ختمَ الذهولُ فمي وشلَّ صَوابي
لـمّـا نـزلــتُ الحيَّ بعـد غـياب ِ
لـَعِبَ الهيامُ بِمِعْزَفي فـتناغـَمَتْ
قـُبَلُ اللقاء ِ ولـَوْعَة ُ الـتـِّغـْراب ِ
فـَبِمَـنْ سأبـْتـَدئُ العِناقَ مُُـقـَبِّـلا ً
أحْـداقـَه ُ... وجـميعُهُـم أحبابي ؟
وبأيِّ دار ٍ أسْـتريحُ ... وكلـُّهـا
فاءَتْ عـليَّ بأعْـذب ِ الأطـياب ِ ؟
نامتْ بأحداقي زهورُ رياضِهـا
وتـَكحَّـلــَتْ بـِتـُرابـِهـا أهْــدابي
أهلوك ِأهلي ياديارُ وإنْ مـضتْ
بسفينتي عـنهم ضِفافُ ســَراب ِ
أهلوك أهلي يا ديارُ .. فماؤهـم
خمري ..وكفُّ ودادِهِـمْ أكوابي
لا ضاحَكتـْني ما حَيَيْتُ مَـسـَرَّة ٌ
لــو كنتُ أنـسى لـيلة ً أصْحابي
ولقد أفيءُ الى الطيوف ِ مُقـَبِّلا ً
خيرَ البيوت ِـ قداسَـةـ ً وتـراب ِ(1)
ويَمَسُّني ـ لو مـسَّ هودَجَ حُـرَّة ٍ
في آخر الدنيا ـ شـواظَ مصاب ِ
فعـسى يساري لا تـُذِلُّ مروءتي
وعـسى يميني تـَزْدَهي بـكـتابي
جالـتْ بـ "حيِّ الفيصليَّة"مقلتي
وتـَنصّـَتـَتْ لِحَـفـيفِـه ِ أعصابي(2)
إنْ كــان للمجـنون ِ في أشـواقِه ِ
سـبَبٌ ـ ولا لومٌ ـ فـليْ أسْــبابي
من ها هنا مـرَّتْ عـليَّ سـحابَـة ٌ
يومـا ً فـطـَرَّزَتِ الـورودُ يـََبابي
وهنا اصْطبحْتُ بضحكةٍ قزحـيَّةٍ
وهنا اغـتَبَقتُ بسَلسَـبيل ِ رضاب ِ
وهناكَ في حيِّ الشبيكة ِراقصَتْ
" شاميَّة ٌ" شـقـراءُ بَوْحَ ربـابي (3)
لا زالَ مِـلءَ دمي شـَذا أنفاسِـهـا
تندى بِهِ ـ رغمَ اللظى ـ أحْطابي
لا زلتُ أثمـَلُ مـن تـَذكـُّر ِ ليلة ٍ
شـتـويَّة ٍ مـَزْحـومـَة ٍ بِضـَباب ِ
زخـَّتْ وأطلقتِ الهديلَ حمامة ٌ
ورقـاءُ بـين خمائــل ِ الـلبلاب ِ
فهَمَسْتُ في مكر ٍ: خذيني أيْكة ً
لهـديلِك ِ الشـاميِّ فهـو طِلابي
فاحْمَرَّ تـُفـّاحُ الخدودِ وداعـَبَـتْ
بمياسم ِ الشفـتين طـرْفَ حِجاب ِ
وتعَثـَّرَتْ بيْ فارتبكتُ وراعَني
خـَطـْوٌ ونظـرَةُ عابـِر ٍ مُـرتاب ٍِ
يوم ٌ وأسبوعٌ ... وآذنَ ركْـبُهـا
بالسّيْر فاحتطبَ اللظى أعشابي
فاسْـتودعَتني من حرير ِ جديلة ٍ
خُصَلا ً ومنديلا ًوعطرَ روابي
واسْتحْلفتني أنْ أنوبَ بـ"عمرة"
عـنهـا إذا عَـزَّتْ دروبُ إيـاب ِ
أدَّيْـتها عنها .. وقـُمْتُ بـِمِثـْلِهـا
عني .. ونافلتين ِ عـن أتـرابي
**
يا جَمْرُ لا تشمـتْ لأنّ حدائـقي
يـَبــسَـتْ وقد أبلى الـزمانُ ثيابي
لازلت في عزِّ الهيام وفي غـدي
بسـتانُ أقـمــار ٍ.. ونهـرُ شــباب ِ
صنتُ الكثيرَ.. فهـل أذِلُّ قـليلـه ُ
عـمري .. فأبدِلُ لعْـنة ً بـثواب ِ؟
زعَـمَتْ موائـِدُ لــذة ٍ وحـشـِيّـَة ٍ
أنْ سوف تدخِلني جنانَ تصابي
لكنني ـ والصّابُ خبزُ أحِـبَّـتي ـ(4)
لستُ الذي يجفو مُضاغَ الصّابِ
شبّتْ على ماءِ الجبين ِأزاهـري
وعلى الندى لا رغـوة ِ الأنخابِ
أحسو اللهيبَ المُرَّ مُـبتردا ً بـما
في القلب من حُلم ٍ بحسـْن ِمَثاب ِ
جيلٌ وثمنُ الجيل ِ: دون أحبّـَتي
ليلي وما طرقَ الضحى أبـوابي
أصبو لـليلى في العـراق أذلـَّهـا
قيْدٌ وسـوطُ الجوع ِ والإرهـاب ِ
مسْـلولة ٌ ليلى لـِسُــلِّ تـُرابِـهــا
والماء ِ والأشجار ِ والمحراب ِ
ليلاي في حضن الغزاةِ وأهلها
ما بين لصٍّ فاسـق ٍ ومُـرابــي
ومُخنـَّث ٍ حسِـبَ الجهادَ أتاوة ً
من جائع ٍ عـار ٍ وحَـزَّ رقاب ِ
يا للحنين ! قد اكتهلتُ ولم يزلْ
طـفلا ًعـنيدَ الطبع ِلـيسَ يحابي
لولا اشــتياقي للديار وأهـلِـهــا
ما كان مذبوحَ السطور ِ كتابي
فأحِنُّ للخبز ِ الفطير ِ ورشـفة ٍ
من جدول ٍغافٍ بحضن روابي
للـمـَوْقِد ِالطينيِّ يُرْقِصُ جـمْـرَهُ
غنجُ" الدِلالِ" بقهوة ِ الترحاب ِ
وغِناءِ فلاح ٍ.. وشكوى عاشق ٍ
و"ثريد" أمي بالحِساء ِ الكابي(5)
وإلى مشاكسة الخليل لرغـبتي
من نهره الصافي بكأس ِ عتاب ِ
أمسيتُ منذ نأيتُ عـن أفـيائهـم
مـَيْْـتا ولكنْ : في حـياة ِ ثـِياب ِ
**
(1) إشارة الى مكة المكرمة .
(2)من أحياء مدينة جدة حيث أقام الشاعر أكثر من ست سنوات .
(3) الشبيكة : من أحياء مدينة مكة المكرمة .
(4) الصاب : نبت شديد المرارة .
(5)الحساء الكابي : حساء من عصيد البصل والبهار يُثرد به الخبز
كطعام في البيوت الفقيرة .