صـفات المربي دراسة تحليلية
صـفات المربي دراسة تحليلية
أحمد فهمي
الجزء الاول :
إن تـأمُّل تـاريخ الدعــوة يخبرنا أن كل مــن أحـــدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب طريقـاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم.
وإذا اعتبرنا أن ركني الـتـربـيـــة الأساسيين - من الناحية العملية -: منهج واضح شامل (يمثل الشق النظري)، ومربٍ كــــفء (يمثل الشق العملي)، وأن جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين الركنين، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصـف قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنـــه الـنـصف الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق.
فـمـــن ثــــم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي. وبادئ ذي بدء ينبغي استعراض بـعــــض الـمـلاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه الصفات، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل.
1 - العوامل المؤثرة على المتربي:
وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في مختلف جوانبه.
أهم هذه العوامل: المجـتـمـــــع الذي يعيش فيه، ويخضع لقواعده ونظمه، وتتحكم فـيـه أعـرافــه وتقاليده، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام، وكل ذلك يحتوي - غالباً - على الكثير مــــن المؤثرات الفاسدة والمـعــوقــات الفاعلة التي تعرقل نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه.
وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل: الحالة الأسرية، والاقتصادية، والثقافية،والعلاقات الاجتماعية والشخصية.
وأيـضـــاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة والدعوة؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه.
وهذه العـوامــل - مع اختلافها - يجمعها: أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم بالعشوائية فيما صلح منـهــا أو فسد؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب، لوجدنا أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة.
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد، ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن الاختلال والعشوائية.
ولهذا نقول: إنــه لا يـصـلــح كل أحد أن يكون مربياً؛ فللمربي صفات تتناسب مع الدور الذي يقوم به.
2 - المربـي والداعية والقائد:
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة، ومن ثَمَّ يخلطــون بين الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها. ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن مـبـدأ "كُلُّه خــيــرٌ"، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير فـي الأوســــاط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار.
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة، ينبغي أن تلزمه صفات ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل: الإخــلاص، والعلم، والحكمة، ونحوها، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها مـن البحث عن توفر مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل، وهذه المستويات والصفات الإضافية هي موضوعنا لا غير.
ونستطيع أن نقول: إن القائد هو الـذي يـتـولى إدارة الأفـراد وعملهم نحو تحقيق الأهداف الموضوعة، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم لـيـعـمـلـوا عـلـى تحقـيـق تـلـك الأهداف، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار واحد.
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج انتقائه من بين الـصـحـابـــة لأدوار تربوية أو قيادية، فهو صلى الله عليه وسلم قد رباهم على الإخلاص وعلمهم ديـنـهـم بداية، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى الإسلام ما استطاع، ثم كان ينتقي أشخاصـــــاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول - مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المديـنـة، واختياره معاذ بن جبل وإرساله إلى اليمن، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه، ونعرف أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما.
فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً، مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - لقيادة بعض السرايا، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما.
3 - الـمـربي بـيـن التساهل والمبالغة: هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية:
الأول:يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، ولزوم تحققها فيه بمستويات عالية، فـتـغـلــب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقـعـيــاً إلـى أنــه يكاد ألاَّ يكون هناك تربية ولا مربون، وإنما هو العبث وسد الخـانـات، ثم تبقى هذه المواصـفـات المثالية طي الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة.
الثاني: يقوم على التساهل في صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى.
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي.
فالاتجاه الأول يتجاهل أن "المثاليات تتفرق في نفوس شتى، ولا تجتمع في نفس واحدة كل المثاليات"(1)، ولا يجتمع أغلبها إلا فـي نفــوس معدودة و "إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة"(2) كما قال النبي - عليه الـصلاة والسلام - فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لـكـل من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل، وهذا ما حذرنا منه عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله - إذ لما استَعْمَل على الجزيرة وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران - رحمه الله - صعب على ميمون أن يحاكي الوضع المثالي هناك، فكتب إلى عمر يستعفيه: كلفتني ما لا أطيق. فكتب إليه عمر: اجْبِ من الخراج الطيب، واقـضِ بمـــــا استبان لك، فإذا التبس عليك أمر فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركــوه مـــــا قام لهم دين ولا دنيا(3).
ولذلك؛ فمهمة الصورة المثالية إذن: العلاج من الانحرافات على ضوئها، وكذلك هي التي تشـجـعـنـا على الصعود أولاً، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل انتكاس، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال(4).
أما الاتـجـــــاه الـثاني الذي يتبنى شعار: "الجُود بالموجود" فيفوته أن اعتبار احتياجات العمل الـدعـــــوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في التصور يتبعه خلل في العمل؛ إذ إن إتاحــــة الفـرصــة لغير ذوي الأهلية والكفاية مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.
وهنا يأتي السؤال: إذا كان النموذج المثالي استرشادياً، والنموذج الواقعي المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به، فماذا نفعل؟
والجواب: أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران:
الأول: صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً.
الثاني: أن تـتحقـق هــــذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف الظروف والبيئة الدعوية - يمـثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي، وبين عروجه على طريق الرشد التربـوي، وبمـعـنـى آخــر يفصل بين النموذج الانفتاحي وبين النموذج المعتدل.
وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنـمـا يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر، كما قرر الإمام مالك - رحمه الله -: "لا ينـبـغـي للـرجـل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه"(5)، ثم يأتي بعده التفاعل والارتـقـــــاء مـــع الهـمـة الذاتية واكتساب الخبرة والتمرس في العمل التربوي.
والآن نــصـــل إلى الكلام عن صفات المربي. وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد على الأسلوب التحليلي في هــذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على ذكر فضل الصفات وأهميتها، نتجــاوز ذلك إلى تحـديــدٍ أدق لمعنى تلك الصفات تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي.
الصفات الأساسـيـة للمربي: وهذه الـصـفـــات المختارة - والتي هي من مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربــوي - يمكن تقسيمها وترتــيـبـهــــا - وفق ابتداء تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات:
الأولى: مقـومــات البدء والانطلاق، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني).
الثانية: مقومات الإتقان، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع مستوى الأداء التربوي).
الثالثة: مقومات الاستمرار، (الصبر على .... و ....... و ...... ).
أولاً: مقومات البدء والانطلاق:
الـصـفــة الأولـى: الـعـلـــم: ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما نقصده من وصف المربي بالعلم، وهي:
1 - المنهجية في تحصيل العلم: وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه، إلا أنه ينبغي أن يحرص على تعويض ذلك بأمرين:
الأول: الشمول والتوازن في طلب العلم: وذلك بأن يحرص أن يكون له في كل مجال طلب، وفـي كــل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله التربوي، فيتجنب أن يكون هـنــاك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة، أو أن يتعمق في مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما يُحصِّل بما يعمل.
الثاني: الضبط العلمي: ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال لـقـائلـيـهــا أو مـواضـعـهــا أو مظانها، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف، وإتقان لفظ النص، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك، وقبيح بالمربي أن تكثر على لسانه عبارات مثل: أظن أن قائله فـــــلان، أو أظنه صحيحاً، أو ما معناه، ونحوه.. فإنه إن كان "نصف العلم: لا أدري"، فـ "نصف الجهل: يُقال، وأظن"(6).
واتصاف الـمــربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم نسبياً، في حين أن اتصافـــــه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير القراءات متشعب الاهتمامات العلمية.
وقـــد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً، فيكفي أن نتأمـــــل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة: الإملاء، العرض، المقابلة، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون.
كما أن عــدم الضبط يعنــي كثرة الخطأ، أي: تلقين المتربين معلـومــات أو أفكاراً خاطئة يحملونها، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة؛ بل قد ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عـلـيـــه مما يعني توارث الأخطاء. أسند الخطيب عن الرحبي قال: سمعت بعض أصحابنا يقـول: إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، صار الحديث بالفارسية(7).
2 - التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه وتربية الناس عليه: فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط الاختلافات، ويغيب عنه الكثير مـــــن المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها الألفاظ وتدعو إليها؛ بينما طالبه في الحـال الـثـانـيــة بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات والإشراقات، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانـيـة من اتباع طريقة السلف في حفظ العلم عن طريق العمل به؛ فذلك مما يفتح على طالبه بابـاً عظيماً من فوائد العلم وإشراقاته إن عَلم فعمل؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"(8).
3 - التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي.
فإذا كنا نشـترط للمربي صـفــــة الـعـلــم، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في المراجعة والطلب، فـإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون"(9).
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمــرار التعلم يغفــل عــن أن عمله ذلك لن يـسـتـمـر إلا لـمدة ثم لا يجد ما يعطيه؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي يتشاغل عــن مراجعته وطـلـبــــه بالتحــديث ببعضه؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن مهدي: "إنما مثل صاحب الحديث مـثــل السـمـسار: إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق"(10).
فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم، ثم يصل بعدها إلى مرحلة التحضير بالقطعة أو بالطلب، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار، وقد يشعر المتربي بأن مربيه قد فرغ جرابه، مع ما في ذلك من أثر سيئ.
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم ومذاكرتهم العلم، وبين تعليمهم إياه، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه الله -: "كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته، سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من هو مثله في العلم، ذاكره ودارسه"(11).
4 - وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه:
قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار(12).
فذلك من شـــأنـه أن يجـعـل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به، مما يوفر على المربي جهداً كبيراً، ويُقرِّب له التـوفـيــق مــن عمله. قال أحمد بن سنان: "كان عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُـبْـرى قلم، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، أو كـأنـهــم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قـلـم صاح ولبس نعليه ودخل"(13) فما ظنك بأثـر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه الحال؟!
وفي المقابل: حين دخل - رحمه الله - على الـولـيـد بـن يـزيــد - وهو خليفة - فقال له الوليد: يا ربيعة! حدثنا! قال: ما أحدِّثُ شيئاً. فلما خرج من عنده قال: ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية: حدثنا يا ربيعة!(14).
الصفة الثانية: حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة:
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهَدْي الصـالـح، والسـمـت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة"(15).
فـهـذا الـحـديـث يـبـيـن لـنـا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.
والسمت والهَدْي متقاربا المعنى؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل الخير(16)، والهدي هو الطريقة أو السيرة(17)، وهـدي الرجل سيرته العامة والخاصة وحاله وأخلاقه(18).
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بـحــال المسلـم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة وحركات وسكنات ونحوه، ولا يتسع المجال - بالـطـبع - لاستعراض تفاصيل ذلك، ولكن لكل علم مظانه(19).
والـمـــراد: أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب؛ إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به(20)، وإذا كـان مـجـــرد الـمـخالـطــة والاجـتـماع تفتح مـجــالاً كــبـيــراً لتبادل الطباع والأخلاق؛ إذ الطبع لص - كما يقولون - يسرق مـن غـيـره؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر الاحترام والاعتراف بالفضل.
ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن يُمسك في إحدى يديه قلماً، وفي الأخرى ممحاة، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته يسراه، "ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد"(21).
ولبيان موقع القدوة الحـسـنة من التأثير التربوي نقول: إن الخطاب التربوي يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور:
الأول: الكلام النظري ونعني به: بيان الأمر مع الثواب أو العقاب.
الثاني: حكاية الفعل ونعني به: ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً أو تاريخياً.
الثالث: رؤية الفعل (عمل الـمـربي) ونعني به: التنفيذ العملي الذاتي لما سبق فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً.
ولـو نـظــرنــا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل، لوجدنا أن ثالثتها "رؤية الفعل" أشد أثراً وأبقى.
فالنفس لديهــا استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام؛ ولكنه استعداد مؤقت في الغالب، ولذلك يلزمــه التكرار. وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي.
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى القاع وتسكن بلا حراك، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل.
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك:
في صلح الحديبية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب (يعني الصلح) قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة - رضي الله عنها - فأخبرها الخبر، فـقـالت له: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالـقـك فـيحلـقــك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً(22).
نرى في المثال أن الخـطــاب الـنـظـري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم يترجم إلى عمل، ولما اقترن الأمر بممارسة الفـعـل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ؛ فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخـيـرة التي تبرز قيمة ما سبقها وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صــــورة عملية، وبدونها يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان.
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:
1 - توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير مباشر - بالمحاكاة والتقليد.
عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه(23).
2 - تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول إليها، وبذل الجـهــد فـي ذلـك؛ فــإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صـارت لها قوة جذب بحسب حالها تشد الـنـاس إلـيـهـــــا؛ فهذا عبد الله ابن عون - رحمـه الله - من أعلام السلف، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته. عن معاذ قال: حـدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سـنـة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عـلـيـه(24)، وورد مـثـل ذلـك عـــن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.
3 - يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً، فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية راشدة.
قــال يونــس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله ولم يسمع كلامه(25).
4 - اكـتـسـاب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، كان أبو العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة، وكان الناس يسمعون كلامه. قال الحاكـم: سـمـعـت أبي يـقـــول: لما ورد الزعفراني وأظهر خلق القرآن سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح إلى بُخارى(26).
ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركــة عـلـمـه وتفـقـده تأثيره كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: الـلـهـم اســتـر عـيـب شـيـخـي عني، ولا تُذهب بركة علمه مني(27).
رد : صـفات المربي دراسة تحليلية
كيف يُكتسب السمت الحسن؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:
1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كـلـه وإذا فـسـدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب"(28).
2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف - رحمهم الله - منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال الحسن رحمه الله: إن كـان الـرجـل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين(29)، ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ من علمه(30).
3 - الاطلاع عـلـى حـكـايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم(31).
4 - لزوم الصالحين والقــدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: مـن فـقــه الـرجـل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم(32).
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى اليوم(33).
5 - الـتـنـفـيـذ الـفـوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره(34).
6 - مجاهدة النفس وتـعـويـدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر يوقه"(35).
وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.
7 - معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا يفلح(36).
وقال ابن وهب: نذرت أني كلـمـا اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛فمِنْ حُبِّ الدراهم تركت الغيبة(37).
الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربـوي، أو مـا لـــه تعلق غير مباشر به، ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:
الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم وصفاتهم.
ومـصــادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد مباشرة، كلٌّ بحسب حـالــه من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جـمــع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضــوعات، وفي الجلوس مع الكبراء في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون لـلأمور المحــافـظــون على تـكـثـيـر الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم(38).
وعــــن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: كان يقال: جالس الكبراءَ، وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء(39).
وأيضاً يـمـكـن اســتـمــداد هــذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال الـسـخــاوي: "من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر ولا غمر"(40).
الثاني: الثقافة العامة، بمعنى:الاطلاع السريع على العلوم الأساسية الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:
1- مـعـرفـة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها. يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمــن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول: "وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعــــرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس"(41).
2 - توسيع المدارك وتـعـمـيـق الأفـهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى الـقـياس المستقيم، وربط الأسباب بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على مختلف العلوم كلاماً نفيساً: "ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك"(42).
3 - زيادة قدرة المربي على الـتـحــــدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يـحـتاج إلى التواصل معها بكفاءة، والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم لـيـس فـيه إلا محطة واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛ فاحتمال غلقه غير وارد.
4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعــيــاً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم وتصرفاتهم.
أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التـربـويـة - فلا غنى عنها للمربي؛ فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف مـنـهــج الـتـربـيـة وما يتضمنه من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف على ذلك بوصفه إما كـلامــاً نـظــرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:
الأول: الكتب (المصادر المقروءة): وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ والمفاهيم التربوية، وكذا الـتـجـــــارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مـسـتـقـيـم؛ فـالحـكـمــة ضالة المؤمن، ومن العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تـلـك الـتـجـــارب؛ خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا استفاد منه شيئاً(43).
الثاني: الـسـمـــاع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى المربين.
والممارسة تعني: أن ينـتـفـع الـمـربــي من تجربته الذاتية في العمل التربوي، فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُسـتـجـد من أعماله اللاحقة، وكما قيل: من التوفيق حفظ التجربة.
الصفة الرابعة: العمق الإيماني:
ونـعـني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه وقربه من الله - عـــز وجــل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله، والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانـه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فـيـه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بـلـــوغ الكلام مراميَه في القلوب إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلــوب السامعين. قال الحسن ـ وقــد سمع متكلماً يعظ فلم تقــع مـوعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي(44).
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه - سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه بعدت عنه القلوب.
ومن أروع المشاهــد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على التربية، ذلك المشهد الذي رسـمـــه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة(45).
الهوامش:
(1) دراسات في النفس الإنسانية، محمد قطب، ص379.
(2) البخاري ، ح/6498، ومسلم، ح/2547.
(3) البداية والنهاية لابن كثير، ج/9/317.
(4) دراسات في النفس الإنسانية، ص382.
(5) حلية الأولياء، ج/6/316.
(6) حلية طالب العلم، بكر أبو زيد، ص45.
(7) المصدر السابق، ص59.
(8) اقتضاء العلم العمل، ص90.
(9) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة،ص28.
(10) النظم التعليمية عند المحدثين، المكي أقلانية، ص93.
(11) المصدر السابق، ص82.
(12) التذكرة، ص16.
(13) سير أعلام النبلاء، ج9، ص201.
(14) الجامع لآداب الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، ج/1/336.
(15) صحيح الأدب المفرد، ص294.
(16) القاموس المحيط، ص197.
(17) المصدر السابق، ص1734.
(18) الإعلام، ص139.
(19) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل: (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، ورسالة تقرير ميداني، لمحمد الراشد).
(20) القاموس المحيط، ص1706.
(21) فضائح الفتن،ص5.
(22) تفسير ابن كثير، ج4، ص198.
(23) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742.
(24) سير أعلام النبلاء، ج6،ص366.
(25) رسالة للمحاسبي، ص:60.
(26) سير أعلام النبلاء، ج14، ص394.
(27) لباب الآداب، ص: 227.
(28) البخاري، ح/520، ومسلم، ح/1599.
(29) الأعلام، ص143.
(30) سير أعلام النبلاء، ج 14، ص35.
(31) التذكرة، ص50.
(32) حلية الأولياء، ج14، ص35.
(33) الإعلام، ص206.
(34) شعب الإيمان للبيهقي، ج2/291.
(35) حسن صحيح الجامع للألباني، ص461،ج1.
(36) الفتح الرباني، ص22.
(37) سير أعلام النبلاء، ج/9/228.
(38) فيض القدير للمناوي، ج/3/220.
(39) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج/1/126.
(40) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ـ السخاوي.
(41) مفتاح دار السعادة، ج/1/295.
(42) الفتاوي، ج9/128.
(43) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، عبد الفتاح أبو غدة، ص1.
(44) البيان والتبيين للجاحظ، ص59.
(45) الوابل الصيب، ص 45.
رد : صـفات المربي دراسة تحليلية
صفات المربي .. دراسة تحليلية(2-2)
في الحلقة الأولى تعرض الكاتب للعوامل المؤثرة على المتـربي من أسرة ومجتمع ومتعلقاتهما الاقتصادية والثقافية، ويرى أن تأثير ذلك كله على المتربــي تأثيرٌ عشوائي، ومن ثم يبقى دور المربي فعالاً وسط هذه العوامل إذا ما اتصف بمقومات أساسية قسمها الكاتب إلى: مقومات البدء والانطلاق، مقومات الإتقان، مقومات الاستمرار، وقد أفاض في الحلقة الأولى في معالجة المقوم الأول (البدء والانطلاق)، ويبسط القول مـن خلال هـذه الحلقة في المقومين الآخرين: (الإتقان والاستمرار).
البيان
ثانياً: مقومات الإتقان:
وهـي مجموعة القدرات النفسية والعملية الأساسية التي تساعد المربي - عند اكتسابها - على رفع مستوى الأداء التربوي.
وهــذه القدرات المختارة هي قدرات جامعة للعديد من المهارات والأنماط السلوكية التربوية التي تـنـدرج تحتها وتشكل في مجموعها - وبتفاصيلها - الجهد التربوي للمربي في حالة الرشد.
القدرة الأولى: فهم الشخصية وتحليلها:
وما نحتاجه هنا مما يتعلق بهذه القدرة الإجابة عن سؤالين هامين:
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي).
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات).
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي؟ (الدواعي). وللإجابة نقول:
1 - للانـتـقـاء: وهــذا أمر لا عوج فيه؛ فإن الطاقات محدودة، فمن ثَمَّ ينبغي اختيار من يصلح لإعطائه مزيداً مـــن الجهد والتركيز، وقد كان هذا ديدن سلفنا في اختيار تلاميذهم ومن يحيطون برعايتهم وعنايتهم. يقول الحافظ ابن جماعة: "كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم"(1).
2 - لتحديد الميول والإمكـانات، ومن ثم ما يصلح له من العمل، والناس متفاوتون في ذلك تفاوتاً قدرياً من عند الله، وهـناك عناصر ثلاثة يتحدد على ضوئها ما يصلح له المتربي من العمل، فبالإضافة إلى الميول والإمـكـانـات هناك احتياجات العمل الدعوي؛ والذي يحدث في كثير من الأحيان أن مسار المتربي - فـي مـيـدان العمل الإسلامي - يتحدد وفق العنصر الأخير، والصحيح اعتبار الجميع.
3 - لـتحـديـد مسـتـوى أمثل للتعامل يراعي النفسيات والمشاعر والفروق الفردية (القدرات العقلية):
إن توحـيـد أسلوب التعامل مع كل الشخصيات أمر غير صواب؛ إذ إنه يفترِض التماثل في النفسيات والـعـقـــــول وهذا غير متحقق، بل النفس الواحدة متغيرة، كما أن العقول أيضاً متفاوتة، والمربي الـذي يـتـعـامـــل مع مجموعة من المتربين ينبغي عليه أن يراعي ذلك في تعامله معهم، وأول خطوة في هـذا الاتجاه: فهم هذه النفوس والعقول وتحليلها، ثم بعدها يحدد أسلوب التعامل مع كلٍّ.
4 - لمعرفة التغير في مستوى المتربي التربوي وتقويمه من فترة لأخرى؛ وذلك للتأكد من أن الـعـمـل الـتـربـــوي يحقــق أهــدافه؛ على أن يتم ذلك وفق معايير موضوعية تقاس عليها المعلومات المتحصلة من تحليل شخصية المتربي ورصدها ومتابعة تطورها، مع ملاحظة عدم الاقتصار على جوانب محدودة مثل: الجانب العلمي، الجانب الفكري، والغفلة عن بقية الجوانب مثل: المستوى الإيماني، والأخلاقي، والحركي.
ب - كيف نفهم شخصية المتربي؟ (وسائل جمع المعلومات):
هناك وسائل كثيرة لذلك نذكر أهمها:
1 - السؤال والتحري: لمن يعرفــه أو يعـلـم حـالــه؛ فذلك يوفر وقتاً وجهداً كبيرين على المربي؛ خاصة لو كان خلفاً لسلف له من المربين عملوا مع الأشخاص أنفسهم؛ فهنا يتحتم عليه سؤالهم وإلا فهي الفوضى.
وكـان مــن علماء السلف من يتحرى عن تلامذته ليتحقق من حالهم؛ فعن معاوية بن عمرو بن المهلـب الأزدي أنه قال: كان زائدة لا يُحدِّث أحداً حتى يمتحنه؛ فإن كان غريباً قال له: من أيـــن أنت؟ فإن كان من أهل البلد قال: لا تعودن إلى هذا المجلس، فإن بلغه عنه خيراً أدناه وحدثه.
2 - الكلام والـحــــوار: فاللسان يعبر عن صاحبه ويبين حاله، ومهما تحفظ الرجل أظهر لسانه حاله ولو بعد حـيــن؛ إذ اللسان يغرف من القلب، وما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه وفلتات لسانه؛ فهو بحق ترجمان العقل والنفس.
وكان بعض الفلاسفة يـســأل تلامذتـه ويستنطقهم ويشجعهم على السؤال، فرأى يوماً أحد تلامذته صامتاً، فقال له: تكلم حتى أراك.
3 - الاختبارات: وغالب استخدام هذا الأسلوب للتحقق من مستوى الجوانب المعلوماتية، ولكن يمكن تفعيله في جوانب أخرى عـمـلـيــة أو نفـسـيـة باستخدام صور متطورة منه مثل الاختبارات النفسية - وذلك حسب الظروف - التي من الـمـمـكـن إجراؤها في قوالب غير مباشرة: كالمسابقات، والمباريات الثقافية.
ويرسِّخ ابن جمـاعـة أهمية الاختبار فيقول: "إن الشيخ ينبغي له إن جَهِل حال تلميذه أن يختبره بكتاب سـهـــل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيداً نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه"(2).
4 - المواقف المفتعلة ومعرفة رد الفعل: وقد يكون ذلك بتتبع ردود أفعاله في مواقف سابقة من النوعية التي تظهر مـكـنـونات النفس وجوانب القوة والضعف في الشخصية، وقد يكون أيضاً بمحاولة الافتعال لبعض المواقف التي تظهر هذه الخبايا.
قال ابن الجوزي: "حدثنا محمد بن إسحاق قال: قال لقمان لابنه: يا بني! إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره"(3).
5 - الاحتكاك والمعاشرة: وبهـمـا تتضح جوانب من الشخصية يصعب أن تتضح بغيرهما، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً: في كل خلاف بين زوجين لو سألت أحدهما لقال لك - غالباً -: إنه قد اكتشف في شريكه عـيـوبـاً لم يكن يعلمها من قبل، ولو علمها ما اقترن به، فلو قارنت بين ذلك وبين حالهما في بدايـــة الـــزواج لوجدت أنهما لم يتزوجا بداية إلا وقد اقتنع كل منهما بالآخر ورضي به بعد سؤال وتـمـحـيــص، فـمـــا الذي طرأ؟ إنها معرفة الاحتكاك والمعاشرة.
6 - الـفـراسة: ونعني بها أن يدرب المربي نفسه على معرفة خبايا النفوس ومشاعرها من خلال قسمات الوجه والسمت العام.
قال عثمان بن إبراهـيـم الجمـحــي ـ وهو من فضلاء التابعين -: "إني أعرف في العين إذا أنكرت، وإذا عرفت، وإذا هي لم تـعـــــرف ولم تنكر: إذا عرفت تَحُوص - أي تضيق - وتعـــود لطبيعتها لارتياحها بالفهــم بعــــد تحملقها للإنكار والاستفهام - وإذا أنكــرت تجحظ - أي تبرز وتقســـو، وإذا لم تعــرف ولم تنكـر تسجو - أي تسكن -"(4).
وجلس بعض العلماء يحرر يوماً في مشكلة، والطلبة به محدقون، فقال لهم: فهمتم؟ قالوا: نعم، قال: لا، لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم(5).
القدرة الثانية: الإقناع:
والإقناع لغة: الإرضاء(6)، وفي العرف يراد بـــه: نقل حالة القبول أو الرفض لأمر ما من شخص لآخر، ويكون بالكلام أو الفعل، والأول أغلب.
والمربي يحتاج هذه القدرة إلى درجة كبيرة؛ فـهـــو يحتاج دوماً إلى تعديل وتغيير قناعات المتربين.
وهذه بعض وسائل الإقناع:
1 - استحضار الأفكار وترتيبها: فالقول دون تفكير سمة الجهال والفوضويين. قال المنصور لبعض ولده: "خذ عني اثنتين: لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل من غير تدبير. وينبغي في هــذه الخطوة تجنب التفكير الأحادي الذي يجعل المتحاور سجين فكرة واحدة دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى"(7).
2 - حسن العرض للحجة: فالعبرة ليست بحشد الكلمات والألفاظ وسكب الأفكار في ذهن المتربي.
3 - نقــض الــدوافع أو إثارتها: وهناك فرق بين محاولة إقناع المتربي باعتبار ظاهر فعله وكلامه وبـيـن إقـنـاعه بالنظر إلى دوافعه؛ فالتعامل معه في الثانية أشد أثراً وعمقاً، ولنا في رسول الله صلى الله عـلـيــه وسلم أسوة حسنة؛ ففي محاورته مع الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا مثال عملي على ذلك.
4 - الجواب الحاضر المفحم: فهو يغني عن كثير الكلام في أحيان عديدة.
5 - التدرج: وهو قاعدة هامـــــة تندرج في معظم وسائل التربية، بل هو أصل من الأصول الهامة، وبعض المربين تأخذه الحـمـاســــة فيريد أن ينقل للمتربي كل قناعاته العلمية أو النظرية التي تكونت لديه على مَر الزمن دفـعة واحـدة، فلا يجــادل ولا يناقـش، وهــذا بالطبع أمــر مُتعسر، ولو كان ذلك كذلك لـكــان أوْلى به الصحابة - رضوان الله عليهم - أفضل هذه الأمة؛ فعلى الرغم من فضلهم وإيمانـهـم فقد نزلت عليهم الأحكام مُنجَّمة؛ بل أحياناً كان الأمر الواحد يُحرَّم عليهم بالتدريج - كما في الخمر - فما الظن بغيرهم ممن لا يبلغ عشر معشارهم في فضل ولا علم؟
6 - نقـض الأفكـار المضادة: افتخر أحد خلفاء بني أمية يوماً بقريش فقال: "إن الله حبا قريشـــاً بثلاث: فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :(( وأنذر عشيرتك الأقربين)) [الشعراء: 214] ونحـن عـشــيرته الأقربون، وقال - تعالى -: ((وإنه لذكر لك ولقومك)) [الزخرف: 44] ونحن قومــه، وقال:(( لإيلاف قريش . إيلافهم)) [ قريش: 1، 2] ونحن قريش. فأجابه رجل من الأنصار، فقال: على رِسْلِكَ؛ فإن الله تعالى يقول:(( وكذب به قومك وهو الحق)) [الأنعام: 66] وأنتم قـومـــه، وقــــال:(( ولـما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)) [الزخرف: 57] وأنتم قومه، وقال - تعالى -: ((وقــال الرسول يا رب إن قومي اتـخـذوا هـــذا القرآن مهجورا)) الفرقان: 30] وأنتم قومه، ثلاثــة بـثـلاثـــة ولـو زدتـنـا لزدناك"(8).
7 - إتقان الصمت والاستماع: فذلك يعطي المربـي فـرصـة لكشف أفكار المتربي ومنطلقاته، وكذا فرصة للتفكير والتركيز. ومن المقولات التي يرددها خبراء اللغويات النفسية أننا نفكر بأضعاف السرعة التي نتكلم بها، ولذلك فإننا حين نـنـصــت تـكــون عقولنا في سباق(9)؛ فحسن الاستماع يتخطى مجرد الصمت وهز الرأس، بل يستلزم قـدرات خاصة باستيعاب ما يُقال وتخزينه في الذاكرة بصورة منتظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار(10).
8 - يمكن اعتبار الأساليب الواردة في القدرة التالية من وسائل الإقناع:
الـقـدرة الـثـالـثـة: استخدام أساليب غير مباشرة لتبليغ المفاهيم الشرعية والدعوية حتى ترسخ في النفس والواقع:
يشكو بعض المربين من عدم استجابة كثير ممن يربونهم لتوجيهاتـهـم بدرجة تتناسب مع كثرة تكرار هذه التوجيهات، وبنظرة فاحصة لأسلوبهم في التربية تجـعـلـنا نكتشف قصور مفهوم التربية لديهم وانحصاره في التلقين والتكرار الحرفي للمفاهيم؛ واخـتـزالُ التربية في هذه الصورة أشبه بالتعبير عنها بحرف واحد من حروفها، كما أن التكرار بهذه الصورة قد يُحدث أثراً عكسياً يُفقد الكلام جدته وهيبته.
أما توسيع الدائرة واعتماد أساليب غير مباشرة في التربية فله أثر قوي وفاعلية بإذن الله، كما أنه يجعلنا نجتني فائدة التكرار مع تجنب عيبه، وأيضاً فهو يتناسب مع كون التربية تحتفي بالبناء الرأسي في العمق قبل البناء الأفقي.
وفـيـمـا يلي طائفة من هذه الأساليب - وإن كان المطلوب من المربي أن يبدع ويأتي بالنادر الطريف ولا يكتفي بالنسج على منوال الآخرين:
1 - اسـتخـدام الحكايات: وقد سبق الكلام عنها في صفة حسن السمت؛ فلها أثر عجيب في النفس، ويكفي أن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية ممتلئان بها، وقد تعدل حكاية صغيرة في سطرين كلاماً طويلاً في صفحات، فضلاً عن أنها تفوقه أثراً وثباتاً في النفس والعقل، قال البرقي: "الحكايات حبوب تُصطاد بها القلوب"(11).
2 - ضرب الـمثال: ويقصد به: ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.
فهو يُستخدم إذن فـي تقـريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل ونحو ذلك، وله في ذلك تأثير عظيم، وهـو أسلوب شائع الاستخدام في الكتاب والسنة. قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث "النخـلـــة": "وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة"(12).
وله صور عديدة: فقد يكون تشبيهاً رمزياً للبشر وأحوالهم بالنبات أو الحيوان أو الجماد.
وقد يكون هذا المثال الرمزي مُعَايَـنــاً، كـمـا في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض (لاحظ الانتفاض في الثالثة) قـال: "إن سـبـحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها"(13).
وقـد يكــون الـمـثـــال الرمزي "تخيُّلياً" كقوله تعالى:(( مـثـل الـذيـن حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)) [{الجمعة: 5}].
ومثله: كان الإمام أحمــد يقــول لبعض أصحابه: "كم يعيش أحدنا: خمسين سنة؟ ستين سنة؟ كأنك بنا قد متنا، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي فسقط"(14).
وقد يكون المثال تشبيهاً بأحــــــوال البشر وأفعالهم: فيكون افتراضياً؛ فعن يعلى بن عبيد قال: سمعت سفيان الثوري يقــــــول: "لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث... يعني إلى الله"(15).
وقد يكون حقـيقـياً؛ فقد قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصري وكلاهما من التابعين -: "يا أبا سعيد! أخبـرنـي عــن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي صفرة، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه، فقال الحسن: يـــــا ابن أخي! كم يد عقرت الناقة؟ قلت: واحدة، قال: أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم وتمالئهم؟"(16).
3 - افتعال المواقف: ومَثَلُه حديث جبريل - عليه السلام - لما حاكى فعل الغريب السائل الطالب للعلم، فقدم وجلس وسأل ومضى؛ فـالـنـظـر إلى أثر افتعال هذا الموقف وما ذكر فيه العلماء من الفوائد يُبين أهمية هذه الوسيلة، وأنه لــو كــان المطلوب مجرد تلقين المعلومات لأجلسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرَّف لهم الإســـلام والإيـمـــــان والإحسان وذكر علامات الساعة وانتهى الأمر.
4 - الحث على السؤال وفتح المجال له: ففيه تنشيط للذهن ودفع لتمام الاستيعاب وسد ثغرات الفهم بالسؤال، قال عكرمة يوماً لتلاميذه يحثهم على السؤال: ما لكم لا تسألوني؟ أأفلستم؟
5 - التلغيز: وهــو السؤال المحير للفهم المشكل على سامعه ومنه حديث النبي صلى الله عـلـيـه وسـلــم الذي رواه ابن عمر قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني مـــــا هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت - لصغر سني - ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"(17).
قال ابن حجر في فوائده: "وفيه امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفي مع بيانه لهم إن لم يفهموه"(18).
وقال أيضاً: "وفيه أن الـمُلـغِّز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للمُلَغَّز له باباً يدخل منه، بل كلما قَرَّبه كان أوقع في نفس سامعه"(19).
6 - الكناية عن الأمر بعاقـبـتـه: ومعلوم مـــا فـي ذلـك مـــــن دوام الترهيب أو الترغيب واستحضاره في النفس وتذكره على الدوام، كما قال النبي صـلـى الله عـلـيـه وسلم في غزوة بدر لأصحابه يحثهم على القـتال: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"(20).
7 - إذكاء روح التنافس في الخير: من الثابت في علم النفس أن المنافسة وسيلة فعالة لرفع المستوى وتنمية الموهبة، وأن انعدامها بين الأفراد من شأنه أن يُبطئ ذلك.
وقــد كـــان النبي صلى الله عليه وسلم - المربي الأول - يستخدم هذا الأسلوب في تربية الصحابة، وهـنــاك السباق المشهور في الخير والطاعات بين أبي بكـر وعمــر - رضي الله عنهما - الذي كــان النبي صلى الله عليه وسلم يحفـزه ويشجعـه، وقد فاز أبـو بكر بهذا السباق حتى قال عمر: والله! لا أسابقك بعدها إلى شيء أبداً.
8 - استخدام الحِيَل: فـقـد تستعصي بعض المفاهيم على القبول لدى بعض الأشخاص فلا بأس من استخدام الحيل المشروعة لتحقيق ذلك.
ومن ذلك احتيال عـبـد الله بن المبارك لكي يغير فكرة الأوزاعي عن أبي حنيفة؛ فقدم له بعض مؤلفاته من غير أن يـكـــون عليها اسمه الحقيقي، فلما أعجب بها أخبره بأنها من تأليف أبي حنيفة، فتغيرت فكرته عنه وصار يُجِلُّه (21).
رد : صـفات المربي دراسة تحليلية
القدرة الرابعة: الاحتواء النفسي:
وهو أن تنشأ بين المربي والمتربــي علاقة نفسية قلبية قوية من الحب في الله، يكون المربي هو المُوَجِّه فيها بحيث يرتبط المتـربــــي به ارتباطاً نفسياً يرفع من مستوى قبوله وامتثاله لتوجيهات مُربيه ويُيسر عملية التربية.
ويمكن تلخيص كيفية اتصاف المربي بـهـــــذه القدرة في: أن يهتم بالتفعيل القوي لحقوق الأخوة بمعناها الشامل، مع التركيز على الجـــــوانب ذات التأثير النفسي القوي، حتى يكون له تواجد مؤثر على خريطة المتربي النفسية - بدون اقتحام فيما لا يعنيه -.
والمربي يلزمه قبل ذلك أن يتحلى بأمور لها تأثير فعال على تحقق هذا الاحتواء النفسي - وإن كانت غير مباشرة - وهذه الأمور مثل: حرصــه على أن يتصف بسلامة النية وتجنب المسالك الملتوية في التعامل مع الناس. يقول ابن حــــزم: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك"(22).
وأيضاً يتصف بحسن معامـلة الناس، فيعاملهم بمكارم الأخـلاق، والإيثار وترك الاستئثار، والتحلي بالإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر التفضل(23)، مع التنزه عن الاستعانة بأحد من تلاميذه في مصلحة خاصـة به، "وقد كان منصور بن الـمـعتمر لا يستعين بأحد يختلف إليه - يعني لطلب العلم - في حاجة"(24) وغيرها من الصفات المشابهة.
وبتأملنا مسلك السلف في التعامــل مع تلاميذهم يتبين لنا أنــــــه كان لهم منهج واضح في مشاركة تلاميذهم مشاكلهم وسعيهم في مساعدتهم؛ بحيث إن الشيخ كان له تأثير عظيم في نفسية تلميذه وهذه بعض ملامح هذا المنهج:
\ كانوا يُظهــرون الاهتمام والإقبال على جلسائهم وتلاميذهم: يقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أكرم الناس جليسي الـذي يتخطى رقاب الناس إليَّ، لــــو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت"(25).
\ الاهـتـمـام بالتعرف عليهم وعلى ظروفهم. يقول ابن جماعة: "وينبغي أن يتعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح"(26).
\ الحنو علـيـه والرفق به، يقول ابن جماعة: "ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه"(27).
\ مساعدته في تذليل الصعاب والتغلب على الظروف المعوقة لطلب العلم، ومن ذلك أن أسد بن الفرات كـــان يريد السـمـاع على محمد بن الحسن الشيباني، فحضر إليه وقال: "إني غريب - من القيروان - قليل النفقة والسماع منك نَزْر، والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له: اسمع مع العراقيين بالـنـهـــــــار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وأسمعك، قال أسد: وكنت أبيت عنده ويـنــزل إليَّ، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعست، ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه. كما كان يتعهده بالنفقة إذا نَفدت نفقته"(28).
ثالثاً: مقومات الاستمرار:
وهذه المقومات يجمعها لفظ الصبر، ويُفَرِّقُها وينوعها مجالاته.
ولأن العمل التربوي هو في مجمله محاولة للتأثير في نفس وسـلـوك الإنسان فإن ذلك يقترن - ولا بد - بكمٍّ من الصعوبات والمعوقات - تـنـبـعــث مـــــن تعقد النفس البشرية وتردِّي الظروف المحيطة - تحتاج من المربي أن يعالج نفسه بالصبر ليقدر على مواصلة الجهد - وبالمستوى نفسه إن لم يكن أرقى - وإن من أهم الوسائل التي تُـعـين المربي على التصبر أن يتذكر دائماً اقتران الأجر الأوفى بالصبر، وكذا اقتران النتائج الكبيرة به أيضاً، كما يتذكر أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذكر على لسان نبيه أن أحب العـمــــل إليه ما استمر عليه صاحبه ولم يقطعه وصبر عليه وإن قلَّ؛ لأنه بذلك تزداد احتمالات الــوصـــــول للأهداف الموضوعة لهذا العمل:(( واصبر نفـسـك مـع الـذيـن يـدعــون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ...)) [الكهف: 28].
ولـيـتـأمل المربي في واقعنا العام والعمل الإسلامي على وجه الخصوص، ليجد هناك ظاهرة فوضويــــة تشوب الكثير من أعمالنا، وهي ظاهرة أحجار الأساس؛ حيث نكتفي في أعمالنا بوضع حجر الأساس ولا بأس بحجر آخر أو حجرين معه - ونعتبر ذلك إنجازاً -.
إنـهـــا ظـاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل؛ ولو أجرينا إحصاءاً لمرات البدء في الأعمال المختلفة في مــيـدان العمل الإسلامي ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت منتصف الطريق، ثم تفقدنا الأعـمــال الـتي بلـغـت نهايتها المرجوة أو كادت، فكم يا تُرى يكون حجم التفاوت العددي في الحالات الثلاث؟!
فـالمــربي يحتاج إذن إلى الصبر وإلى مجاهدة النفس عليه في مجالات كثيرة، أهمها: الصبر على البذل والتضحية.
والمربي يحـتـاج إلى مداومة البذل والصبر عليه، البذل من وقته وراحته وبيته وماله، وقد سبق كيف كــان السلف ينفقون من أموالهم على تلاميذهم - خاصة النجباء منهم - وعدم تضجرهم من ذلك إن استطاعوا.
وقال محمد بـن ســــلام - شيخ البخاري - "أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفاً"، ومــثـل هذا - ولا شك - يحدث كثيراً في عصرنا ولكن بقلب "أنفقت" إلى "جمعت".
وكـان الـنـبـي صـلـى الله عـلـيه وسلم يجتمع بالصحابة في دار الأرقم لتعليمهم وتربيتهم، وأحياناً بمنزله صلى الله عليه وسـلـم ، ثـم كــان الصحابة يفتحون بيوتهم لتلامذتهم مثل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ومن بــعـده مـالـك بن أنس، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي غطفان بن طريف المري... وغيرهم كثير(29)، وقد مر كيف فتح محمد بن الحسن بيته لابن الفرات فكان يؤويه ويعلمه وينفق عليه.
والـمـربي أيـضــاً يـحـتـاج إلى الـصبر على تأخر ثمرة العمل التربوي - نسبياً - فضلاً عن احتمالات ضياع بعضها أو تلفها.
ويحـتـاج أيـضــــاً إلى الصبر على جفاء بعض الطباع وخشونة التعامل؛ فهذا نبينا - عليه الصلاة والسلام - وقد أقيمت الصلاة حين يأتي أعرابي فيأخذ بثوبه ويقول: إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخــاف أنساها، فيقوم صلى الله عليه وسلم معه حتى يفرغ من حاجته - والصلاة مقامة - ثم أقبل فصلى(30).
وقد ذكر ابن جماعة أن من أدب المعلم مع تلميذه: "الصبر على جفاءٍ ربما وقع منه أذى لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بقدر الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صـــدر مــنـه بـنـصـــــح وتلطف لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته"(31).
وأخيراً: نختم بذكر الأمر الثاني الذي ينبغي توافره في النموذج المعتدل للمربي، وهو: أن يكون تحقق الصفات والمؤهلات السابقة فيه حدٌّ أدنى لا يتأهل الداعية بالنزول عنه للعمل التربوي.
وهنا ملاحظات غير عابرة:
أولاً: هــذا الحد الأدنى يختلف باختلاف الظروف والأحوال؛ فهو يتغير من بيئة دعوية إلى أخــــرى، وحــسـب تعقُّد العمل وتوفر الكفاءات، كما أنه يتغير بتغير حجم المسؤولية التربوية؛ فالذي يتولـى تربـيـة عدد كبير ليس كمن يعمل مع أشخاص محدودين، كما أن الذي يربي أشخاصاً حديثي عهد بالدعوة، ليس كمن يعمل مع دعاة متمرسين.
ثانياً: لتحقيق قدر من المرونــة والواقعية - ونظراً لضعف عملية التنمية البشرية - قُسمت المقومات وفق ابتداء تأثيرهــا، وهذا يعني أن أهمية تحقق كل قسم منها في بداية العمل في شخص المربي متفاوتة؛ فمقومــات الـبـدء لا مـفـر من تحققها تماماً - وفق البند السابق - ومقومات الإتقان يمكن التجاوز فيها قليلاً، على أن يبدأ سد الخلل فيها بعد البدء مباشرة وإلا ظهر أثر ذلك على العمل التربوي.
وأما مقومات الاستمرار فيمكن العمل على تنميتها وترسيخها أثناء ممارسة العمل التربوي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) التذكرة ، ص 63.
(2) التذكرة ، ص 56.
(3) الأذكياء ، ابن الجوزي ، ص 24.
(4) صفحات من صبر العلماء ، ص 200 الهامش .
(5) التذكرة ، ص 105 الهامش .
(6) القاموس المحيط ، ص 977.
(7) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والساسي ، د. حسن وجيه ص 28.
(8) المستطرف ، ص 91.
(9) علم التفاوض ، ص 203.
(10) المصدر السابق ، ص 27.
(11) النظم التعليمية ، ص 69.
(12) فتح الباري ، ص 177.
(13) صحيح الأدب المفرد ، البخاري ، بتحقيق الألباني ، ص 237.
(14) صفحات من صبر العلماء ، ص 151.
(15) حلية الأولياء ، ج7/70.
(16) الزهد للإمام أحمد ، ص 289.
(17) البخاري ، ح/59.
(18) فتح الباري ، ص175-176.
(19) المصدر السابق ، ص176.
(20) مسلم ، ح/3520.
(21) الخطيب البغدادي في تاريخه ، ج13/338.
(22) مداواة النفوس ، لابن حزم ، ص71.
(23) التذكرة ، ص23.
(24) التذكرة ، ص19.؟
(25) التذكرة ـ، ص49.
(26) المصدر السابق ، ص60.
(27) المصدر السابق ، 49.
(28) صفحات من صبر العلماء ، ص119.
(29) النظم التعليمية ، ص40.
(30) صحيح الأدب المفرد ، ص120.
(31) التذكرة ، ص49-50.
--------------------------------------------------------------------------------
مجلة البيان، العدد (143-144 )، رجب - شعبان 1420،نوفمبر - ديسمبر 1999 .