من كتاب النظرات والعبرات للمنفلوطي
لي في البلدة التى أسكُنها كرامه الحاكم لأني أشتغل وظيفة عالية فيها وقد بدا لي ان أختلف إلي المسجد لصلاة الجمعة فاختلفت حتى إذا فاجأني يوما من الايام ما لم يكن في الحُسبان .
حدث ان صعلوكا " أي فقيراً" يعرفني ويعرف مقامي تمادى في وقاحتة وسوء أدبة حتى وقف بجانبي في الصلاة فأشمأزت نفسي من هذا الامر أشمئزازاً عظيما وحاولت ان أحتملة فلم أستطع فخفت ان أنا طردته ان يؤاخذني الناس به فهل تعرف مسوغاً شرعياً يفرق بين درجات الناس في مواقف الصلوات ؟
يا مولانا الحاكم :
رحماكَ بهذا الصعلوك المسكين الواقف بجانبك لا تَضن عليه بمُذقة من ظِلك الظليل ان تمتد إليه فتقيه أشعة التصعلك الحارة التى يتلظي فيها , ولا تحرمة نفحه من نفحاتك العطرة التى تهب من أردانك عله يجد فيها روح الحياة , ويتنسم منها نسيم السعادة والهناءة , فيهدأ ساعة من الزمان عن الشعور بمصائبه ورزاياه , وأحسن كما أحسن اللّهَ إليك , أن اللّهَ يحب المحسنين .
ليفرخ روعك وليثلج صدرك وأعلم ان هذا المسكين الواقف بجانبك لا يستطيع مهما نال منه العدم وبرح به الشقاء ان يقتطع قطعه من سعادتك أو يفتلذ فلذة من شرفك, فشرفك كالمصباح تستمد منه المصابيح , ونوره نوره,وبهاؤه بهاؤه.
لا تظلم الرجل ولا تقل أنة وقح الوجه أو سئ الادب فأني بما أعلم من أخلاق هؤلاء البائسين وطباعهم وآمالهم التى تعتلج في صدورهم , وتهتف بها أحلامهم – أعتقدُ أنه ما وقف بجانبك إلا طمعا في دورة الفلك التى علت بها , وأنزلتك منازل العظماء , أن تدور بة كذلك فتنزل بة منزلتك , وتعلو به الي مقامك , فأغفرله جهله وقصوره , فمثلك من يقيل العثرة ويستر الزلة.
إنك تربد مني ان ألتمس لك من أبواب الشريعة الاسلامية باباً يسوغ لك طرد هذا الصعلوك المجترئ عليك من موقفك الذي أختارة لنفسة بجانبك فأسمع ما أُلقي عليك .
أن الذي وقفك بين يديه في مُصلاك اعظم شاناً وأجل خطراً من أن يحفل بثوبك اللامع وجبينك الساصع وردائك المطرز وقميصك المحبر , وأن يعرف لك من الفضل والشرف أكثر مما تعرف لصاحبك فما كان له ان يأمرك بالتقدم عليه في موقف الصلاة ولا أن يأمرة ان يقف منك موقف العبد من السيد والمحكوم من الحاكم.
أن للجمعة والجماعه فضائل كثيرة و وحكما جمه , أرادها الشارعُ منهما , وإك لن تجد بين هذة الحِكم وتلك الفضائل حكمه أغلى ولا فضيلة أنفس من خُلق التواضع الذى يشعر به العظيم عندما يرى أنه قد وقف من الفقير في ذلك الموقف المقدس موقف الاخ من أخيه والكفئ من كفيئه.
أن كنت تريد يا مولانا الحاكم من اختلافك إلي المسجد ألا تترك للفقير موقفاً من المواقف يملك فيه الخيار لنفسة , حتى موقفة بين يدى ربة , فخير لك أن تستصحب معك عند ذهابك شرطتك وأعوانك لتأمرهم فيه بما يرضيك من طرده وأقصائة والتنكيل به جزاءً له على وقاحته وسوء ادبه , فإن تم لك من ذلك ما أردت , فإحذر ان تنطق بعد ذلك بكلمة العبودية بعدما نطقت بكلمة الالوهيه , حتى لا تجمع على نفسك بين رذيلتي الظلم والرياء.
فأن كنت تريد الصلاة للصلاة فأعلم ان اللّهَ لا يقبلها منك , ولا يجزل لك ثوابها حتى تقف بين يديه من خالطت الخشية قلبه وملكت عليه السكينة سمعه وبصره , فلم يعد يبصر شيئا مما حوله , ولا يعلم هو أواقف في صفوف الملوك , أو في زمرة الصعاليك ؟
أيها العظماء :
ليست العظمه التى تعرفونها لأنفسكم إلا منحة من الفقراء إليكم , فلا تواضعهم بين أيديكم ما علوتم ولولا تصاغرهم في حضرتكم ما استكبرتم , فلا تجزوهم بالأحسان سوءاً ولا تجعلوا الكفر مكان الشكر , تستدفعوا النقم وتستديموا النعم.
أيها العظماء :
ما هذة القصور التى تسكنونها ولا هذة الدور التى تعمرونها وهذة الاردية التى تجرون أذيالها إلا الوانا واصباغا لا علاقة بينها وبين حقائق نفوسكم ولا صله لها بجواهر أفئدتكم وقلوبكم , وما هو إلا ان تطلع عليها شمس الحقيقة حتى تذهب بها ذهابها بألوان السحاب وأصباغ الثياب , فإذا انتم عراة مجردون لا تشفع لكم إلا فضائلكم ولا تنفعكم إلا مواهبكم ومزاياكم .
أيها العظماء :
لا عذر لكم في الكبرياء في جميع حالاتكم وشؤؤنكم و فأن كنتم من أرباب الفضائل فحري بالفاضل ألا يشوه وجه فضيلتة برذيلة الكبرياء فما تحمل الارض على ظهرها أسمج وجها ولا أصلب خداً من جهلة المتكبرين , فأنظروا أين تنزلون , زفي أي مقام تُقيمون ؟