سؤال يردده الأبناء على مسامع الأمهات لماذا لا نرى أبي في البيت !؟
يترك غياب الآباء عن المنزل لساعات طويلة أو لأيام أثراً خطيراً على نفسية الأبناء، فقد انتشرت ظاهرة غياب الأب عن المنزل وإهماله مسؤولية تربية الأبناء وآثارها السيئة، وذلك أمام اضطراره للارتباط بأكثر من عمل علّه يسد متطلبات الحياة الصعبة، متناسياً سنّة الله في أن يتربى الطفل بين والدين يشتركان في التوجيه والإرشاد والعناية والرعاية، وكثير من الأسر تعيش هذه المشكلة .. ترى ما شكل العلاقة بين زوجين لا يلتقيان إلا قليلاً؟ وكيف يُربى الأبناء بعيداً عن آبائهم؟ وهل غياب الأب يؤثر حقاً على نفسية الأبناء؟ وما هي أسباب تغيب الآباء ومكوثهم مدة طويلة خارج المنزل؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها وتنتظر إجابات وحلولاً لمشكلة غياب الأب التي بين طياتها سلبيات تعاني منها الأسرة يومياً كما ترويها لنا الزوجات من خلال التحقيق التالي:
الغياب .. سلبيات وإيجابيات بعيون الأمهات
نورة تقول: "بيتنا خلال الأسبوع يغرق في الفوضى، كل يأكل عندما يجوع، الأصوات مرتفعة، أثاث البيت متناثر.. بحكم ارتباط أبي بالعمل لفترتين أشعر بفرق كبير عندما يوجد أبي بالمنزل وغالباً يكون نهاية الأسبوع! هدوء يخيِّم على البيت، نجتمع معاً على الأكل، قطع الأثاث في أماكنها، لا معارك.. نهاية الأسبوع بالنسبة لنا راحة وهدوء وهدنة لوجود أبي بيننا". وقد يتعدى أثر غياب الأب الإهمال ليصل إلى تدهور في سلوكيات الأبناء..
- أم محمد تشتكي وتقول: "لا أستطيع السيطرة على الأولاد .. معاركهم تكثر في فترة غياب والدهم، ولقد كبروا ولا أستطيع الفصل بينهم في خلافاتهم وإذا نزلوا إلى الصلاة لا يعودون مباشرة، بل ربما سببوا بعض المشاكل مع الجيران فهم لا يخافونني ومطمئنون أن أباهم غير موجود.. أما الكتب الدراسية فلا تُفتح إلا عندما يدخل أبوهم ليبدل ملابسه ثم تُطوى مرة أخرى عند خروجه.!
- أم نواف تقول: "لا أجد وقتاً مناسباً للجلوس مع زوجي، وعندما تتوفر فرص تكون غالباً للحديث عن متطلبات البيت وما ينقصه، وعن مشاكل الأولاد.. حتى بدأت أخجل منه، فدائماً هذا مدار حديثنا نحتاج كذا، أعطنا كذا، فلان ينقصه كذا.. أتمنى أن تعود حياتنا كأولها.. كنا نجلس معاً كثيراً لنتجاذب أطراف الحديث، نخرج معاً للرحلات البرية ونقضي وقتاً ممتعاً.. أما الآن فكلانا يدور حول نفسه وعمله".
الحنين للأب
بعض الأطفال يشعرون بحنين وفقدان لأبيهم، تقول أم محمد: "ابني يحب أباه كثيراً ويفتقده، ويومياً يسأل نفس السؤال: متى يأتي بابا؟ كثيراً ما يجلس في سريره يغالب النوم إلى أن يأتي والده ليقبله فقط ثم ينام.. أشعر أن قلبه معلق بوالده.
تقول ريم: "أبي يحبنا كثيراً ويحن علينا، أرى ذلك في عينيه خلال جلوسه معنا آخر النهار، إنه يعطينا ما نريد بلا حدود ويلبي كل طلباتنا بدون مناقشة ولا يرفض لنا طلباً مهما كان". ولغياب الأب أثره على شخصية الولد، تقول أم عبدالعزيز: "ابني جاء بعد ست بنات، كبر بينهم وأبوه مشغول كبقية الآباء، لكن المشكلة أنه أصبحت تصرفاته واهتماماته لا تختلف عن أخواته البنات، وله عذره فهو لا يرى سوانا.. ماذا أفعل إنه الآن في الصف الأول متوسط وأخاف عليه؟ وأتساءل كيف ستكون شخصيته؟! وكيف سيتعلم أن يصبح رجلاً من دون والده؟
- أم عبدالرحمن تقول: "زوجي طبيب يبدأ عمله من ساعات الصباح الباكر، فلا يستطيع إيصال الأولاد للمدرسة فاضطررنا للسائق ليقوم بهذه المهمة، ثم ينتهي به الدوام الرسمي في السادسة مساء حيث يعود منهكاً، بينما يكون الأولاد منشغلين باستذكار دروسهم، فيأخذ قسطاً من الراحة ثم يستيقظ ليعود للعمل الإضافي في عيادة خارجية، ومنها لا يعود إلا في الحادية عشرة بعد نوم الأطفال.. وهكذا يومياً، حتى يأتي يوم الجمعة وهو منهك فلا يغادر السرير من الإعياء إلا للصلاة.. تمر الأيام ولا يعرف الأطفال من أبيهم سوى قُبَل الصباح والمساء، والمسؤولية كلها على عاتقي".
- أم أريج تقول: "إنني أعيش في صراع مع نفسي وزوجي وأبنائي، أتحمل المسؤولية كاملة بينما هو يصول ويجول في الخارج حتى الثانية بعد منتصف الليل، إنني أقف حائرة أمام أسئلة أبنائي عن أبيهم، هل أقول إنه يتابع الفضائيات مع أصدقائه أم أنه يلعب الورق؟ لا أستطيع الكذب عليهم، فالكبار منهم يعلمون أين أباهم ولقد بدؤوا ينهجون نهجه ويحمّلون أباهم مسؤولية كل إخفاق لهم.. إنني أعاني كثيراً".
تغيب المسؤولية
- الدكتورة مريم محمود، أخصائية نفسية تقول: إن دور الأب لا تقتصر أهميته التربوية على الأبناء في مرحلة الطفولة فقط؛ بل بالعكس يظهر دوره بوضوح في حياة الأبناء، خصوصاً في مرحلة المراهقة، وخصوصاً الذكور في السن من 21 إلى 81 سنة، وأنا دائماً ما أنصح الأم: "إذا كبر الابن أتركي حِملُه على أبيه"؛ لأنه يصبح أقل استجابة للأم، فهو في هذه السن يحتاج إلى التوجيه والإرشاد وحسن الصحبة، والرقابة تمنع الفتى من الزلل وتقف في وجهه عندما يتعدَّى قِيمَه، ويستحيل قيام الأم بالحمل وحدها، خصوصاً مع المراهقين، فنحن أمام جيل لا يتحمل المسؤولية. وحتى من الناحية الشرعية إذا وصل الموقف بين الطرفين إلى الطلاق وهو أمر غير مرغوب فيه على حضانته؛ حيث يكون الولد في هذه المرحلة محتاجاً للخدمة والرعاية واكتساب العادات؛ لكن بعد ذلك يأمر به للأب حين يكون في سن يحتاج قليلاً من الحزم.
وترفض الدكتورة أن يكون الهم الأول للأب هو ضخ المال، وترى أنه إذا غاب الأب عن مكانه الطبيعي فإنه يصبح لا واقع له في الأسرة ولا دور له في التوجيه، والذي يتخلَّى عن مكانه ودوره الطبيعي فقد باع أبناءه نظير المال.
وتضيف الدكتورة: هناك سلبيات خطيرة في غياب الآباء عن أبنائهم منها ضعف الجانب العاطفي الأبوي، فانعدام المشاعر الأبوية تجاه الأبناء يؤدي إلى انعدام الحنان والمحبة بين الطرفين وحدوث حالات نفسية مكتئبة لدى الأبناء. فقد تحدث بعض الاضطرابات في حياة الطفل، ويتجلَّى ذلك في مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب الطفل بين الحين والآخر، لا سيما أثناء النوم، أو بشكل أعراض نفسية جسدية (قضم الأظافر، تبول لا إرادي، عدم التركيز، كثرة النسيان، الميل للعزلة) شلل الهيكل التربوي نتيجة لغياب الأب المستمر، فتضعف الجوانب العلمية والفكرية والثقافية لدى الأبناء. وتحمل الأم العبء الأكبر من مسؤولية تربية الأبناء في جميع الجوانب، وهذا يؤدي بلا شك إلى تقصيرها في التربية، بسبب غياب دور الأب ومسؤوليته في المنزل. وتشير نتائج أحدث الدراسات التربوية بالولايات المتحدة الأمريكية إلى مدى تأثير الحالة الاجتماعية وحضور الآباء الفعّال على تقدم الأطفال في مراحل التعليم المختلفة بداية من فترة الحضانة الأولى، فالأطفال الذين ينحدرون من عائلات ثنائية العائلة (أب وأم) وجد أنهم يتمتعون بقدرات أفضل فيما يتعلق بالقراءة والكتابة وإجراء العمليات الحسابية من أقرانهم الذين ترعرعوا في كنف عائلات أحادية العائل (عائلة بدون أب) حيث تتحمل الأم هنا كافة الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية. حدوث خلاف وشقاق مستمر بسبب تقصير الأب وغيابه المتكرر، وهذا يؤدي إلى التأثير السلبي على نفسية الأبناء. وغياب الأب يعني غياب القدوة والسلوكيات الدينية مثل اصطحاب الأب أبناءه إلى المسجد، والسلوكيات التربوية الحياتية اليومية مثل متابعة الأبناء واجباتهم المدرسية. انحراف الأبناء خاصة مع وجود عوامل مؤثِّرة كالتلفزيون والإنترنت. وقد حللت الدكتورة أسباب تغيب الأب عن المنزل، فقالت: إن انشغال الأب بأمور الدعوة وتوعية المجتمع وغفلته عن مسؤوليته التربوية الأساسية أو غيابه بسبب أعماله التجارية بعد الوظيفة الرسمية قد تترك آثاراً سلبية في حياة الأبناء والأسرة، كما أن وجود خلافات مستمرة بين الزوجين قد تؤدي إلى هروب الأب من المنزل، وخاصة إذا كان هناك تقصير واضح من الزوجة تجاه زوجها في جذبها له (في نفسها وبيتها وأبنائها) مقابل ما يراه من مغريات كثيرة في المجتمع، ولا يقف تعليل هذه المشكلة بالنظر إلى تقصير الزوجة فقط، فقلة وعي الأب وكذلك لأهمية مسؤوليته تجاه بيته وأبنائه وزوجته أو عدم حرصه للارتقاء بمستوى زوجته وأبنائه من الناحية الدينية والثقافية (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) قد يكون سبباً في تهربه من المسؤولية وخروجه من المنزل.
ترتيب الأوليات
- الدكتور محمد الغليقه أستاذ علم الاجتماع يقول: للدوافع أهمية كبرى في حياة أحدنا وهي التي تولد السلوكيات الإيجابية والسلبية، ومع غياب إدارة حقيقية للوقت، أو فهم ناقص لبعض القيم في مشاهدة الحياة، تتأرجح نسبة المعقول وغير المعقول في آثار السلوك عن البشر، فمن مَلَكَ القدرة على التخطيط والتحفيز النفسي والعقلي فقد وقر أسباب النجاح ومَلَكَ عمره، ومن ساهم في قتل الوقت فقد قتل نفسه دون أن يعلم، ودائماً نسمع ونشاهد ونقرأ عن أزواج جعلوا من بيوتهم محطة للإستراحة القصيرة، بينما كان الشارع والاستراحات القسم الأكبر من ساعات اليوم، وقد يبرر سلوكه بالفرار من البيت والمسؤولية، فلا يساهم في إيجاد حياة مستقرة، بل يعلِّل ما يترتب من آثار لغيابه من المنزل بالحجج الواهية، ويتخلى عن واجبه تجاه زوجته وأبنائه، فالزوجة في النهاية إنسانة تجمع في قلبها المشاعر الجياشة والأحاسيس العاطفية، وعندما نرى اختلاف مستويات الأبناء وتفاوت سن أعمارهم، ندرك أن الأبناء تتفاوت كذلك مدركاتهم للقيم وكسب مفردات التربية السلوكية، لأنهم بحاجة إلى كيان الوالد كجسم يحتل كثافة ساحية في بيته، فيجد أمامه معاني الصداقة ويستشرف من عطر أبيه ما يحتاجه من حب ورفق، وقد يؤلمه لذعة فراقه وغيابه عن المنزل، فالوالد هو الملجأ الوحيد الذي يحتاجه الأبناء عند كل كرب وضيق، يحتاجونه كمؤدب، فينشأ الناشئ فينا على ما عوِّده والده، والوالد في الأخير هو البوابة التي تحرس عملية التكوين في كل أشكالها، فيكبر الولد ويكون رجلاً صالحاً، والبنت تكون أماً صالحة، وكم قاست الكثير من الأمهات في العملية التربوية عند غياب الآباء. وعن كيفية توجيه الآباء نحو خطورة تغيبهم عن المنزل يضيف د.الغليقة: يجب أن ننبه الآباء إلى أن الاستثمار الحقيقي يكون في الأبناء، وليس الاستثمار المالي، وأن المستقبل كفيل بإظهار معالم هذه القضية، فالآباء يرون الأموال الطائلة التي جمعوها لا تغطي عيباً واحداً من العيوب التي نشأت بسبب غيابهم عن المنزل، ولن تتحقق الحاجات النفسية التي تنطلق من قلب هذا الطفل إلا بكثرة مداومته مع والده، وقد يفقد الطفل معاني الرجولة والذكورة نتيجة نقص المناعة العاطفية الأبوية، ولو افترضنا أن بعض الأمهات حازمات فإن البعض الآخر من الأمهات لا تربي رجالاً، لذلك يشوب تربية بعض الأمهات للأولاد شيء من فقدان الرجولة، فيجب أن نوجّه الآباء إلى أن تربية الأبناء واجب شرعي وعرفي وأخلاقي، بينما الانشغال بتكثير الأموال ومضاعفتها أمر مطلوب ولكن ليس بواجب، فيجب ترتيب الأولويات، وعندما نعرض بعض الإحصائيات التي تبين الآثار السلبية لغياب الأب عن المنزل، سنجد أن الأمر جلل والقضية تحتاج لدراسة متأنية، فهل قام بعض الآباء بزيارة مراكز الأحداث والتعرف على حالات الانحراف الناتج عن فقدان وجود الأب في المنزل؟ وهل قام بعضهم بمقارنة بين الحالة السابقة وحالات النجاحات التي حققتها الأسر التي تكامل فيها وجود الوالدين في المنزل وقتاً أكثر؟ كما أن معنويات الابن الذي يأتي والده ليصطحبه من المدرسة تكون أكبر من معنويات الطالب الذي يأتي سائق المنزل لأخذه، والسبب واضح، فإن الابن تجده في مدرسته دائم الافتخار بذهابه مع أبيه وإيابه معه، وأما الآخر الذي يفقد والده في المنزل أو المدرسة فلا يجد من يتحدث عنه ويفتخر وينافس به أقرانه، وهنا يحاول أن يغطي نقصه العاطفي فيفتخر بشخصيات لا علاقة له بها، كلاعبي الكرة، والفنانين، أو حتى سائق المنزل، لأنه لا يرى في المنزل من يروي حياته الشخصية والعاطفية. وهناك مسألة خطيرة وهي عدم معرفة الأب لصفات الابن، فهو لا يعرف الجوانب الإيجابية عنده فيشجعها، ولا الصفات السيئة فيحاربها ويلغيها، وقد يكون الأب أقدر على معرفة صفات السائق أو الموظف في شركته أكثر من صفات والده في المنزل. ويوضح الدكتور أساليب جذب الأب إلى المنزل فيقول: إن حسن استقبال الزوجة لزوجها عند دخوله في عشه الآمن، أو حُسن تدبير الزوجة لشؤون المنزل من نظافة وترتيب وإعداد للطعام، أو حُسن توفيق الزوجة بين واجباتها المنزلية ومسؤولياتها خارج البيت، تطوّل مدة مكوث الأب في المنزل وخاصة إذا تفننت الوزة في تزيُّنها وتعطرها وتبسمها لزوجها، فإذا نظر إليها سرّته وبعثت السعادة في قلبه، فينجذب دائماً إليها وإلى الأبناء والمنزل.
مقدمة للانهيار الأسري
- الدكتور علي مختار، أستاذ علم الاجتماع: يرى أن التربية السليمة هي التي يشترك فيها الأب والأم. والأب الذي يكون خارج البيت يرتكب خطأ فادحاً، فتركه للأبناء يجعلهم شخصية غير متوازنة، وتكون مساحة تأثير شخصية الأم على الأبناء كبيرة، فيصبح الابن مثلاً عاطفياً بشكل زائد، وهو أمر غير مرغوب فيه، والأب هنا يقوم بخلع نفسه عاطفياً من شخصية أبنائه ويختزل نفسه في دور أب له عاطفة وعلاقات مع الأبناء إلى مجرد مصدر للمال، وخيط الوصال هو اتصال تليفوني؛ ومهما اشترى لا يعوِّض ذلك الخلل أو يسترد تلك العاطفة، وهذا يكون مقدمة للانهيار الأسري أو التفكك. فتغيُّب الأب يخلق أبناءً مشوَّهين نفسياً وغير سالمين في نضجهم الاجتماعي، ولا يوجد فرقٌ بين مرحلة عمرية وأخرى أو ذكر وأنثى، فالأبناء قبل الثماني السنوات في حاجة ملحة لوجود الأب حتى يدخل وجدانهم من خلال العملية التربوية؛ وحتى لا يكون لأبناء أصحاب شخصية عرجاء، بالإضافة إلى أن غيابه عن مكانه يفتح الطريق أمام الأبناء للانحراف، فغياه عن مكانه لا شك يزيد من معدل الجريمة عند الأبناء، ويرى الدكتور أن الخطأ يقع علي كاهل الأب، فكأنه قصير النظر، يتصور أن حل المشكلة بالمال فحسب، رغم أن أعقد المشكلات لا تُحل بالمال، ولو أدرك أن تربيته لأبنائه أهم من جمع المال وتعليمه لهم أن يعتمدوا على أنفسهم كما يقول المثل الصيني "الذي يطعمني سمكة يشبعني يوماً، والذي يعلمني الصيد يشبعني سنة". فيكون أفضل من أن يترك له الأموال والعقارات و...إلخ. ولكن حتى نتكيف مع الوضع ويكون أقل إيلاماً على الأب أن يكون مراقباً للأم من حيث: هل تقوم بأدواره بشكل جيد؟ هل مازال دوره موجوداً؟ هل يشترك في أدق القرارات الأسرية تفصيلاً أم تهميشاً؟! فالأم لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحافظ على وجوده بصورة دائمة، ولكن هناك للأسف بعض الأمهات اللائي لهن قدرٌ من الأنانية تنتهزها فرصة لتهميش دور الأب ويكون مردود ذلك على الأبناء كارثة لا محالة. والطامة الكبرى هي الأب الذي لا يدرك أن بُعده مشكلة تستوجب محاولة ضخ المشاعر بقوة لإنعاش الحياة بتلك العاطفة وليس ضخ مشاعر مادية أبداً، ومن كل هذا وذاك تأتي النتيجة الطبيعية والمنتظرة، تموت العلاقة بين الأب وأبنائه وهو متوهمٌ أنه يقدم لهم ما لا يحلم به كثيرون في عمرهم، ويصبح الأب ليس إلا "ضيفاً ثقيلاً" نتحمله مضطرين صاغرين لفترة ندعو الله أن تمر بسرعة البرق، ونودعه وعلى وجوهنا وألسنتنا مظاهر الحزن والشوق، وقلوبنا ترقص فرحاً لرحيل الضيف الثقيل وهذا وضع غير طبيعي!!
آباء خارج الخدمة
- ويفرق الدكتور عبدالكريم الحمد، أستاذ علم الاجتماع بين انشغال الآباء لأسباب جوهرية وبين انشغالهم لأسباب تافهة فيقول:
تبرز خلف أسباب الغياب رموز متباينة للآباء.. فالأب العامل المكافح، والداعية المنسلخ عن نفسه لخدمة دينه يتركان كلاهما أعظم المبررات لهذا الغياب، وهي مبررات تمد الأم بسلاح الصبر والتوكل على الله وشحذ الهمة للاهتمام بالأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقها، والشعور أنها هي أيضاً على ثغرة وأن لديها عملاً يوازي عمل زوجها، بل قد يفوقه، وعليها أن تخلص فيه وستجني ثماره إن شاء الله عاجلاً أم آجلاً. هؤلاء الآباء يضربون لأولادهم أروع مثل في التضحية والجد والاجتهاد والعمل الدؤوب، ويعلمونهم أهمية الوقت بثوانيه ولذة العمل بنتائجه، ولو قلت، ويرسلون رسالة إلى الجيل أن الحياة كدح وأن العمر ثوان والعمل شرف وواجب. لكن ما الرسالة التي يقدمها أب يقضي وقته في متابعة الفضائيات أو العكوف على الإنترنت فيما لا طائل من ورائه أو ينقضي ليله وهو مع شلته بين الورق.. وأي مدد يصل للزوجة القابعة بين أبنائها تتربص بهم مغريات الحياة ومهالك الردى، وأي جيل ينشأ وهو يرى حياة بلا هدف وأوقات تضيع سدى!! ويضيف: للأسف بعض الآباء لا يشعر بدوره كرب لأسرته وقائد لها كما كان يرى أباه في الصغر، فزوجته وأولاده يعنون غيابه فهو يخرج في الصباح إلى عمله ويعود مع العصر لتناول غدائه وينام لمدة ساعة واحدة ثم يذهب إلى عمله الإضافي في إحدى الشركات، فإذا عاد وجد أبناءه قد ناموا، وعندما يستعد للذهاب إلى عمله صباحاً يجدهم قد ذهبوا إلى المدرسة، أما الصغار فما زالوا يغطون في نومهم. هذه مشكلة مئات آلاف الآباء الذين يكدون من أجل لقمة العيش، الكثير لا يؤرقهم الأمر وأحالوا مهمة تربية أبنائهم إلى زوجاتهم. أن يكد رب الأسرة ويشقى لتوفير لقمة العيش والرفاهية لأبنائه وزوجته فهذا أمر لا غبار عليه، فتلك مهمته وهذا دوره، لكن أن يصبح غريباً في بيته يحل عليه ضيفاً لساعات قليلة يأكل فيه أحياناً وينام، أو آخر من يعلم بالقرارات التي يتخذها الأبناء كاختيارهم أصدقاءهم أو تحديد مصائرهم في التعليم أو حتى فيما يرتكبونه من أخطاء، فذلك يعني أنه خارج نطاق الخدمة! دعونا نتفق أولاً، أن هذه الظاهرة تنتشر بين بعض الأسر، ولنكن صرحاء مع أنفسنا ونعترف بأن الأب في هذه الأسرة أصبح دوره مجرد بنك للتمويل، ولنسأل أنفسنا: من المسؤول عن هذه الظاهرة؟ هل الأم وحدها؟ أم الأبناء وحدهم؟ أم الأم والأبناء معاً؟ أم الأب نفسه بتنازله عن دوره الحقيقي بين أهل بيته؟ ويضيف: كثيرون من يلقون اللوم على الأب الذي يفرط في دوره الأسري، ومسؤوليته أمام الله التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فمهما كانت مسؤوليات الأب فإنها لا تعفيه من المسؤولية في حق أبنائه وأسرته ولا يلومن إلا نفسه، إن دور الأم في رعاية وتربية الأبناء لا يغني عن دور الأب. نعم هناك ارتباط نفسي غريزي بين الأم وأبنائها دائماً يجب أن تكون في صالح الأسرة لأنه يخفف من حدة التوتر داخلها خاصة بين الأب وأبنائه إذا حدث احتكاك نفسي فهي تعيد العلاقات النفسية بينهم إلى سياق عهدها فمنذ القديم والأب يرتبط دوره ومكانته النفسية لدى أبنائه بالسلطة والضبط والسيطرة والردع النفسي، بينما الأم تحتوي أبناءها نفسياً، وللأسف فقد أسهم التلفزيون والفضائيات في الترويج لصورة الأب القاسي والمهمش داخل أسرته بعكس الأم الحنون التي تعد غطاءً وستراً لأبنائها. إن الأصل هو توزيع الأدوار الاجتماعية والأسرية بين الأم والأب، لكن أحياناً مبالغة الأم في علاقاتها الأسرية، بأبنائها تفرض نوعاً من العزلة الأسرية تجاه الأب في بعض الأمور الأسرية، وقد أشارت نتائج البحوث الاجتماعية إلى أن أكثر الأسر معاناة من التفكك الأسري هي التي تسود فيها ظاهرة استقطاب الأبناء للأم غالباً وفي حالات نادرة للأب.