السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
يقول ابن القيم:
"كلما قَوِي اﻹيمان وازدادَ نوره في القلب، أحسَّ المرء بانشراحٍ في صدره، وتضاءَل شعوره بالضِّيق، فإذا ما استمرَّ النور في دخول القلب،
ازدادَت مساحة اﻹيمان فيه، وشيئًا فشيئًا تُصبح مساحة اﻹيمان في القلب أكثر وأكثر اتِّساعًا من غيرها، فيحدث حدَثٌ مهم ومادي يَشعر
به المرء في لحظة سعيدة من لحظات عمره، أﻻ وهو شعوره بتحرُّك قلبه في صدره حركة سريعة ومضطربة، وهذا ما يُسَمَّى بوﻻدة القلب الحي أو الوﻻدة الثانية،
والتي يصفها أحد السلف بقوله: "كنت ساجدًا في صﻼة فجر يوم من اﻷيام، وقُمت من السجود، لكني شَعرت بأنَّ قلبي لَم يقم من سَجدته"؛ أي:
حدَث له خشوع وهبوط، شَدٌّ وجَذْبٌ إلى اﻷسفل، وعندما قام البدن من السجود، ظلَّ القلب كما هو، ثم يعود بعد ذلك إلى حالته الطبيعيَّة إلى أن تأتي لحظات
أخرى في الصﻼة أو الذكر، أو الدعاء أو التفكُّر، يتكرَّر فيها هذا اﻷمر بصورة ﻻ إراديَّة".
وتفسير هذا اﻷمر أنَّ القلب قبل ذلك يكون متعلقًا بأشياء تحول بينه وبين العبودية؛ من المال، أو المنصب، أو العقار،
هذه اﻷشياء تكون بمثابة السجن الذي يعيش فيه العبد، والوثاق الذي يُقَيِّده، فإذا ما نَمَا اﻹيمانُ في قلبه ضَعُفت تلك العﻼئق واﻷغﻼل؛
حتى تأتي اللحظة السعيدة عندما تَنقطع وتَنفصل عن القلب، فيصير حُرًّا منها، متعلقًا بربِّه، لذلك تجده يخشع ويَهبط ويَضطرب عند ذكر الله ودعائه والتضرُّع إليه.
ويُكمل ابن القيم كﻼمه فيقول:
فللروح في هذا العالم نشأتان:
أحداهما: النشأة الطبيعية المشتركة.
والثانية: نشأة قلبيَّة روحانية، يُولَد بها قلبه، ويَنفصل عن مَشيمة طبعه، كما وُلِد بدنه، وانفصَل عن مَشيمة البطن.
اﻹرتقاء اﻹيماني والعﻼقة مع الله - عزَّ وجلَّ -:
لكلِّ واحدٍ منَّا عﻼقات مع اﻵخرين، وهذه العﻼقات تَختلف وتتفاوت من القوَّة والضَّعف، فهناك مَن يحتلُّ المرتبة اﻷولى،
وهناك مَن يحتلُّ المرتبة العاشرة، وهناك مَن يحتلُّ المرتبة الخمسين، وهذه المراتب ﻻ يتمُّ ترتيبها بقرارات من الشخص، بل هي نتيجة ممارسات وثقة ومشاعر.
ولكل مرتبة مظاهر تُميِّزها عن غيرها، وصاحب المرتبة اﻷولى - خاصَّة عند المرء - تَجعله يُسِرُّ له بأسراره ويَستشيره في خصوصيَّاته،
يَفرح بقربه ويَشتاق إلى رؤيته، ويَتحيَّن أيَّ فرصة للقائه، ويَسْعد بصُحبته، وﻻ يَمَلُّ من هذه الصُّحبة مهما طالَت المدة،
أمَّا صاحب المرتبة الخمسين مثﻼً، فاﻷمر يختلف، نعم يَفرح برؤيته ويَسعد بصُحبته، ولكن ليس كاﻷوَّل.
فإذا سأل الواحد منَّا نفسه عن عﻼقته بربِّه، وأي مرتبة تحتلُّ؟
فإننا سنفاجأ بأنها ليستْ في المرتبة اﻷولى؛ لعدم وجود مظاهر هذه العﻼقة، وهي:
فﻼ نجد شوقًا إلى لقائه، وﻻ أُنسًا بمُناجاته، وﻻ فرحًا بالخلوة به.
• وﻻ تَنعم بذِكْره، وكل هذا بسبب ضَعْف اﻹيمان.
فإذا ما حدَثت النقطة اﻹيمانيَّة الحقيقيَّة، وقَوِي اﻹيمان في القلب، فإنَّ هذه العﻼقة تتحسَّن تدريجيًّا، وتَنتقل من مرتبةٍ إلى مرتبة أعلى منها.
وكلَّما ازداد اﻹيمان - حتى يحتلَّ المرتبة اﻷولى - ازدادت الرغبة في الله، والرضا به، والقُرب إلى جَنابه،
والسعادة في ذِكره، والبهجة في تﻼوة كﻼمه، واﻷُنس في الخلوة به ومُناجاته.
فمعنى الوصول إلى الله في الدنيا كما يقول ابن رجب: "الوصول نوعان: أحدهما: في الدنيا، واﻵخر: في اﻵخرة،
أما الوصول الدنيوي، فإن القلوب تصل إلى معرفته، فإذا عرَفته أحبَّته، وأَنِست به.
كما ورَد في بعض اﻵثار: "ابن آدم اطْلُبني تَجِدني، فإن وجَدتني وجَدت كلَّ شيء، وإن فُتُّك فاتَك كلُّ شيء".
أمَّا الوصول اﻷُخروي، فدخول الجنة التي هي دار كرامة الله ﻷَوليائه، ولكنَّهم في درجاتها متفاوتون في القُرب،
بحسب تفاوُت قلوبهم في القرب؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾
[الواقعة: 10 )
اﻹرتقـــاء الإيماني... !!
منقول للفائدة