أبرز صفاته وآرائه
كانت عناية الله عزّ وجلّ ترعى الشيخ فكان المسدَّد الملهم في أفكاره، وتخطيطه،
وفي إجاباته على أسئلة دقيقة ومحرجة كان يوجهها إليه بعض الصحفيين،
عن طيب قلب حيناً، وعن مكر حيناً آخر.
وكان إيمان الشيخ بربه، وثقته بإسلامه، وعدالة مبادئه وشريعته بلا حدود.
وكان الشيخ عابداً لله منذ نعومة أظفاره، وكان مفهوم العبادة عنده مفهوماً سليماً،
واسعاً، فكل عمل تنوي به رضا الله وطاعته، هو عبادة كسائر العبادات.
وكان الشيخ شجاعاً، كريماً، دؤوباً على العمل، جلداً في الصبر عليه وعلى الشدائد،
كما هو صابر على الصيام والقيام والأوراد والأذكار.
وكان الإيثار، والتضحية، والبذل والشهامة من أجلى صفاته وأروعها،
لم يبخل يوماً بمال أو براحة أو بوقت، يبذل كل ذلك بجبّ وإقبال وإخلاص.
وكان حبّه لدعوته وأبناء الدعوة لا حدود لها أيضاً، يفتديها ويفتديهم بالغالي والنفيس،
بل بأغلى ما يملك: بهذه الدماء الطاهرة، ليسلموا هم من الأذى.
وكان الشيخ ابن زمانه، عركه وعرف ما فيه، واكتسب منه خبرات وتجارب ما ضنَّ بها على دعوته.
وكان يكره الظلم، ويرى في استبداد الحكام، واستعمار الشعوب، واعتقال الحريات، أقسى أنواع الظلم.
وكان يرى أن على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم في جهادهم لتحرير أرضهم،
فيتدبروا أمور السلاح والتدريب، والتمويل، وألا يعتمدوا على غيرهم من العرب والمسلمين والمجتمع الدولي الظالم
الذي تآمر مع الصهاينة على فلسطين أرضاً وشعباً وقيماً.
وكانت القاهرة هي المكان الذي تشكّل فيه إيمان الشيخ أحمد،
بأن فلسطين أرض إسلامية، ويجب أن تبقى إسلامية حتى يوم القيامة،
وليس لأي زعيم عربي الحقُّ في التخلّي عن أي جزء من هذه الأرض المقدسة التي باركها الله وبارك ما حولها.
كان الشيخ منظماً في صفوان الجناح الفلسطيني من حركة الإخوان المسلمين في القاهرة،
وقد تعلّم فيها ثوابته التي لا يجوز لمسلم أن يتجاوزها تحت أي ظرف،
كما تعلم منها ألواناً من السياسة الشرعية التي جعلته يسعى إلى المحافظة
على علاقات طيبة مع السلطة الفلسطينية التي كانت لا تتردد في الحجر على حركته تحت إقامة جبرية،
وكان يرى بحق أن الفرقة تضر بمصالح الفلسطينيين..
وكذلك كانت صِلاته جيدة مع بعض حكام العرب، ولكنه لم يساوم مرة فيما يخصّ موضوع التوصل إلى (سلام) مع إسرائيل،
وكان يكرر دائماً:
"إن ما يسمّى بالسلام ليس سلاماً بالمرة،
ولا يمكن أن يكون بديلاً عن الجهاد والمقاومة".
ولعل أبرز صفة في الشيخ، تميز بها من سائر القيادات الإسلامية وغير الإسلامية في الوطن العربي،
أنه لم يكن مركزياً، بل كان يصنع القيادات ويربيها،
حتى لا يعيش التنظيم في فراغ إذا ما أصيب القائد ومن حوله من القيادات، حتى ليمكن القول:
"إن حجم ما هو مجهول من رموز غزة القادرين على ملء أي فراغ،
لا يزال أكبر مما هو معلوم، والحمد لله".
تحدّث الشيخ عن نكبة فلسطين عام 1948 فقال:
"لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب إسرائيل.. السلاحَ من أيدينا،
بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش العربية،
فارتبط مصيرنا بها، ولمّا هُزمتْ هُزمنا، وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين،
ولو كانت أسلحتنا بأيدينا، لتغيرت مجريات الأحداث".
===============
الإرهابي
زعم القتلة وأذنابهم أن الشيخ أحمد كان إرهابياً، وقد تسبب بمقتل مئات اليهود،
وهذا كذب صريح، فقد كان الشيخ الشهيد يسعى إلى تحرير أرضه المحتلة،
ويدعو شعبه إلى تحريرها بشتى الوسائل المشروعة،
وكان يدعو اليهود إلى الكفّ عن قتل المدنيين والأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء،
لكنه لم يجد آذاناً تسمع، ولا قلوباُ ترقّ، ولا ضمائر حيّة ووجد في يهود آذاناً صماء،
وقلوباً أقسى من قلوب الذئاب، وضمائر ميتة.. ووجد أوباشاً منسوبة إلى البشر،
وهي إلى وحوش الغاب أقرب، تقتل، وتغتصب، وتخرّب، وتدمّر،
ولا تسمح لأحد من الفلسطينيين أن يعترض على هدم منزله على رؤوس أسرته،
ولا أن يعترض على تجريف أرضه، وقلع أشجار زيتونها وبرتقالها وليمونها، وتينها وعنبها،
بل لا يسمح أوباش يهود وهمج البشرية من قطعان المستوطنين الذين جيء بهم من الأزقة والملاجئ،
فهم لا يُعرف لهم آباء ولا أمهات.. لا يسمح هؤلاء الشذّاد أن تعترض أمّ على اعتقال ولدها الفتى،
أو على قتله أمام عينيها.. والتي تعترض إرهابية تستحق الموت،
والأب الذي يعترض على شيء مما تقدّم، إرهابيّ أيضاً ويستحق الموت،
ويبقى كبير مجرميهم (شارون) رجل السلام الأول في عرف سيد البيت الأسود.
لم يكن الشيخ إرهابياً، بل كان مجاهداً ينشر ثقافة المقاومة والجهاد والاستشهاد
من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
============
استشهاده
من إكرام الله لهذا الشيخ الضعيف بدناً، القوي إيماناً، والواسع عقلاً،
أن وهبه الشهادة في سبيله، ليكون موته عبرة وعظة وكرامة،
كما كانت حياته عبرة وعظة وشبه أسطورة لو لم نشاهدها، لشككنا بها..
كان الشيخ قبل يومين من استشهاده، راقداً في المستشفى في حالة احتضار،
وكل من حوله ينظرون إليه نظرات الوداع، ثم دبّ النشاط في جسده العليل النحيل،
وعاد إلى البيت محمولاً على كرسيه، ولم يسمع لقول ناصحيه بأن يأوي إلى بيت آمن،
فقد ينفذ شارون اللعين تهديده، وسبق له أن حاول اغتياله فنجا،
ولكن الشيخ الشجاع رسم على شفتيه اليابستين ابتسامة ساخرة،
سخر بها من سائر الشارونات.. أجل.. من سائر الشارونات، ومن عملائهم الذين يرصدون كرسيّه، وقال لهم:
يا مرحباً بلقاء الله ..
هذا ما أتمناه ..
أن أفوز بالجنة ..
ويبوء بالخزي والعار ..
ثم تكون النار مأواه..
وقال بصوت حاول أن يكون قوياً :
نعم الحارس الأجل.
وحُمل إلى بيته، وعيون العملاء تلاحقه، وألسنتهم الفاجرة تبث لأسيادها –وليسوا سادة-
عن تحركات الأسد الهصور المقعد، ومن البيت أمر محبيه أن يحملوه إلى المسجد،
ليصلّي ما شاء له الله أن يصلّي الفجر جماعة،
ثم نظر إلى إخوانه المصلين نظرة مودّع، وطلب منهم أن يغادروا المسجد قبله،
فهو يخشى عليهم أن يصيبهم أذى إذا هوجم وهو بينهم ومعهم،
واستجاب المصلون لطلبه، وخرجوا بقلوب دامية، وعيون دامعة،
يرتجفون خوفاً عليه، وبعد أن عرف الشيخ أنهم جميعاً صاروا في مأمن،
طلب من ولديه وبعض تلاميذه الذين لا يفارقونه أن يخرجوه من المسجد،
وخرج اثنان يستطلعان الجو والطرقات، ثم أشارا بالأمان، فخرج الموكب المهيب،
تحفّه ملائكة الرحمن، وقرآن الفجر، وما كاد الموكب يبتعد خطوات،
حتى كانت طائرات الأباتشي الأمريكية الصهيونية تصبّ حممها..
صواريخها على الأسد الرابض على كرسيه، وكلها تستهدف رأسه الذي طالما أوقع بهم،
بما أوتي من حصافة، وكياسة، وشجاعة، وإقدام، فهو الذكي المسدَّد،
والقائد الملهم، وهو رأس الفارس الشجاع، الذي كان عبئاً ثقيلاً على يهود وهو حي،
ولعله يكون أشدّ وطأة عليهم وهو شهيد؟
لقد بدا واضحاً أن الحقد على الشيخ، هو حقد على رأسه، لما فيه من فكر وعقيدة،
ولهذا حرصت كاميرا الصاروخ الأمريكي الذي أصابه، أن تصور الرأس المفجّر،
وقد صار مزقاً محروقة، مبعثرة، ظناً من قاتليه، أنهم بتفجير هذا الرأس العبقري،
قد قضوا على ما فيه من فكر مجاهد.. وقد كذبهم ظنهم هذا،
فقد انتشر فكر الشيخ الشهيد في كل مكان، بتناثره في فضاء غزة المجاهدة،
وحلّ في رؤوس الشبان المؤمنين حيث كانوا، ولسوف تجسّده الأجيال جيلاً بعد جيل،
فكراً مقاوماً، ينشر ثقافة المقاومة في الرؤوس الشابة،
في زماننا هذا وفي كل زمان فيه احتلال أو استبداد.
انتهى أجل الشيخ، ولكل أجل كتاب، وكان من الممكن أن يموت على كرسيه كسائر الناس،
ولو مات كذلك، لحزن الناس عامة، والمجاهدون خاصة عليه، ولذرفنا الدموع،
وابتهلنا بالدعوات الصالحات أن يتغمد الشيخ بفيض رحمته ورضوانه،
وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يعوّض المجاهدين والمسلمين قائداً مثله،
ثم نعود إلى منازلنا والحزن يلفّنا من كل جانب.
ولكن الله أراد له وللمجاهدين ولفلسطين غير ذلك..
أراد أن يكرمه بالشهادة، وأراد أن يموت هذه الميتة التي يتمناها كل مجاهد صادق..
وأراد أن يحيي ميت الآمال في نفوس القعدة والمتخلفين والمحبطين.. من دعاة الاستسلام.
ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ابتلي الشيخ بالضعف، ليكون قدوة للضعفاء في الدنيا،
وشاهداً على أن الإيمان بالله أقوى من أية قوة أخرى مهما عظمت..
فمن ذا، في العالم كله، اهتزت البشرية لموته كما اهتزت لاستشهاد الشيخ أحمد؟
وهل من رجل سواه اجتمع مجلس الأمن ليناقش موته؟
صحيح أن الولايات المتحدة عطلت بالفيتو قراراً دولياً بإدانة جريمة قتل الشيخ،
ولكنْ هل بوسعها أن تعطل الإدانة في ضمائر البشرية على حدّ تعبير الدكتور رياض نعسان آغا.
أراد أن يكون استشهاده عبرة لمن يريد أن يعتبر، ليبقى –على الزمان- رمزاً للجهاد والمقاومة،
ويبقى غيره رمزاً للتسوية والاستسلام.
أراد أن يقول أحمد ياسين كما قال سيف الله خالد: فلا نامت أعين الجبناء.
وأراد فيما أراد أن تبقى اللعنات تلاحق سائر الشوارين وعملائهم وجواسيسهم الذين نعرفهم،
والذين لا نعرفهم، ولكن الله يعلمهم، وسوف يبوؤون بخزي الدنيا،
وعذاب مهين في نار الجحيم، يكونون فيها وقوداً لأصحاب النار.
=============
هذا وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم
تسليماً كثيرا