إغلاق السماعة ليغلق الشر
ساكن قلوب الغافلين آمر بالفحشاء وناه عن الخير، بضاعته الرذيلة وموائده لحوم الآدميين يبش للشر وينأى عن الخير وعوده الفقر حبائله النساء، يبكيه السجود ويفرحه الغناء أفضل أعماله الموبقات بيته الخلاء مستدرج ممار بالباطل مختال مخادع أقرانه المنافقون وأصدقاؤه الكافرون يكون كالذباب حقيراً حين التعوذ منه مآله الجحيم هو وأتباعه {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (44) [الحجر: 43 - 44] . هو الشيطان عدو المؤمنين تفطرت قلوب النادمين ممن أطاعوه فخرجوا من سباتهم نادمين يسألون ربهم القربة وولج إلى أوكاره الغافلون فران على قلوبهم الغي والفساد ونجا من مكره من وفق لمعرفة حيله وطرقه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] . وفي هذا التحقيق بسط مواقف وتحذير من هذا العدو المتربص نعوذ بالله منه.
وقع في المخدرات
اجتمع مع رفاقه في جلسة منعزلة وطال بهم السهر ولفهم السواد وبدؤوا مؤامرتهم يقودهم الشيطان في الإغواء والضلال، لقد زيَّن الشيطان أيضاً مرافقتهم {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]. وبعد أن أيقنوا أن الأمر مهيأ الآن لاقتناص هذه الضحية فهو ذو مال لم يفتقر مثلهم أفقرتهم المخدرات ومن حيل جمع المال السعي للإطاحة بضحايا جدد أخرج زعميهم سيجارة الحشيش ومدها إليه فأبى فقال له: "لست برجل يا دجاجة" استعظم هذه الكلمة واستمر على رفضه فقال له شيطان الإنس جرب يا دجاجة حينها لا مناص أن يثبت رجولته وأخذ سيجارته وبدأ في طريق المخدرات الموحل حتى لا يقال عنه دجاجة، لقد كان ثمن الرجولة المزعومة صعباً جداً، حيث قضى على مستقبله وكرامته وحياته ودفعها ثمناً بعد استسلم لكيد الشيطان.
ذهل وفجع حين علم مبلغ الزكاة
م. د. كان هذا التاجر قمة الاستغراب والدهشة حين أخرج آلته الحاسبة بعد أن أقنعه ناصح أمين بضرورة أن يدفع الزكاة وأنها قرينة الصلاة، وأما مصدر استغرابه فهو مبلغ الزكاة اثنان ونصف في المائة. يقول هذا الناصح لقد تعدت ثروة هذا التاجر النقدية ملايين الريالات وحين ضرب وقسم خرج مبلغ الزكاة مائتين وخمسين ألف ريال (ربع مليون) لقد كاد يسقط على الأرض مغشياً عليه لققد ذهل، بل فجع وظل يردد ربع مليون. ربع مليون. لقد ملأت هذه الكلمة فمه ولم يذكر الملايين العشرة البتة لم يذكر نعمة الله، لم يذكر عشرة ملايين، بل ذكر ربع مليون لقد بخل وأبى وأنكر فضل الله عليه، يقول محدثه خرجت من عنده وهو يقول هكذا يأخذونها ولم يتعبوا بها يقول ناصحه خرجت من عنده قبل أن يقول كلاماً آخر {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة: 11].
أوهمها الذئب بتوبته حتى أوقعها
م. س. ع. لم تقصد سوى النصيحة حين رن هاتف المنزل، وإذ بذاك الذئب يلقي عبارات البذاءة وحب التعرّف، ولكنها كانت على درجة من الالتزام وهمت بإلقاء السماعة في وجهه ولكن الشيطان بدأ يحيك حبائله لإيقاعها، حيث زيَّن لها الإطالة معه في الكلام، ولكن ذلك من قبيل المناصحة عله أن يهتدي. "فإذا كان من أعدل الأقوال ألا تسلِّم الشابة على الرجال خشية الافتتان بها" فكيف بهذه المناصحة التي استغلها هذا الذئب موهماً إياها ببالغ تأثره وعزمه على التوبة على يديها ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطور إلى اتصالات يومية متكررة ليتلقى مزيداً من الشرح والإيضاح موهماً إياها بتوبته. إلا أن وصل الأمر إلى طلب مقابلتها فأبت فاعتذر لها بالغ الاعتذار عن طلبه هذا، وأبدى شديد أسفه وتوبته أيضاً، ثم واجهها بأمر آخر وهو عزمه على الزواج منها وأن أسعد لحظة في حياته حين يتزوج بمن كانت هدايته عن طريقها وأقنعها أنها لا بد أن تراه حتى تطمئن لتغير سلوكه شكلاً ومضموناً؟! وحصلت الفاجعة وخرجت بتزيين من الشيطان خطت كل خطوات المعصية حتى وصلت إلى القاصمة وتكررت اللقاءات وهو في شوق لتحقيق مآربه الشياطنية ولكن عقوبة الدنيا كانت أسرع حتى تفاجأت بالقبض عليها في خلوة محرمة وتلوثت سمعة فتاة تبعت حبائل الشيطان.
إغلاق السماعة ليغلق الشر
وهنا يوضح فضيلة الدكتور عبدالله بن جبرين أن الهاتف من الوسائل المعينة في هذا العصر على التواصل ونعمة في تسهيل الأعمال ومعرفة أحوال الأقارب والجيران، فهو وسيلة خير عند استخدامه في الخير، ولكن استخدامه في الشر وإيذاء الغير والتسبب في الاعتداء على الأعراض وخدش الكرامة من أعظم الشرور من أعظم وسائل الشيطان لهدم الفضيلة، ومن أشدها فتكاً بالمجتمع مع ما يقود إليه من استدراج وتغرير بالفتيات ليدل على عدم الخوف من الله وعدم إدراك عواقب هذا الاستخدام السيىء فلا يرضى أحد هذا الشر في أهله فكيف يرضى هذا للآخرين ويتساهل في العبث بسماعة الهاتف مع غرٍ قد لا تدرك عواقبه الوخيمة إلا بعد الندم ولات ساعة مندم، وكم أدى هذا إلى فساد بيوت على أصحابها بعد أن كانت آمنة مطمئنة والسبب شاب عابث وجد قبولاً من فتاة أخطأت في حق دينها أولاً ثم عبثت بعرضها وعرض أهلها وأساءت لسمعة عائلتها وهذا ظلم وتعدٍ من كل من شارك فيه. وأدعو الشباب والفتيات إلى تقوى الله تعالى والبعد عن أسباب الشر والفتيات خاصة إلى تجنب التساهل مع أمثال هؤلاء المتصلين واقتصار الرد على الحاجة فقط، كأن تقول فلان موجود أو غير موجود ثم إغلاق السماعة ليغلق الشر وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
السلطان أن يضلهم في الشرك
ولكن هل الشيطان له قدرة على عباد الله في أن يضلهم وما تفسير قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الإسراء: 65] يجيب فضيلة الشيخ د. عبدالعزيز الراجحي: عبادي (الذين استخلصهم الله لدينه ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في دينهم، أو في عبادة ربهم، ولكن يصيب منهم من قِبَل الذنوب، فأما في الشرك، فلا يقدر إبليس أن يضلهم عن دينهم، لأن الله -سبحانه- استخلصهم لدينه).
وأما قول موسى قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يعني من تزيين الشيطان كما زين ليوسف وآدم وحواء، وهم عباد الله المخلصون، هذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.
إذاً عباد الله الذين استخلصهم الله لدينه ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في الشرك، وعبادة غير الله خاصة، لكن قد يصيب منهم شيئًا دون الشرك: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الإسراء: 65] يعني: أن تضلهم عن عبادة غير الله، أو توقعهم في الشرك.
وأما قول موسى قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وهو من تزيين الشيطان، معصية دون الشرك، وأيضاً هذه الحادثة التي وقعت لموسى قبل النبوة، قتل موسى للقبطي لما استنصر به الإسرائيلي هذا قبل النبوة: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [القصص: 15].
بعد ذلك: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا } (21) [القصص: 21] وحصل له القصة مع الرجل الصالح، وأنه زوَّجه إحدى ابنتيه ورعى الغنم ثماني سنين أو عشراً، وبعد ذلك {فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } [القصص: 29] فلما جاء عند النار عند الجبل نبَّأه الله -عزَّ وجلَّ-، إذًا النبوة والرسالة بعد ذلك، وقتله النفس كان قبل النبوة ثم هذه معصية وليس شركاً، هذا هو الجمع بينهما.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الحجر: 42] يعني في الشرك، وعبادة غير الله هذا من عمل الشيطان، تزيين المعصية، يقول المؤلف: كما زين ليوسف، يوسف زيَّن له الشيطان، كيف زيَّن المعصية ليوسف؟ قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] هم: هذا من تزيين الشيطان، الهم، كذلك آدم وحواء، معروف أنه زيَّن لهم الأكل من الشجرة فأكلا مِنْهَا .
الشيطان دافعه الغيظ والحسد
ويوضح فضيلة الشيخ د. صالح بن حميد هذا الدافع: يقول الله عزَّ وتبارك: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئاً بالأبوين الكريمين. ولقد كان بلاءً عظيماً، دافعه الغيظ والحسد: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [الإسراء: 62]، دافعه الكبر والخيلاء: { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 34]، ووسيلته الأيْمان الكاذبة: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]. والمقاييس الفاسدة: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].
فتنة عظمى، وبلية كبرى حين يعظم سلطان إبليس فيستفز القلوب والعقول والمشاعر في معركة صاخبة. تزمجر فيها الأصوات، وفيها إجلاب الخيل والرجال للمبارزات: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [الإسراء: 64] .
إن تبيّن صور هذا الكيد الإبليسي، والتأمل في هذا المكر الشيطاني، أمرٌ من الأهمية بمكان؛ من أجل النظر في سبيل الخلاص، وطريق النجاة. فالله قد هدى النجدين، وأوضح الطريقين.
خرج الشيطان من الجنة بالحسد
مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلإن كان الشيطان خرج من الجنة بالحسد، فإن آدم خرج منها ـ كما يقول العلماء ـ بالحرص والطمع.
وتترقى خطوات الشيطان التي يستدرج فيها ابن آدم حتى يتَّخذه معبوداً له من دون الله عياذاً بالله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس: 60]. {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].
ويقع العبد في ذلك حين يسلم قياده لعدوه، ويفلت الزمام لشهواته، فيتبع كل شيطان مريد {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]. وفي الحديث: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك، وآباء أبيك؟..."
سحر ببهرجة بعض المتعبدين
ويأتي من بعد الكفر مسالك أخرى في خطوات البدع والأهواء والشبهات. فكم روَّج الزغل على بعض العارفين، وكم سحر ببهرجه بعض المتعبدين، حتى ألقاهم في تشعبات الآراء، ومسالك الضلال. منتقلاً بهم إلى حالة يقولون فيها على الله ما لا يعلمون: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (169)[البقرة: 168 - 169].
القول على الله بلا علم خطوة من خطوات الشيطان، وهو الأصل في فساد العقائد، وتحريف الشرائع، ويخشى من ذلك على أقوام يخوضون في علوم لا يحسنونها، ويتجرؤون على فتاوى لا يحيطون بها، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (222) [الشعراء: 221 - 222]. وحينئذٍ لا يدعون إلى هدىً، ولا يأمرون بتقوى، ولا يدلون على حق، ويريد الشيطان في ذلك الطيش والعجلة كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان"، ورواته رواة الصحيح، وتأتي خطوات من بعد ذلك في أهواء النفوس وطبائعها، فالبخل وخوف الفقر سلاح شيطاني. يقول فيه سفيان الثوري: ليس للشيطان سلاح للإنسان مثل خوف الفقر. فإذا وقع في قلب الإنسان مُنع الحق، وتكلم بالهوى، وظن بربه ظن السوء. وأصدق من ذلك وأبلغ قول ربنا عزّ وتبارك: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
الغضب تمرد شيطاني
والغضب تمرد شيطاني على عقل العاقل، وحالةٌ من الخروج عن جادة ذوي الرجاحة والأسوياء. رُوي عن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بم غلبت ابن آدم؟ قال: عند الغضب وعند الهوى. وأغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول، فأطرق عمر برهةً، ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك اليوم ما تنال مني غداً!!
الأماني وحصائد الغرور
أمَّا الأماني وحصائد الغرور... فذلكم هو السلاح الشيطاني المضَّاء {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120]. { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم } [إبراهيم: 22]. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] . يعدهم هذا الغرَّار بحسب طبائعهم، يجرهم إلى حبائله بحسب ميولهم ومشتهياتهم. يخوِّف الأغنياء بالفقر، إذا هم تصدقوا وأحسنوا. كما يزيِّن لهم الغنى وألوان الثراء بالأسباب المحرمة والوسائل القذرة.
التعصب وتحقير المخالفين
كما يزيِّن لأصحاب المِلل والنحل التعصب وتحقير المخالفين، ويصور لهم ذلك طريقاً إلى الحرص على العلم وحبِّ أهله. وينقضي عمْرُ ابن آدم وهو في بحر الأماني يسبح، وفي سبيل الغواية يخوض. يعده الباطل، ويمنيه المحال، والنفس الضعيفة المهينة تغتذي بوعده، وتلتذ بأباطيله، وتفرح كما يفرح الصبيان والمعتوهون.
والخروج عن الوسط ومجاوزة حد الاعتدال خطو إبليسي، ومسلك شيطاني. يقول بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط أو تقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي إبليس بأيهما ظفر. وإن حبائل الشيطان بين هذين الواديين تحبك وتحاك. غلا قومٌ في الأنبياء وأتباعهم حتى عبدوهم، وقصَّر آخرون حتى قتلوهم، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وطوائف غلوا في الشيوخ وأهل الصلاح، وآخرون جفوهم وأعرضوا عنهم.
لقد أخذ الشيطان الميثاق على نفسه ليقعد لابن آدم كل طريق: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (17) [الأعراف: 16 - 17]. لإن كان هدد بذلك وتوعد؛ فإن كيده ضعيف، ومكره يبور. إذا تسلح العبد بسلاح الإيمان، والعقيدة النقية، وحسن لله تعبده، وصح على ربه توكله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]. ليس له سلطان على أهل التوحيد والإخلاص، ولكنه ذو تسلط عظيم على من تولاه وكفر بالله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. ولإن انطلق عدو الله ينفذ وعيده، ويستذل عبيده، فليس له طريق إلى عباد الله وحزب الرحمن: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء: 65].
الصلة بالله تعصم من الانسياق وراءه
على الرغم من وضوح ذلك وجلائه، فقد يزل المؤمن أو يخطئ، وقد يصيبه نزغ من الشيطان، أو يمسه طائف منه، وقد يران على قلبه من وسواسه، لكنه سرعان ما يلوذ بربه ويلجأ إلى ذكره، ويتوب إليه من قريب، فيخنس شيطانه {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. صلتهم بالله الوثيقة تعصمهم من أن ينساقوا مع عدو الله وعدوهم، يتخلص المؤمن بذكر الله - لجوءاً إلى ربه، واستعاذة به - من نزوات الشيطان ونزغاته، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] أعوذ بوجه الله الكريم، وكلماته التامات اللاتي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر، ومن شر ما ينزل من السماء، وشر ما يعرج فيها. وشر ما ذرأ في الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن"
حق على من أراد الخير لنفسه، والسلامة لدينه، ودحر شيطانه، أن ينظر بعين البصيرة لا يهوى الطبع والطمع، وليسلك مسالك التقوى والعلم المكين.ولقد قال الحسن رحمه الله: إنما هما همَّان يجولان في القلب. هَمٌّ من الله تعالى، وهَمٌّ من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همِّه فما كان من الله تعالى أمضاه، وما كان من عدوه جاهده وتوقاه. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) [فاطر: 5 - 6].