حامي الحمى وهو قادر ... إذا ضاع في البيدا عقال بعير )
ومثله
( بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك )
ومما جاء في تجاهل العارف للمبالغة في الذم قول زهير
( وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء )
ومما جاء للتحقير قول الشاعر وتظارف إلى الغاية
( لما ادعى غصن الرياض بأنه ... في لينه مع قدها موصوف )
( قلنا له هل أنت تشبه قدها ... ما أنت هذا القد يا مقصوف )
ومما جاء منه للتوبيخ قول ليلى بنت طريف الخارجية في أخيها الوليد
( أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف )
وهذا البيت من قصيدة غريبة أثبتها بكمالها ابن خلكان في تاريخه والخابور نهر أصله من رأس عين بديار بكر يصب إلى الفرات
ومن أطرف ما وقع في تجاهل العارف على سبيل التوبيخ قول سراج الدين الوراق فإنه صرح بذكر التوبيخ في بيتيه وهما
( وا خجلتي وصحائفي مسودة ... وصحائف الأبرار في إشراق )
( وموبخ في الحشر وهو يقول لي ... أكذا تكون صحائف الوراق )
ومما وقع للتقرير قول مهيار
( سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا )
( أأنت أمرت الصبح أن يصدع الدجا ... وعلمت غصن البان أن يتميلا )
ومما وقع منه قول العرجي للتدله في الحب
( بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكم أم ليلى من البشر )
قد قررت هنا اختلاف أقسام هذا النوع أعني تجاهل العارف من مدح وذم وتعظيم وتحقير وتوبيخ وتقرير وغير ذلك إذا عرفت ذلك فإني أوردت هنا ما استظرفته في هذا الباب ولم أحتج فيه إلى التنبيه
وأظرف ما سمعته في هذا الباب قول عبد المحسن الصوري
( بالذي ألهم تعذيبي ... ثناياك العذابا )
( والذي صير حظي ... منك هجرا واجتنابا )
( والذي ألبس خديك ... من الورد نقابا )
( ما الذي قالته عيناك ... لقلبي فأجابا )
ومثله
( دعوه ونجدا إنها شأن نفسه ... ولو أن نجدا تلعة ما تعداها )
( وهبكم منعتم أن يراها بعينه ... فهل تمنعون القلب أن يتمناها )
وقول المتنبي
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي )
وقول الفاضل
( فإذا قلت أين داري وقالوا ... هي هذي أقول أين زماني )
وقال ابن الفارض
( أوميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربا نجد أرى مصباحا )
( أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلا فصيرت المساء صباحا )
ويعجبني قول الشيخ علاء الدين الوداعي
( ترى يا جيرة الرمل ... يعود بقربكم شملي )
( وهل تقتص أيدينا ... من الهجران للوصل )
( وهل ينسخ لقياكم ... حديث الكتب والرسل ) ومن لطائف هذه القصيدة ولم أبعد في الاستطراد عما نحن فيه قوله
( بروحي ليلة مرت ... لنا معكم بذي الأثل )
( وساقينا وما يملا ... وشادينا وما يملي )
( وظبي من بني الأتراك ... حلو التيه والدل )
( له قد كغصن البان ... ميال إلى العدل )
( وطرف ضيق ويلاه ... من طعناته النجل )
( أقول لعاذلي فيه ... رويدك يا أبا جهل )
( فقلبي من بني تيم ... وعقلي من بني ذهل )
( وما يبري هوى المشتاق ... إلا ذلك المغلي )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
لقد زاحمه الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله هنا بقوله
( حلفت بما يملا النديم وما يملي ... لقد صان ذاك الحسن سمعي عن العذل )
( من المغل أشكو نحوه ألم الهوى ... وطب الهوى عندي كما قيل بالمغلي )
ومن الذي أعجبني في هذا النوع أعني تجاهل العارف قول بعضهم
( أقول له علام تميل عجبا ... على ضعفي وقدك مستقيم )
( فقال تقول عني في ميل ... فقلت له كذا نقل النسيم )
ومليح هنا قول ابن نباتة السعدي
( فوالله ما أدري أكانت مدامة ... من الكرم تجنى أم من الشمس تعصر )
وأورد صاحب الصناعتين في هذا الباب ما كتبه إليه بعض أهل الأدب وهو سمعت بورود كتابك فاستفزني الفرح قبل رؤيته وهز عطفي المرح أمام مشاهدته فما أدري أسمعت بورود كتاب أم رجوع شباب ولم أدر أرأيت خطا مسطورا أم روضا ممطورا أو كلاما منثورا أم وشيا منشورا
وبيت الشيخ صفي الدين غاية في هذا الباب
( يا ليت شعري أسحرا كان حبكم ... أزال عقلي أم ضرب من اللمم )
وبيت العميان في بديعيتهم
( إذا بدا البدر تحت الليل قلت له ... أأنت يا بدر أم مرأى وجوههم )
هذا البيت لم يعمر بشيء من محاسن الأدب لما فيه من الركة
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( وعارف مذ بدا بدري تجاهل لي ... وقال حبك أم ذا البدر في الظلم )
الشيخ عز الدين مع التزامه بالتورية في تسمية النوع الذي استوعب كلمتين من البيت بيته أرق من بيت العميان وأعمر بالمحاسن
وبيت بديعيتي
( وافتر عجبا تجاهلنا بمعرفة ... قلنا أبرق بدا أم ثغر مبتسم )
هذا البيت شاهد في تجاهل العارف على المبالغة في التشبيه وهو القسم الذي تقرر في أول الكلام على النوع وقلنا إنه المقدم على بقية الأقسام من تجاهل العارف فإن فيه سوق المعلوم في مقام غيره لنكتة المبالغة في التشبيه كما قرره السكاكي
وقولي تجاهلنا بمعرفة لا يخفى ما فيه من الحسن على أهل الذوق السليم والله أعلم
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ذكر الاكتفاء
( لما اكتفى خده القاني بحمرته ... قال العواذل بغضا إنه لدمي )
الاكتفاء هو أن يأتي الشاعر ببيت من الشعر وقافيته متعلقة بمحذوف فلم يفتقر إلى ذكر المحذوف لدلالة باقي لفظ البيت عليه ويكتفي بما هو معلوم في الذهن فيما يقتضي تمام المعنى
وهو نوع ظريف ينقسم إلى قسمين قسم يكون بجميع الكلمة وقسم يكون ببعضها
والاكتفاء بالبعض أصعب مسلكا لكنه أحلى موقعا ولم أره في كتب البديع ولا في شعر المتقدمين
فشاهد الاكتفاء بجميع الكلمة كقول ابن مطروح
( لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا )
فمن المعلوم أن باقي الكلام ولا إذا مت لما تقدم من قوله الحياة ومتى ذكر تمامه في البيت الثاني كان عيبا من عيوب الشعر مع ما يفوته من حلاوة الاكتفاء ولطفه وحسن موقعه في الأذهان ومنه قول شيخ شيوخ حماة
( أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للاغفاء أهلا )
( لكنه وافى وقد ... حلف السهاد علي أن لا )
ومنها قوله فيما نحن فيه
( راموا فطامي عن هوى ... غذيته طفلا وكهلا )
( فوضعت في طوقي يدي ... وقلت خلوني وإلا )
وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير
( يا حسن بعض الناس مهلا ... صيرت كل الناس قتلى )
( لم تبق غير حشاشة ... في مهجتي وأخاف أن لا )
وما أظرف ما قال بعده ولم يخرج عن المراد
( وكشفت فضل قناعه ... بيدي عن قمر تجلى )
( ولثمته في خده ... تسعين أو تسعين إلا )
وجمع الشيخ سراج الدين الوراق بين تضمينين واكتفاءين في بيت واحد وأجاد إلى الغاية
( يا لائمي في هواها ... أفرطت في اللوم أهلا )
( ما يعلم الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا )
وجمع ابن نباتة بين الاكتفاء وتضمين المثل السائر
( إسقني صرفا من الراح ... تحت الهم حتا )
( ودع العذال فيها ... يضربون الماء حتى )
ومن لطائف شيخ شيوخ حماة في هذا النوع
( صلي ودعي نفارك عن محب ... بذكرك آنس والليل ساكن )
( ولا تستقبحي شيبا برأسي ... فما إن شبت من كبر ولكن )
وقول ابن سنا الملك من قصيدة
( رأيت طرفك يوم البين حين همى ... والدمع ثغر وتكحيل الجفون لما )
( فاكفف ملامك عني حين ألثمه ... فما شككت بأني قد لثمت فما )
( لو كان يعلم مع علمي بقسوته ... تألم القلب من وخز الملام لما )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
وله من قصيدة
( يا عاذلين جهلتم فضل الهوى ... فعذلتمو فيه ولكني أنا )
ويعجبني قول القائل هنا من قصيدة مطلعها
( هزوا القدود فأخجلوا سمر القنا ... وتقلدوا عوض السيوف الأعينا )
( وتقدموا للعاشقين فكلهم ... طلب الأمان لقلبه إلا أنا )
وتلطف ابن سنا الملك في مطلع قصيدة بقوله
( دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... وقبلته في الثغر تسعين أو إحدى )
ومثله في اللطف قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( ولقد كملت فما يقال لقد ... حزت الجمال جميعه إلا )
ولبعضهم وأجاد
( فإن المنية من يخشها ... فسوف تصادمه أينما )
ومما يرشف الذوق حلاوته في هذا النوع قول الشيخ شرف الدين ابن الفارض من قصيدة
( ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في )
ومثله في اللطف مع الترشيح باكتفاء ثان قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( أفدي التي تاجها وقامتها ... كأنه همزة على ألف )
( أذكر ثغرا لها فأسكر من ... ورد خد لها فأرتع في )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
ومثله قول الشيخ شمس الدين بن العفيف
( رأى رضابا عن تسليه ... أولو العشق سلوا )
( ما ذاقه وشاقه ... هذا وما كيف ولو )
ومن لطائف الصاحب بهاء الدين زهير في هذا النوع قوله من أبيات
( فما كان أحسن من مجلسي ... فحدث بما شئت عن ليلتي )
( بشمس الضحى وببدر الدجى ... على يمنتي وعلى يسرتي )
( وبت وعن خبري لا تسل ... بذاك الذي وبتلك التي )
ومن لطائفه أيضا أنه كتب إلى بعض أصحابه وكان اسمه يحيى وقد بلغه أنه شرب دواء أبياتا أولها
( سلمت من كل ألم ... ودمت موفور النعم )
( في صحة لا ينتهي ... شبابها إلى الهرم )
( يحيا بك الجود كما ... يموت يا يحيى العدم )
( وبعد ذا قل لي ما ... كان من الأمر وكم )
وأظرف منه ولم يخرج عما نحن فيه من بديع الاكتفاء وزيادة التورية ما وقع لشهاب الدين التلعفري مع شمس الدين الشيرجي بين يدي الملك الناصر وما ذاك إلا أنهما حضرا بين يديه في ليلة أنس فاتفق أن شمس الدين الشيرجي ذهب إلى ضرورة وعاد فأشار إليه الملك الناصر أن يصفع التلعفري وكان شمس الدين رجلا ألحى فلما صفع التلعفري نهض على الفور وقبض على لحية الشيرجي وأنشد ارتجالا ويده فيها
( قد صفعنا في ذا المحل الشريف ... وهو إن كنت ترتضي تشريفي )
( فارث للعبد من مصيف صفاع ... يا ربيع الندى وإلا خريفي )
رد: كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
وما أحلى قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا النوع مع زيادة اللف والنشر والاكتفاء في البيتين
( قالت إذا غمضت جفونك فارتقب ... طيفي فقلت لها نعم ولكن إذا )
( وسمعت عن سيف ورمح قبلها ... حتى انثنت ورنت فقلت هما اللذا )
ومنه قول الشيخ صدر الدين بن عبد الحق ولم أكثر من هذا النوع إلا لأنه قليل في أيدي الناس
( جهنم حمامكم نارها ... تقطع أكبادنا بالظما )
( وفيها عصاة لهم ضجة ... وإن يستغيثوا يغاثوا بما )
ومنه قول المقر الفخري ابن مكانس مع زيادة التورية
( من شرطنا إن أسكرتنا الطلا ... صرفا تداوينا برشف اللمى )
( نعاف مزج الماء من كأسها ... لا آخذ الله السكارى بما )
ومنه قول المقر المرحومي الأميني صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة رحمه الله وهو مما أنشدنيه مرارا وكان عند عوده من أذربيجان بصحبة المقر المرحومي سيفي تنم كافل المملكة الشريفة بتاريخ كذا وقد ضل غالب العسكر في بعض الليالي عن الماء وفيه الزيادة على الاكتفاء بالاقتباس والتورية وهو
( ضلوا عن الماء لما أن سروا سحرا ... قومي فظلوا حيارى يلهثون ظما )
( والله أكرمني بالماء دونهم ... فقلت يا ليت قومي يعلمون بما )
ومثله قولي وفيه أيضا زيادة الاقتباس والتورية على الاكتفاء
( قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما شفى بقربه سقاما )
( اصبر عسى تشفى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتي على ما )
وأنشدني من لفظه لنفسه القاضي عماد الدين بن القضامي أخو شيخي قاضي القضاة علاء الدين الحنفي سقى الله من غيث الرحمة ثراه موشحا امتدح به المقر المرحومي الأوحدي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية كان تغمده الله برحمته ورضوانه