لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: ملخص أحكام الاعتكاف

العرض المتطور

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    ملخص أحكام الاعتكاف

    ملخص أحكام الاعتكاف

    -الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد .. فهذا مختصر في أحكام الاعتكاف اعتمدت فيه على كتاب ( فقه الاعتكاف ) للشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح حفظه الله واقتصرت فيه على القول الراجح مع ذكر دليله .. مع بعض الزيادات الخفيفة .. أسأل الله تعالى أن ينفع به .. إنه جواد كريم ..
    * أولاً : تعريف الاعتكاف :

    - لغة / الاعتكاف : افتعال من عكف على الشيء يعْكُف ويعْكِف عكفاً وعكوفاً وهو يأتي متعدٍ ويكون مصدره العكف ، ولازم ويكون مصدره العكوف .

    والمتعدي لغة / بمعنى الحبس والمنع ومنه قوله تعالى : ( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)(الفتح: من الآية25) . أي : محبوساً . ويقال عكفته عن حاجته أي : منعته .

    واللازم لغة / بمعنى ملازمة الشيء والمواظبة والإقبال والمقام عليه خيراً كان أو شراً ومنه قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) أي مقيمون ، ومنه قوله : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) أي ملازمون ، وقال تعالى : ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً ) أي مقيماً .

    - اصطلاحاً / هو لزوم مسجد لعبادة الله تعالى من شخص مخصوص على صفة مخصوصة .


    * ثانياً : حكمته :
    -من حكم الاعتكاف صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى بلم شعثه بالإقبال على الله تعالى وترك فضول المباحات وتحقيق الأنس بالله تعالى والاشتغال به وحده والتفكر في تحصيل مراضيه .
    * ثالثاً : أدلة مشرعيته :
    - دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع :

    1- الكتاب : قوله تعالى : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) وقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) فإضافته إلى المساجد المختصة بالقربات وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قربة .

    2- السنة : قول عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ) [ رواه البخاري برقم ( 2026 ) ومسلم برقم ( 1172 ) ] . ويأتي غيره من الأحاديث .

    3- الإجماع : نقله ابن المنذر وابن حزم والنووي وابن قدامة وشيخ الإسلام والقرطبي وابن هبيرة والزركشي وابن رشد .


    * رابعاً : حكم الاعتكاف :
    وفيه ثلاث مسائل :

    - المسألة الأولى :حكمه للرجل :

    - حكمه لغير المرأة سنة وقد حكي إجماعاً لأدلة مشروعيته المتقدمة .

    - وقد روى بعض المالكية كراهته عن الإمام مالك رحمه الله وقال : ( ما رأيت صحابياً اعتكف ) وذكر أنه لم يبلغه عن أحد أنه اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن قال : ( وذلك والله أعلم لشدة الاعتكاف ) وعلل بعضهم كراهته لأنه من الرهبانية المنهي عنها أو أنه كرهه مخافة ألا يوفي شرطه .

    - قال ابن حجر : " لعله أراد صفة مخصوصة ، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف " .



    - المسألة الثانية :حكمه للمرأة :

    اختلف العلماء في حكمه للمرأة على أقوال أرجحها هو قول الجمهور : أنه يسن لها الاعتكاف كالرجل .

    واستدلوا لذلك بما يلي :

    1- عمومات أدلة مشروعية الاعتكاف والتي لم تفرق بين الرجل والمرأة .

    2- قوله تعالى : ( فاتخذت من دونهم حجاباً ) وقوله : ( كلما دخل عليها زكريا المحراب ) وهذا اعتكاف في المسجد واحتجاب فيه وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه .

    3- حديث عائشة رضي الله عنها وفيه : ( إذنه صلى الله عليه وسلم لها ولحفصة رضي الله عنهما أن يعتكفا معه ) [ البخاري ( 2041 ) ومسلم ( 1173 ) ] .

    4- حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( اعتكف معه امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة فربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي ) [ البخاري ( 309 ) ] . وقد جاء مفسراً بأنها أم سلمة رضي الله عنها .

    5- حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كن المعتكفات إذا حضن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهن من المسجد حتى يطهرن ) [ عزاه ابن قدامة في المغني 4/487 لأبي حفص العكبري وعزاه ابن مفاح في الفروع 3/176 لابن بطة وقال : " إسناد جيد " .

    وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقض قباب أزواجه لما أردن الاعتكاف معه فإنه فعل ذلك عليه الصلاة والسلام لما خافه عليهن من المنافسة والغيرة ولهذا قال : ( آلبر يُردن ؟ ) .



    - المسألة الثالثة :حكمه في غير رمضان والعشر الأواخر منه :

    اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في ذلك على أقوال أرجحها هو قول الجمهور وهو أنه مسنون واستدلوا على ذلك بما يلي :

    1- عمومات أدلة الاعتكاف وهي تشمل رمضان وغيره والعشر وغيرها .

    2- حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه ... وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف العشر الأواخر من شوال ) [ البخاري ( 2040 ) ] وعند مسلم ( 1173 ) : ( العشر الأول من شوال ) . فدل على أن رمضان والعشر محل لشرعية الاعتكاف .

    3- حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ قال ( فأوفِ بنذرك ) [ البخاري ( 2032 ) ومسلم ( 1656 ) ] .وهذا يشمل كل ليلة في رمضان وغيره في العشر وغيرها .

    4- حديث أبي هريرة رضي الله عنها قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً ) [ البخاري ( 2044 ) ] . فدل على أن غير العشر محل لشرعية الاعتكاف .

    وغير ذلك من الأدلة .

  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    الاعتكاف وتربية الذات على اتباع الأسلاف



    محمد بن يحيى اليحيى

    لقد شرع الله لعباده كثيراً مــن الـطـاعـــات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب لينشغل بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده... وإن من أجـــلّ هذه الطاعات تلك السّنّة التي يخلو المرء فيها بربه خاضعاً فيناجيه معترفاً، وينصرف بـهـــا عن الدنيا فتزكو نفسه وتسمو ليصبح إنساناً ربانياً، إنها السّنّة التي حافظ الرسول عليها طـــــوال حـيـاتــه.. إنها سُنّة الاعتكاف.
    عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان النبي -صلى الله عـلـيـــه وسلم- يعتكف كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعكتف عشرين يوماً)(1).
    لقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم أن انشغاله بالدعوة والتربـيــة والـتـعـلـيــم والجهاد.. تاركاً لمن بعده ممن يقتفون أثره وينتهجون نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلـى الله ـ عز وجـــل ـ والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً من كان صاحبها في الدعوة والعلم. ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة، لعل منها:
    * زيادة الصلة الإيمـانـيـة بالله، والجوانب العبادية التي تزكي النفس وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا والعمل على استنقاذ الآخرين منها.
    * أن الاعتكاف فرصة عـظـيـمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بتحصيله ومن ثم تعليمه؛ وهذا لأمرين مهمين:
    1- أن الـعـمـل هــــــو الثمرة والغاية الحقيقية للعلم؛ وبدونه قد يصبح العلم حجة على صاحبه.
    2- أن العقلاء يرفضون أن يُعلّم المرءُ الناسَ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك.
    عــن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها)(2).
    * أن سنة الاعتكاف فرصة كبرى للدعاة والمربين من جهتين:
    1- تحقيق الحكمتين الأوليتين من سداد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلْق، وزيادة صلتهم بالخالق.
    2- استـغـلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي ـ وغيرهما ـ عند هؤلاء المدعوين والمتربين إلى مراتب أسمى.
    فهذه بعض الحـكـــم الظاهرة التي يمكن أن يستفيد منها أهل النظر لتصبح مسار كثير من شباب الصحوة خـــلال أيام قلائل.. موجّهين كانوا أو موَجّهين ممن يُرتضى دينه وخُلقه وعقله.
    إن من أهم أسباب طـــرح موضوع الاعتكاف من الجهة التي سيراها القارئ الكريم، ثلاثة أمور رئيسة:
    الأول: حالة الضعف العام في همة الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية ـ كما سيأتي ضرب أمثلة لها ـ مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به لمشابهة مجتمع السلف الصالح.
    يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: (أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي إليها المبتدئ، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه المتزهّد)(3).
    فــإذا كان ـ رحمه الله ـ يتحدث عن أهل زمانه فلا شك أن الخطب أعظم في زماننا الذي فُتِـحــت فيه الدنيا من أوسع أبوابها. والله المستعان. ولا شك أننا بحاجة لانتهاز فرصة الاعتكاف في تحسين الصورة العامة عن طريق مخاطبة الأفراد.
    فكيف يكون الاعتكاف وسيلة لزيادة الهمة العامة يا ترى؟
    الثاني: أن الـسـنـة دلت على أهمية الانقطاع عن الناس في خلوة مع الله؛ لتنطلق الأنفس بعد ذلك في الدعوة وتحمّل الأعباء. قال صاحب الظلال: (لا بد لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البـشـرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت..) إلى أن يقـــول: (فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ومن الشواغل التافهة؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عُرف الناس...)(4).
    ولكن إذا كانت هــذه إحدى الغايات العظيمة لهذا الانقطاع أي الاعتكاف.. فما صورة هذا الاعتكاف المطلوب يا ترى؟!
    الثالث: أن الاعـتـكـاف فـرصـــــــة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله في كل الأعمال والحركات والسكنات.. وهذه النـقـطــة وإن بدت ابتداءً أنها فردية بالدرجة الأولى إلا أن أهمية طرحها هنا تأتي من خلال معرفـتـنـــا بأن الإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة. ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم... وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دَخَلٌ في إخلاص العاملين.. ولما كان تحقيق الإخـــــلاص مــــن الصعوبة بمكان في أوساط الجماعة الواحدة قال سهل بن عبد الله: (الدنيا جهل وموات إلا العلم؛ والعلم كله حجة إلا العمل به؛ والعمل كله هباء إلا الإخلاص؛ والإخلاص على خطر عظيم حتى يُختم به)(5).
    وحُكي عن أحدهم أنه شعر بخجل عظيم من الناس عـنـدمــا صلى يوماً في الصف الثاني، فعلم أن راحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نـظــــــر الناس إليه. وهذا من الدقيق الغامض الذي يغفل عنه الكثير من الناس.
    فلما كان الأمر كذلك كان الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص.

    والسؤال: ما الاعتكاف المطلوب للتحقق من سلامة القلب من شوائب الإخلاص؟
    إن الاجابة عن هذا السؤال تتلخص في الجهة التي نطرح موضوع الاعتكاف من خلالها.. وهي أن الاعتكاف المطلوب ليس هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين ولا عـنـاوين للمتزاورين، ولا موائد للأكل، ولا حلقات للضحك وفضول الكلام. إنه ليس الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.
    إنه لـيـس الاعـتـكــاف الــــذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب وتقوية العلاقات الاجتماعية وتبادل الآراء الطبية والنفسية... ونحوها.
    إن الاعتكاف المطلوب إنما هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إن الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين؛ وترفع فيه أكف الضارعين المخبتين، ويسعى الـمـرء فـيـــه جاهداً لئلا تضيع من ثواني هذه الأيام المعدودة لحظة واحدة في غير طاعة فيفوته قطار الفائزين. إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين.. ولعل فيما يأتـي مـــــن الأمثلة توضيحاً لمن أراد أن يجعل من اعتكافه وسيلة انتقال للأفضل. أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
    في العبادات:
    لقد بلغ السلف الصالح في جوانب العبادات غايات يسـتـصــعب ضعاف الهمم السعي إلى مقاربتها فضلاً عن الوصول إليها.. وأذكر هنا نماذج لحال الـسـلــف في عبادتين عظيمتين هما:
    1- مداومة ذكر الله .
    2- الصلاة ..
    مع التركيز على ذكر إمكانية اللحاق بهم ـ رحمهم الله ـ باستغلال فرصة الاعتكاف.
    1- المداومة على ذكر الله:
    قــــال مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ: (ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله ـ عز وجل ـ فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً للقلب)(6).
    وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يـذكــــر الله ـ تعالى ـ إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي، (أو كلاماً قريباً من هذا)، وقال لي مرة: (لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها ولأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ـ أو كلاماً هذا معناه) (7).
    وقال شيخ الاسلام ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية بقاء المرء في ذكر دائم: (الذكر للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟)(8).
    لقد جاءت السنة بأذكار كثيرة متنوعة وذكرت فضلها وما أُعد لصاحبها من الثواب.. بل إن الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عدّ في (الوابل الصيب) ثمانين فائدة في الذكر.. ولا شك أن الناس ـ إلا من رحم الله ـ على جانب كبير من التفريط في المداومة على ذكر الله في كل حال.. لذلك لم يصلوا إلى اللذة التي يستشعرها الذاكرون الله كثيراً.
    قال بعض العارفين: (وإنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طـيـب)(9). وإن الاعـتـكـاف فرصة عظيمة يحسن بالمرء استغلالها ليصل إلى مرتبة عالية؛ فـيـكــون لسانه رطباً من ذكر الله ـ تعالى ـ. ليس للمعتكف شغل عن أذكار الصباح والمساء التي فرط الناس فيها إلا مــن رحــم الله، ولـيـس له شغل عن أذكار الأذان والنوم والاستيقاظ، والخروج والدخول إلى المسجد، وأذكار الطـعـــام والشراب، والأذكار المطلقة الكثيرة المتنوعة.
    يستطيع المعتكف أن يحرص على كل ذكر منها في وقته ويحاسب نفسه على ما فاته، ولا يـــدع نَفَساً من أنفاسه يخرج بغير ذكر الله ـ تعالى ـ.. فمن كانت هذه حاله في عشرة أيام متواليات رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه.
    ألا وإن من أعظم الذكر ـ كما هو معلوم ـ قراءة القرآن الكريم. قيل لأخت مالك بن أنس: (ما كان يشتغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف في بيته). قال أبو بكر الأوسي: (كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير القراءة طويل البكاء)(10).
    قال الطحاوي: (سمعت عن أحمد بن أبي عمران يحكي عن بعض أصحاب محمد بن الحسن، أن محمداً كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن)(11).
    فهؤلاء ـ رحمهم الله ـ كانت قراءتهم كثيرة في سائر أيام صيامهم، ووردت عنهم وعن غيرهم من السلف زيادة الاهتمام بكتاب الله في رمضان.
    فعلى العاقـل أن يجعـل من اعتكافه فرصة لتقويـة علاقتـه بكتـاب اللـه ـ تعالـى ـ قـراءة وتدبراً وخشوعاً وفهماً.. ولا شك أن الاكتفاء باستعراض كتاب الله كله مرة واحدة فقط في هذه الأيام العشرة يُعد من التفريط؛ إذ فيم سيمضي المعتكف وقته إن لم يمضه في تلاوة كتاب الله ـ تعالى ـ؟
    جاء عن الحسن أنه قال: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه)(12).
    فلو حرص المرء على لحظات اعتكافه ألاّ تنقضي إلا في ذكر وتلاوة لكان لاعتكافه لذة وحلاوة، ولأصبح من السهل عليه أن يتشبه بالسلف الصالح.
    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبـه بالكـرام فـلاح
    ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن من ثمرات المداومة على ذكر الله في الدنيا أنها تعطي الذاكر قوة تعينه على زيادة عمله خلال يومه.. فقد ثبت أن الرسول علّم ابنته فاطمة وعلياً ـ رضي الله عنهما ـ أن يُسّبحا ويحمدا ويُكبّرا كل ليلة إذا أخذا مضجعهما، ذلك لما سألته أن يحضر لهما خادماً، وقال لها: (إنه خير لكما من خادم)(13).
    فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم(14).
    والمعكتف بحاجة لهذه القوة حتى يستعين بها على الزيادة من العبادات في هذا الموسم العظيم.
    2- الصلاة:
    قال محمد بن عمـران: سمعته ـ أي محمد بن سماعـة (ت233هـ) ـ يقـول: (مكثـت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي(15). إن مثل هذا الأثر يحتاج أن يقف المرء معه ليتأمل حال نفسه ومدى اهتمامه بأداء الصلاة على الوجه الأكمل.. ومتى ما وجد التقصير في نفسه توجب عليه أن يجعل من اعتكافه فرصة ليصل إلى مثل هذه المراتب العالية في أداء الصلاة.. ومن فرط في التكبيرة الأولى حاسب نفسه أشد الحساب؛ فكيف يساغ له أن يتأخر عن إدراك التكبيرة الأولى وهو مقيم في بيت من بيوت الله ـ تعالى ـ؟ كما أن التأخير عن إدراك التكبيرة الأولى له دلالة على إهمال السّنّة القبلية وفقد أجر انتظار الصلاة بين الأذانين، ونقص الخشوع، وغير ذلك. والله المستعان.
    قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي للعشاء)(16).
    وقال مجاهد ـ رحمه الله ـ: (كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشدّ بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته)(17).
    وهذه مرتبة أخرى عظيمة ينبغي أن يحرص المرء عليها وهي مجاهدة النفس على تعظيم المولى ـ سبحانه وتعالى ـ في الصلاة، وحسن الاتصال فيها بتحقق الطمأنينة والخشوع والخشية.. والمعتكف تتهيأ له من الفرص ما لا يتهيأ لغيره بسبب انقطاعه عن كثير من علائق الدنيا.. فعليه أن يجاهد نفسه للوصول لهذه الغايات وأكثر منها من خلال أيامه العشرة لتكون بداية انطلاقة جادة له بعد ذلك.
    ألا وإن من أعظم وأجلّ القربات التي تتهيأ بالاعتكاف خاصة في رمضان قيام الليل.. ذلك الشرف العظيم الذي فرط فيه الناس إلا قليلاً.
    كان سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل)(18).
    وجاء عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب عليه لا يأتيه النوم فيقول: (اللهم إن النار أذهبت مني النوم. فيقوم فيصلي حتى يصبح)(19).
    وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعكتف لإطالة القيام بكتاب الله ـ تعالى ـ وتشجيع نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه النماذج العظيمة من السلف ونحوها.
    كيف لا وقد قال أبو سليمان: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا)(20).
    كذلك يحسن المحافظة على سنة الفجر والإشراق والنوافل المطلقة والمقيدة حتى ينوّع المرء من عباداته، ويعتاد ما انشغل عنه في سائر أيامه.

    في المباحات:
    هناك جوانب أخرى يحسن بالمعكتف أن يخالف ما جرى أكثر الناس عليه فيها.. أذكر منها ثلاثة أمور لعلها جماع كثير من الخسران:
    1- فضول الكلام.
    2- فضول الأكل.
    3- فضول المخالطة.

    1- فضول الكلام:
    كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى بعض أصحابه: (أما بعد: فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما ينفعه والسلام)(21).
    قال عطاء بن أبي رباح: (يا بن أخي! إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله ـ عز وجل ـ أن تقرأه، وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين؟)(22).
    والشباب في هذا الزمان ـ أخص الصالحين منهم ـ أصبح هذا الجانب عند أكثرهم مفقوداً.. بل ربما هو لا يُفكر فيه ابتداءً إلا من رحم الله ـ تعالى ـ؛ لذلك نشأ عنه ـ عند كثير من الصالحين والدعاة وطلبة العلم ـ فقدان السمت، ونقص الحكمة في الكلام، وخلط الجد بالهزل؛ فضلاً عن الوقوع في بعض المحرمات كالغيبة والكذب والسمعة ونحوها.. ولعل بقاء المرء في معتكفه وسيلة عظيمة لحبس لسانه ومحاسبة نفسه على كل حرف يخرج منه في غير ذكر الله أو ضرورة..
    كما أن المعتكف ينبغي له أن يعوّد نفسه ويعوّد كل من يقطع عليه اعتكافه على عدم الاسترسال في الكلام الذي لا حاجة له، مع مراعاة الأدب وحسن القصد.
    قال إبراهيم بن سليمان: (كنت جالساً مع سفيان، فجعل رجل ينظر إلى ثوب كان على سفيان ثم قال: يا أبا عبد الله! أي شيء كان هذا الثوب؟ فقال سفيان: كانوا يكرهون فضول الكلام)(23).
    ويُتنبه هنا إلى أنه يُكره للمعتكف الصمت عن الكلام إذا اعتقد أنه عبادة أو قربة؛ لحديث الرجل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ويصوم، فأمره الرسول أن يستظل ويتكلم ويقعد ويتم صومه، والحديث في الصحيح(24).
    2- فضول الأكل:
    قال إبراهيم بن أدهم: (من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان)(25).
    إن قلة الطعام توجب رقة القلب وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، كما أنها تطلق المرء من قيود الكسل والدعة والخمول.
    قال لقمان لابنه: (يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة)(26).
    وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر؛ فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي وينقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شراً)(27).
    ولا شك أن المعتكف بحاجة إلى نبذ كل ما يقعده عن الطاعة ومن ذلك كثرة الأكل وتنويعه.. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة)(28).
    كما أنه فرصة للمرء ليُربي نفسه عن التقلل والتزهد في أصناف المطعومات ويجاهد نفسه عن الاستغناء عن كثير مما اعتاده.
    قُدّم لعمر بن عبد العزيز طعامٌ كثير عند بعض أهله فقال: (ويحك! هذا ما يسد الجوعة ويُذهب سَورة النفس، وتقدّم فضل ذلك ليوم فقرك وفاقتك؟)(29).
    وكذلك فإن عدم الاهتمام بتنويع الأكل والبحث عنه سيوفر للمرء وقتاً في معتكفه هو بحاجة ماسة إلى صرفه في ذكر وطاعة.
    قال أبو الوفاء ابن عقيل: (وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها)(30).
    3- فضول المخالطة:
    وهذه أمرها جلل لأن أكثر الناس درجوا على الاجتماع والخلطة حتى افتقدوا إلى القدرة على إنشاء الطاعات وإتمامها بأنفسهم بعيداً عن الرفاق.
    وصورة ذلك في الاعتكاف ما يُرى من تجمع المعارف ليعتكفوا في مسجد واحد أو مكان معين في مسجد ما... وهذا وإن كان يسوّغه أحياناً لبعض الناس وجود مصالح راجحة من منظور تربوي دعوي.. إلا أنه يحسن بالمرء معرفة أمور ومراعاتها:
    * منها أن كثرة الخلطة تقصر همة العبد عند همة أصحابه أو دونهم:
    يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه؛ فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك أين سلكوا؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم)(31).
    فهذا يدعو المرء للانفراد حتى يعامل الله مباشرة؛ فكلما ظن أنه مقصر ازداد اجتهاداً..
    * ومنها أن الخلطة مظنة كثرة المزاح مما يقود إلى التقليل من هيبة مكان وزمان الطاعة وأن ينجر المرء إلى بعض الآثام كالغيبة والكذب ونحوها..
    قال ابن عبد البر: (وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ومن التوصل إلى الأعراض واستجلاب الضغائن وإفساد الإخاء)(32).
    * ومنها أن الاعتكاف فرصة ليقيم المرء عبادته بعيداً عن أعين معارفه ليختبر إخلاصه، فعن بكر ابن ماعز قال: (ما رُئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه إلا مرة واحدة..)(33) وذلك لا يتأتى بالخلطة.
    * ومنها أن كثرة الخلطة تدعو إلى فضول الكلام والنظر وتضييع كثير من الوقت في النوم وانشغالات خدمة الجماعة بغير ضرورة، وتُفقد المرء لذة المناجاة، وغير ذلك من مناقضات جوهر الاعتكاف. فعلى المرء أن يجاهد نفسه على العزلة والتطلع الدائم إلى معالي الرتب، واستشعار الرقابة الدائمة لله، وتذكر فجأة الموت.. عسى أن يخرج من اعتكافه بذات أخرى يكتب الله لها نصيباً أكبر من الفلاح وخدمة دينها وأمتها..
    وبعدُ: فإنه ليس من الصعب تغيير النفس وقطعها عن كل ما اعتادته لمن أخلص نيته وصدق في عزيمته.
    يقول المنذر بن عبيد: (تولى عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنكرت حاله في العصر)(34).
    ولكن من الضروري أن يصاحب ذلك أخذ على النفس بالجد والحزم في معالجة قصورها..
    قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ يحدث نفسه: (كانت فِيّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداومته حتى أعان الله ـ عز وجل ـ على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه)(35).
    كما يحتاج المرء إلى همة عالية ونفس أبية لا ترضى بالدون.
    قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، ورَدَفَهُ قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها)(36).
    كذلك يحتاج المرء إلى استغلال أيام الاعتكاف كفرصة للنقلة الإيجابية المطلوبة.
    ومهما حفظ الإنسان من الحِكَم وكـانــت رغباته صالحة فلن تتحسن أخلاقه وتقوى إلا إذا انتهز كل فرصة تسنح له(37).

    وأخيراً.. فإنني أختم بتحذيرين اثنين:
    الأول: أن يحذر الإنسان من طلب الكـمالات المحضة التي تسبب انتكاسة في الهمة.
    قال العلامة محمد الخضر حسين ـ رحـمــه الله ـ: (والخـطـــل أن ينزع الرجل إلى خصلة شريفة حتى إذا شعر بالعجز عن بلوغ غايتها البعيدة انصرف عـنـهــا جمـلـة، والتـحــق بالـطـائـفــة التي ليس لها في هذه الخصلة من نصيب، والذي يوافق الحكمة ويقتضيه حق التعاون في ســعادة الجماعة أن يذهب في همته إلى الغايات البعيدة ثم يسعى لها سعيها ولا يقف دون النهاية إلا حيث ينفذ جهده ولا يهتدي للمزيد على ما فعله سبيلاً)(38).
    الثاني: أهمية تعظيم حرمات الله مكاناً وزماناً.. إذ ربما يجهد المرء للعلاج ثم يُحرم الخير بتهاونه في هذا الجانب الناتج عن طول المكث والاعتياد.
    قال أبو عبيد القاسم بن نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي (كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكيّة ـ وكانت من العـارفـــات، فقالت: يا أبا عبيد! لا تجالسه إلا بأدب؛ وإلا محاك من ديوان العلماء والصالحين)(39).
    أسأل الله أن يعيننا عـلــى طاعته ويكتب لنا فيها القبول، والله أعلم، والحمد لله من قبل ومن بعد.


  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    الاعتكاف سنة ثابتة



    عبدالملك القاسم

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً ، يثبت بمنه وفضله على القليل كثيراً ، والصلاة والسلام على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

    فإن موسم رمضان موسم عظيم لمن أراد النجاة وسعى إلى فكاك رقبته من النار ، ففي هذا الشهر تتنوع العبادات ، وتتضاعف الحسنات ، وتتنزل الرحمات ، ومن خصائص هذا الشهر العشر الأواخر منه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، فعن عائشة رضي الله عنها : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره )) . [ رواه مسلم ] . وفي الصحيحين عنها قالت : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله )) . وفي مسند أحمد عنها قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم ، فإذا كان العشر شمَّر المئزر )) .
    ومن الأعمال التي يعملها في العشر الأواخر : الاعتكاف ..
    والاعتكاف : لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل ، وهو من السُنن الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : (( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ )) وعن عائشة رضي الله عنها : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده )) [ متفق عليه ].
    والاعتكاف من السُنن المهجورة التي قلَّ العمل بها وغفل عنها كثير من الناس ، قال الإمام الزهري رحمه الله : (( عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل )) . فبادر أخي المسلم إلى إحياء هذه السنة العظيمة وحث الناس عليها والترغيب فيها . وأبدأ بنفسك فإن الدنيا مراحل قليلة وأيام يسيرة ، فتخلص من عوائق الدنيا وزخرفها ولا يفوتك هذا الخير العظيم ، واجعل لك أياماً يسيرة تتفرغ فيها من المشاغل والأعمال وتتجه بقلبك وجوارحك إلى الله عز وجل في ذل وخضوع وانكسار ودموع لتلحق بركب المقبولين الفائزين .

    أخي المسلم : الاعتكاف يكون في كل مسجد تقام فيه الجماعة ، ومن تخلل اعتكافه جمعة استحب له أن يعتكف في مسجد جُمعةٍ ، فإن اعتكف في مسجد جماعة خرج إلى الجمعة ثم رجع إلى معتكفه . واحرص أخي المعتكف على أن يكون اعتكافك في مسجدٍ بعيدٍ عن كثرة الناس والإزعاج ، واختر أحد المساجد التي لا تعرف فيها أحداً ، و لا يعرفك فيها أحد ، فإن هدا أخرى للإخلاص وَأَفْزَغُ لقلبك وذهنك من محادثة الناس وكثرة مجالستهم ومخالطتهم ، وإن كنت ممن يعتكف في الحرمين الشريفين فتجنب التضييق على إخوانك المصلين وافسح لهم المجال لأداء الصلوات ولا تكن ممن يرغب أن يُظهر للمصلين اعتكافه حتى يسلموا عليه أو يفسحوا له ! . وبعض المعتكفين لا يصلي أحياناً التراويح أو القيام مع المصلين ويشوش عليهم برفع الصوت في أحاديث لا طائل من ورائها .

    والاعتكاف مسنون في أي وقت ، فللمسلم أن يبتديء الاعتكاف متى شاء وينهيه متى شاء ، إلا أن الأفضل أن يعتكف في رمضان خاصة العشر الأواخر منه ، فإذا صلى فجر يوم الحادي والعشرين من رمضان داخل المعتكف ويمكث في المسجد حتى خروجه إلى صلاة العيد وهذا وقت انتهائه المستحب .

    وهي فرصة عظيمة وساعات قليلة ؛ ليستفيد المسلم من هذا الانقطاع والبعد عن الناس ، ليتفرغ لطاعة الله في مسجد من مساجده ؛ طلباً لفضله وثوابه ، وإدراك ليلة القدر .. من قبل أن تطوي الصحف وتوضع الموازين ..

    أخي المعتكف : احرص على الذكر والقراءة والصلاة والعبادة ، وتجنب ما لا يعينك من حديث الدنيا ، ولا بأس أن تتحدث بحديث مباح مع أهلك أو غيرهم لمصلحة ، لحديث صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيتُه أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت لأنقلب ( أي لأنصرف إلى بيتي ) فقام النبي صلى الله عليه وسلم معي ... )) [ متفق عليه ] .

    ويباح لك أن تخرج من المسجد لحاجاتك الضرورية كقضاء الحاجة من بولٍ أو غائط ، أو للإتيان بطعام وشراب إن لم يكن هناك من يحضره لك ، ومثله التداوي إن إصابك المرض وأنت معتكف ، وكذلك إسعاف مريض من أهلك تجب عليك رعايته ولا تجد من يتولى أمره غيرك .

    ومن محظورات الاعتكاف : الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف ، كالخروج للبيع والشراء ، وجماع أهله ، ومباشرتهم ، ونحو ذلك .

    أخي المعتكف : إن كان معك رفقه ، فاختر الرفقة التي تعينك على الطاعة وتشد أزرك وتحرص على الخير واستغلال الأوقات وعمارتها بالعبادة ، وتجنب الذين تضيع أوقاتهم في حديث وكلام . وبعض المعتكفين إذا كانوا جماعة يظهر عليهم الجد في أول الأيام ، ثم يتراخون ويتكاسلون ، وتراهم كثيراً ما تضيع أوقاتهم في أحاديث لا فائدة من ورائها ، وقد ينجرُّ الحديث إلى أمور محرمة من غيبة أو غيرها .

    أخي المسلم : الاعتكاف سنة ، والمحافظة على بيتك وأبنائك من الواجبات ، فاحذر أن تضيع الأهم وتفرط في أمر الرعاية ، بل اجمع بين الأمرين ، واحرص على ابتعادهم عن مواطن الفتن ، ولا يكن اعتكافك فيه ضياع لحقوق واجبة . وإن تيسر أن يصحبك أبناؤك في الاعتكاف ؛ فإن في ذلك طريق تربية ، وراحة نفسية لك ، وأُلفة بينكم ، وتعويد لهم على العبادة ؛ وإن صعب الأمر عليهم فلا أقل من ليلة يعتكفون فيها معك ، وأجزل لهم العطية وشجعهم على ذلك .

    أخي المسلم : مواسم الطاعات محطات يتزود فيها المسافر إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فكن من العقلاء الفطناء الذين لا تفوتهم هذه الفرص وهذه المحطات إلا وقد نالوا من نفحات الرب وجزيل الأجر وعظيم المثوبة .
    فاحرص على الاعتكاف بنية صادقة ، وابتعد عن المباهاة والرياء ، وحب المدح والثناء ، وإياك والعجب بأعمالك ، واحرص علي أن تكون أعمالك خالصة لله عز وجل قال تعالى : ((وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )) وفي الحديث المشهور : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .. )) [ متفق عليه ] . ومما يُعينك على ذلك اختيار المسجد الذي لا تعرف فيه أحداً ولا يعرفك أحد ، ولا حاجة لك أن تعلن اعتكافك على الملأ في يوم العيد أو بعده !

    أقر الله عينك بالعبادة وجعلك من الفائزين المقبولين ، وغفر لنا ولوالدينا ولجمع المسلمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .



  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية * روعة خيال *
    غنيةٌ باللهِ عَنِ الْعَالمِين
    تاريخ التسجيل
    02 2008
    الدولة
    حيثُ الخيالُ يكون !
    المشاركات
    2,634

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    رائع هذا الملخص

    شامل ومفيد

    الشفق

    جزاك الله خير الجزاء

    لك وافر الشكر

    .

    .
    رَبِّي طَهرني منَ الحاسةِ السادسة كَما تُطَهرُ القُلوبَ منَ الذُنوب ..
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    حياك الله اختي الفاضلة 0 روعة خيال ..
    اسعدني كثيرا حضورك وعودتك الميمونة للمنتدى من جديد وحمدا لله على سلامتك
    بارك الله فيك وجزالك الله الف خير

  6. #6
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية علي بن حمود
    مشرف سابق

    صديق الضوء
    تاريخ التسجيل
    04 2007
    الدولة
    طزستان !
    العمر
    37
    المشاركات
    4,457

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    وافي
    وشامل
    تشكر على هذا المجهود أخي الشفق
    نفع الله بك و بارك الله فيك ولك

  7. #7
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عبدربه
    تاريخ التسجيل
    02 2008
    المشاركات
    3,500

    مدرسة الاعتكاف

    الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الاعتكاف الأنس بذكر الله، ومجالسة القرآن، والراحة بالصلاة، والمتعة بمناجاة الحبيب، واللذة بالدعاء والتضرع، ومثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فالاعتكاف خلوة شرعية ورياضه روحية عجيبة في أسرارها ودروسها، إذ تؤصل في النفس مفهوم العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى وتبين للمسلم قيمة الوقت وأنه أغلى من الذهب وتيسر له مجالسة الطيبين وأصحاب العلم وتساعده في الإقلاع عن الكثير من العادات الضارة، وتربي فيه القدرة على تأجيل الأمور والرغبات العاجلة الفانية من أجل المعالي والوصول إلى سامق المراتب، كما أنها فرصة جيدة للدعاة والمربين للتعلم والتربية.. ومع الأسف فهذه السنّة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين وضيعها جلَّ المصلين لهذا جاء التحقيق التالي لنقف على ماهية سنّة الاعتكاف وأهميتها وقيمة الحفاظ عليها في هذه الأيام المباركة.

    سنّة باقية
    وفي البداية يقول الشيخ محمد العثمان إمام مسجد النور وأستاذ التربية الإسلامية في ثانوية الأندلس: وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الترغيب في الاعتكاف في رمضان وقد أشار الله تعالى إلى الاعتكاف في كتابه حيث قال: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187] والاعتكاف هو أن يلزم الإنسان مسجداً من المساجد لإقامة طاعة الله عزَّ وجلَّ فيشتغل بقراءة القرآن وذكر الله والصلاة وغير ذلك وليس الاعتكاف كما يفعله بعض الناس يبقى في المسجد ويأتي إليه أصحابه فيشغلونه دائماً بالكلام اللغو الذي لا فائدة منه وربما يكون كلاماً محرماً يشتمل على الغيبة فإن الأصل في الاعتكاف أن يكون الإنسان منقطعاً عن الناس في بيتٍ من بيوت الله لطاعة الله عزّ وجلّ لكن لا حرج أن يتحدث إلى بعض أصحابه أو إلى أحد من أهله حديثاً غير طويل ولا مشغل عما اعتكف من أجله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان طلباً لليلة القدر واعتكف أزواجه من بعده وهذا دليل على أن هذه السنة باقية لم تنسخ ومن أهم شروط الاعتكاف أن يبقى الإنسان في المسجد فلا يخرج منه إلا لحاجة لا بد منها وقد قسم أهل العلم خروج المعتكف إلى ثلاثة: قسم يجوز له بدون شرط وقسم يجوز له بشرط وقسم لا يجوز له لا بشرط ولا بغير شرط أما الذي يجوز له بدون شرط فهو أن يخرج الإنسان لما لا بد منه مثل أن يخرج لقضاء الحاجة حاجة البول أو الغائط إذا لم يكن في المسجد ما يقضي به حاجته أو أن يخرج للطعام أو الشراب إذا لم يكن له أحد يأتيه بهما وأما ما يجوز بشرط فمثل أن يشترط إن مات قريبه المريض فإنه يشيع جنازته أو يشترط أن يعود مريضاً أو نحو ذلك مما يخرج إليه وهو في طاعة الله عزَّ وجلَّ لأن هذه عبادة لا تنافي الاعتكاف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير وقد أرادت الحج وهي مريضة: "حجي واشترطي فإن لك على ربك ما استثنيتي" وأما القسم الثالث وهو الخروج الذي لا يجوز لا بشرط ولا بغير شرط فهو أن يخرج الإنسان لأمر ينافي الاعتكاف مثل أن يخرج للبيع والشراء أو يخرج للتمتع بأهله أو ما أشبه ذلك من الأمور المنافية للاعتكاف، فهذه لا يجوز الخروج لها بشرط ولا بغير شرط.

    الاعتكاف أسرار ودروس
    ويضيف الشيخ سعود الزيد إمام وخطيب مسجد ابن كثير قائلاً: قد بقيت من أيام رمضان بقيةٌ. بقية وأي بقية، إنها العشر الأخيرة. كان يحتفي بها النبي صلى الله عليه وسلم أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً: (ألا تقومان فتصليان) يطرق الباب وهو يتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمراً: "أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" "ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه" ويؤكد الشيخ الزيد أن إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ قال قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى). عُجُّوا في عشركم بالدعاء. فقد قال ربكم عزَّ شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]
    إن للدعاء شأناً عجيباً، وأثراً عظيماً في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق. والموفق الذي أدرك حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء إلى الله في كل حالاته، والفزع إليه في جميع الحاجات، يدعو ويدعى له، ينال حظه من الدعاء لنفسه ولغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخلق وزان منه العمل، وارتفعت له الألسن تدعو له، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابا واحدا هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبداً، فتحه من لا يرد داعيا ولا يخيب راجيا. فهو مغيث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين. ويجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة العشر الأخيرة، وجوف الليل والأسحار من رمضان، ودبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، ومجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟ ألحوا بالدعاء واسألوا ولا تعجزوا ولا تستبطؤوا الإجابة. فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقا: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83] ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل رأسه بالشيب ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] لا تستبطئ الإجابة فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي" ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله حتى توفاه الله. عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟ المعتكف ذكر الله أنيسة، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته. إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانه في لغو ولا يفتح عينه لفحش ولا تتصنت أذنه لبذاءة. سلم من الغيبة والنميمة جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك. وفي درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.
    في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري به ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد به عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها. الأوقات الفاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 2] من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ليلة خير من ألف شهر، خفي تعيينها اختباراً وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (2) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (3) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (4) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (5) [القدر: 1 - 5] المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتت عليه فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه دمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة. ويحه ثم ويحه أدرك الشهر ولم يحظ بمغفرة، ولم ينل رحمة، يا بؤسه ولم تقل له عثرة؟ ساءت خليقته وأحاطت به خطيئته، قطع شهره في البطالة وكأنه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحب الخير في قلبه منزع. طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين أمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها دعته دواعي الخير فأعرض عنها، مسؤولياته قصر فيها، وقصر فيمن تحت يديه من بنين وبنات يفرط في مسئولياته وقد علم أن من سنة النبي أنه يوقظ أهله أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن.
    ويؤكد الشيخ عبد المجيد الحسن معلم التربية الإسلامية على أن مواسم الخير، وفرص الفلاح، وطرق النجاح لهذه الأمة كثيرة جداً لمن كانت له همة وعنده عزيمة، فما من شهر من الشهور، بله ولا يوم من الأيام يخلو من تلك الفرص، أو يعدم تلك المواسم، لا سيما شهر الصبر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وتفتح فيه الجنان، وتغلق فيه النيران، وتوصد فيه المردة اللئام، وتعتق فيه الأبدان من النيران. من تلكم المواسم العظيمة، والفرص النادرة، الاعتكاف خاصة في العشر الأواخر من رمضان، الذي كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه، ولم يدعه حتى ارتحل إلى الرفيق الأعلى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً" هذه السنّة المؤكدة هجرها كثير من المسلمين، وضيعها جلّ المصلين، ولله در محمد بن شهاب الزهري حيث قال: "عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله"، مع حاجتهم الماسة إليها، وتيسر الأسباب لدى كثير منهم عليها، لأنها هي الخلوة الشرعية، والرياضة الروحية لهذه الأمة المرحومة. قال عطاء رحمه الله: "مثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي" فالزموا سنّة نبيكم التي فيها رضوان ربكم، وإياكم إياكم أن تضيعوها، أو تفرطوا فيها، أو تسوفوا في المبادرة إليها، خاصة وأنتم على أعتاب عشرته الكريمة، هلمُّوا إلى سوق من أسواق الآخرة، وإياكم أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، إياكم أن تستعيضوا عنها بأسواق الدنيا، أو بغرض من أغراضها الفانية، أو بحاجة من حاجاتكم الآنية، هلمَّ إلى موائد الكريم المنان، ودعوكم من موائد الطعام. وهديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف كان أكمل هدي، وأيسره، فكان إذا أراد أن يعتكف وُضع له سريره وفراشه في مسجده صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد وراء أسطوانة التوبة كما جاء في الحديث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا اعتكف طرح له فراشه، أو يوضع له سريره وراء أسطوانة التوبة" رواه ابن ماجه.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب له خباء مثل هيئة الخيمة، فيمكث فيه غير أوقات الصلاة حتى تتم الخلوة له بصورة واقعية، وكان ذلك في المسجد، ويضرب ذلك الخباء على فراشه أو سريره، وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله.. الحديث رواه البخاري وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، من بول أو غائط، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها حين قالت: " وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً" رواه البخاري وكان صلى الله عليه وسلم يؤتي إليه بطعامه وشرابه في معتكفه كما أراد ذلك سالم بقوله: "أما طعامه وشرابه فكان يؤتى به إليه في معتكفه" وكان صلى الله عليه وسلم يحافظ على نظافته، إذْ كان يخرج رأسه إلى حجرة عائشة رضي الله عنها لكي ترجّل له شعر رأسه، ففي الحديث عن عروة عنها رضي الله عنها (أنها كانت ترجّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه) رواه البخاري قال ابن حجر: (وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل، والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد).
    ويضيف الشيخ عبدالمجيد الحسن: من الجوانب التربوية للاعتكاف تطبيق مفهوم العبادة بصورتها الكلية، فالاعتكاف يؤصل في نفس المعتكف مفهوم العبودية الحقة لله عزّ وجلّ، ويدربه على هذا الأمر العظيم الذي من أجله خلق الإنسان، إذ يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. حيث إن المعتكف قد وهب نفسه كلها ووقته كله متعبداً لله عزّ وجلّ ويكون شغله الشاغل هو مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فهو يشغل بدنه وحواسه ووقته - من أجل هذا الأمر - بالصلاة من فرض ونفل وبالدعاء، وبالذكر، وبقراءة القرآن الكريم، وغير ذلك من أنواع الطاعات. وبهذه الدُّرْبة في مثل أيام العشر الأخيرة من شهر رمضان المبارك يتربى المعتكف على تحقيق مفهوم العبودية لله عزّ وجلّ في حياته العامة والخاصة، ويضع موضع التنفيذ قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (162) {لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (163) [الأنعام ]، قال القرطبي (محياي) أي: ما أعمله في حياتي، (ومماتي) أي: ما أوصي به بعد وفاتي، (لله رب العالمين) أي: أفرده بالتقرب بها إليه).
    وليلة القدر: هي المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم، إذ بدأ اعتكافه أول مرة الشهر كله وكذلك اعتكف العشر الأواسط تحرياً لهذه الليلة المباركة، فلما علم أنها تكون في العشر الأخيرة من شهر رمضان اقتصر اعتكافه على هذه العشر المباركة.
    وعن تعوّد المكث في المسجد يشير الشيخ الحسن إلى أن المعتكف قد الزم نفسه البقاء في المسجد مدة معينة. وقد لا تقبل النفس الإنسانية مثل هذا القيد في بداية أمر الاعتكاف، ولكن عدم القبول هذا سرعان ما يتبدد عادة بما تلقاه النفس المسلمة من راحة وطمأنينة في بقائها في بيت الله. ومعرفة المعتكف بأهمية بقائه في المسجد أثناء اعتكافه تتجلى في الأمور التالية: أن الرجل الذي يمكث في المسجد قد أحب المسجد من قلبه، وعرف قدر بيوت الله عزّ وجلّ، وهذا الحب له قيمة عند الله عزَّ وجلَّ؛ إذ يجعله من الفئات التي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أن الذي يمكث في المسجد ينتظر الصلاة له أجر صلاة، وأن الملائكة تستغفر له، ففي الحديث الذي أورده أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في مصلاه ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة" البخاري.. البعد عن الترف المادي والزهد فيه، في الاعتكاف يتخفف المعتكف عن الكثير من هذه الأمور، ويصبح كأنه إنسان غريب في هذه الدنيا، وطوبى للغرباء، فهو من أجل مرضاة الله عزَّ وجلَّ ارتضى أن يقبع في ناحية من المسجد ليس لديه في الغالب إلا وسادة يضع عليها رأسه وغطاء يتغطى به، قد ترك فراشه الوثير وعادته الخاصة من أجل ذلك الرضا. أما طعامه فهو مختلف في وضعه، إن لم يكن في نوعه، إن كان طعامه يأتيه من منزله، فهو عادة لا يأتيه بالكثرة ولا يتناوله بالوضع الذي كان يتناوله في منزله على طاولة وكرسي مع أهله وولده، بل يأكل كما يأكل الغريب، ويأكل كما يأكل العبد الفقير إلى ربه، وإن خرج إلى السوق من أجل الطعام فهو يعمل جاهداً على التعامل مع ما هو متوفر ولا يشترط نوعاً معيناً، لأنه مطلوب منه العودة إلى معتكفه، وعدم الإطالة في مثل هذه الأمور، وبهذا يعرف أن الحياة يمكن إدارتها بالقليل الذي يرضى عنه الله، وكذلك يمكن إدارتها بالكثير الذي لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، والفرق بينهما كبير. الإقلاع عن كثير من العادات الضارة: في ظل غياب مفهوم التربية الإسلامية في كثير من المجتمعات الإسلامية، وفي كثير من بيوت المجتمعات الإسلامية. نشأت وتفشّت لدى أفراد هذه المجتمعات كثير من العادات التي تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، وعمّت هذه العادات المنكرة حتى أصبحت نوعاً من المعروف الذي لا يرى فيه ضرر على الدين والنفس، ومن تلك العادات: التدخين، وسماع الموسيقى، ومشاهدة ما يبث في القنوات الفضائية من مشاهد وأحاديث تضادّ عقيدة المسلم وتُنافي حياءه وعفّته، وغير ذلك من عادات لها ضررها على الدين والنفس. وتأتي فترة الاعتكاف لتكشف للفرد المسلم زيف تلك العادات، ووهن ذلك الاعتقاد الذي سكن في نفوس كثير من المسلمين بعدم القدرة على التخلص من مثل تلك العادات، لأنها قد استحكمت في النفوس. ويتعرف الإنسان المسلم في فترة الاعتكاف، وقد خلا إلى خالقه، على مفهوم العبادة بصورتها الشاملة، وأنه يجب أن يكون متعبداً لله عزَّ وجلَّ على مدار الساعة في حياته العامة والخاصة فهو عندما يتخذ مرضاة الله عزَّ وجلَّ ومحبّته ميزانا يزن به كل عمل يقوم به، يجد أن تلك العادات التي أشرنا إليها آنفاً وكثير غيرها لا تتفق مع هذه المحبة لله عزَّ وجلَّ بل تعمل في اتجاه معاكس لها، ويجد بذلك أن مثل تلك العادات تخرجه عن دائرة العبودية الصادقة لله، وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن يتخلص منها في أسرع وقت ممكن. فالاعتكاف فرصة سنوية يستطيع فيها المعتكف أن يتخلص من هذه البلايا عن طريق التوبة والالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ أولاً، وعن طريق فطام النفس عن تلك المعاصي في فترة الاعتكاف، وعدم تحقيق رغبة النفس منها، وتعويدها على ذلك. هذه الطاعات المستمرة لله عزَّ وجلَّ تحتاج إلى صبر مستمر من قِبَل المعتكف، وفي هذا تربية للإرادة، وكبْح لجماح النفس التي عادةً ما ترغب في التفلّت من هذه الطاعة إلى أمور أخرى تهواها. وهناك الصبر على ما نقص مما ألِفته النفس من أنواع الطعام المختلفة التي كان يطعمها في منزله، فتلك الأنواع لا تتوفر في المسجد، فيصبر على هذا القليل من أجل مرضاة الله عزَّ وجلَّ. وهناك الصبر على نوع الفراش الذي ينام عليه، فلن يوضع له سرير في المسجد، أو فراش وثير كالذي ينام عليه في منزله، فهو ينام على فراش متواضع جداً إن لم يكن فرش المسجد. وهناك الصبر على ما يجد في المسجد من مزاحمة الآخرين له، ومن عدم توفر الهدوء الذي كان يألفه في منزله إذا أراد النوم وهناك الصبر عن شهوة الزوجة، إذ يحرم عليه مباشرتها عند دخوله إلى منزله للحاجة حتى التقبيل والعناق، وهي حلاله، وفي هذا الأمر تتجلى قيمة الصبر وقيمة القوة في الإرادة وضبط النفس، ومن خلال هذه المواقف وغيرها نجد أنه يمكن تربية الإنسان على القدرة على تأجيل كثير من الأمور والرغبات العاجلة من أجل أمور أهم منها، فهو يؤجل كل هذه الحاجات النفسية والمادية العاجلة من أجل الفوز برضى الله تبارك وتعالى.

    بناء القلوب
    وينبه الشيخ تركي السحيم معلم في المعهد العلمي إلى أن الله شرع لعباده الكثير من العبادات والطاعات والقربات التي يستطيعون بأدائها وممارستها أن يرتقوا بأرواحهم ويسموا بأنفسهم، ومن أجـــلّ هذه الطاعات والقربات تلك السنّة التي يتفرغ فيها المرء للجد والاجتهاد في العبادة، منصرفًا بها عن علائق الدنيا وضجيجها الصاخب، ليخلو فيها بربه فيُناجيه ويناديه ويدعوه ويرجوه؛ فترق روحه ويصفو قلبه وتسمو نفسه، إنها السنّة التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، إنها سُنّة الاعتكاف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان 10 أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف 20 يومًا" رواه البخاري. وإن كان الاعتكاف فرصة للمسلم يتفرغ فيها للعبادة وللارتقاء بإيمانه؛ فهو فرصة كبرى للدعاة والمربين للارتقاء بالمستوى الإيماني والتعبدي -وغيرهما- لدى من يدعونهم.
    ونحاول هنا طرح بعض الأفكار التي تساعد على نجاح الاعتكاف والاستفادة منه في الارتقاء بالمستوى الروحي والتعبدي للمعتكفين. فمن الضروري -ليكون الاعتكاف ناجحًا- أن يضع المعتكف تصوراً شاملاً لما يرجو أن يكون عليه الاعتكاف، مثل: وضع برنامج واضح ومحدد له، وتحديد مكان الاعتكاف بالمسجد، وتجهيز هذا المكان ليكون صالحًا لإقامته، كذلك من الأفكار التي يمكن أن تُعطي للاعتكاف فائدة تربوية كبيرة دعوة أحد العلماء أو الدعاة المشهود لهم بالعلم والصلاح وحسن الخلق للاعتكاف مع المعتكفين، فمعايشة المعتكفين لمثل هذا العالم أو الداعية القدوة سيكون لها أثر كبير في الارتقاء بهم في الجوانب الروحية والعبادية والسلوكية وغير ذلك؛ فمخالطة الصالحين ومعايشتهم لها عميق الأثر في نفوس من حولهم وإن لم ينطقوا بكلمة واحدة، ولذا قال أحد السلف الصالح رضوان الله عليهم: "حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل"، وقيل أيضًا: "مجالسة العارف الزاهد تدعو من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة"، فلنحرص على وجود هذا العالم أو الداعية النموذج بين المعتكفين لينهلوا من علمه وصلاحه. ومن الضروري أن يكون هناك تشجيع وتحفيز للمعتكفين على الإكثار من الخيرات، كالإكثار من النوافل، ومن تلاوة القرآن، والمداومة على ذكر الله، والابتعاد عن فضول الكلام...إلخ، ومن الممكن أن يتم ذلك من خلال وضع مشروع عبادي محدد لكل يوم، فمثلاً مشروع اليوم الأول: تلاوة عدد كبير من أجزاء القرآن مع التدبر، واليوم الثاني: ذكر الله بعدد كبير ومتنوع من الأذكار، واليوم الثالث: مراجعة عدد كبير من آيات القرآن التي كان يحفظها، واليوم الرابع: صلاة عدد كبير من ركعات النوافل من باب التطوع المطلق، وهكذا كل يوم مشروع يحفز المعتكفين على الانشغال بطاعة من الطاعات. تعد صلاة التهجد من أبرز العلامات التي يتميز بها الاعتكاف، لما لها من عظيم الأثر في النفوس ولما يلمسه المرء من شعور صادق بقربه من الله تعالى، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر" رواه الترمذي بسند حسن صحيح، ففي ظلها تصفو القلوب، وتخشع النفوس، وتتسامى العقول والخواطر، وتعرج الأرواح إلى بارئها فتنعم بجواره وتأوي إلى رحمته.
    ومن الأدوار التي يمكننا القيام بها لتعميق استفادة المعتكفين بهذه المعاني الروحية من صلاة التهجد أن نوفر لهم ظروفًا تساعدهم على ذلك مثل: الحرص على إيجاد قارئ مجيد لحفظ القرآن، حسن الصوت، ونقصد بحسن الصوت أن يشعر من يصلي خلفه بروعة القرآن ويعيش في ظلال معانيه، ويحسن أن يكون وقتها في الثلث الأخير من الليل وليس في منتصف الليل؛ وذلك لنفوز بالرحمات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الثلث الأخير من الليل حين قال: "إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يُعطَى! هل من داع يُستجاب له! هل من مستغفر يُغفر له! حتى ينفجر الصبح" رواه مسلم، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يستطيع المعتكفون أن يأخذوا قسطًا من النوم فيقومون للتهجد بنفس يقظة واعية لما تسمعه من آيات القرآن ولما تتلفظ به من الذكر والدعاء.
    ومن الأفكار التي يمكن أن يُستثمر بها الاعتكاف استثمارًا جيدًا أن تتم مدارسة ومناقشة أحد الكتب التي تتناول الرقائق أو الأخلاق والسلوك أو غير ذلك مما يحتاج إليه معظم المعتكفين، ومن الممكن أن تكون هذه الفقرة بعد صلاة التراويح وقبل النوم. وتتم مدارسة ومناقشة هذا الكتاب بأن يقوم أحد القائمين على الاعتكاف أو أحد المعتكفين من ذوي العلم بعرض أحد موضوعات هذه الكتاب بصورة إجمالية بعيدًا عن التطويل الممل أو الاختصار المخل، ثم يفتح بعد ذلك النقاش حول هذا الموضوع والدروس المستفادة منه والواجبات العملية التي نستخلصها منه. فالاعتكاف يعد فرصة جيدة لتعلم من لا يجيد تلاوة القرآن لأحكام التلاوة، ولذا فمن الممكن أن يحتوي برنامج الاعتكاف على حلقة تجويد تهتم بتعليم أحكام تلاوة القرآن وتدريب المعتكفين على تطبيق هذه الأحكام عند التلاوة، وتبدأ بشرح الأحكام من القائم عليها، ثم يقوم بتدريب المشاركين فيها على تطبيق هذه الأحكام من خلال الاستماع إلى تلاوتهم وتصحيح أخطائهم مع التركيز على الحكم الذي شُرح لهم، ومن الممكن أن تعقد هذه الحلقة بعد الفجر أو بعد العصر

  8. #8
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية أبوإسماعيل
    المشرف العام
    تاريخ التسجيل
    06 2003
    الدولة
    صامطة
    المشاركات
    28,338

    رد: مدرسة الاعتكاف

    ومثل المعتكف كرجل له حاجة إلى عظيم، فجلس على بابه، ويقول لا أبرح حتى تقضى حاجتي، وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي، فالاعتكاف خلوة شرعية ورياضه روحية عجيبة في أسرارها ودروسها،
    ما أثمنها من فرصة

    وما أغلاها من مناسبة

    سبحانك لا إله إلا أنت يا رب


    الله يجزيك خير أخي عبد ربه
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية الشفق
    مجلس الإدارة

    أبومحمد
    تاريخ التسجيل
    01 2005
    المشاركات
    26,319

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    الف شكر لك اخي الفاضل ( عبد ربه )
    تم دمج الموضوعين لأنها تأدي نفس الغرض
    مع خالص الشكر والتقدير لشخصكم الكريم

  10. #10
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عجاج الليل

    طـيــر شــلوى

    أبـوريـاض
    تاريخ التسجيل
    10 2007
    الدولة
    بين المسافي والخبوت
    المشاركات
    14,557

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    جزاك الله خيراً على جميل نقلك

    لا حرمك الله أجر صنيعك أبا محمد



    سلمت الأنامــل

    لا خلا ولا عدم

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  11. #11
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية ا.عبدالله
    صديق الضوء
    تاريخ التسجيل
    07 2007
    المشاركات
    6,412

    رد: ملخص أحكام الاعتكاف

    بارك الله فيك أخي عبدالله وبجهدكم المثمر إن شاء الله

    تحياتي وتقديري لشخصكم الكريم

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •