السكونُ يعمّ المكان, ما أبردَ الجو هنا, ماينفــَك يدفئ حتى يعود أبردَ مما كان, لي قصة طويلةٌ جداً لا تسعها الصفحاتُ ولا تستطيعُ كفايتــَها الأقلام , قصتي دفئٌ وحنان, قصتي هي عرسُ الزمان, قصتي كانت منذ أن خلق الله الإنسان.
أمــّي هي نورُ الدنيا و نعيمها, تملئُ الحياة جمالاً, وتملأ اللحظاتِ رحمة, إذا مشت إليّ أجدها تبحثُ عن سعادتي و إن ذهبت عني أجدها تريدُ راحتي لا يملئها شيء سوى الحــُب و الحنان و الرحمة والأمان.
يا الله ..! وكأنني أراها الآن تبتسم لرؤيتي وتفرح بعودتي, وتأخذني في حضنها و كأنــي ماكبرت, تــقبــلني فتطير من عينيها الدمعاتُ تباعا. تجلس وهي تنظرُ إلي فيعودُ بها شريط الذاكـِرة إلى الوراء ثلاثٌ وعشرون سنة حينما رأت بريق عيني لأوّل مرة و تتذكر كيف بادرتني بحضنها وقبلتها وضمــّتني إلى صدرها.
نفسُ الحضن الذي أدفأني في أول لحظاتِ حياتي ونفسُ القبلةِ التي تسرّب عبرها الأمان إلى داخلي و نفسُ الضمة التي جعلت بكائي ابتسامة. تجري في زوايا عينيها صورتي و صورة إخوتي وأخواتي حينما نتحاربُ لأجل حلوى اشتراها أبونا وهو في طريق عودتهِ من العمـَل.
إنظري يا أماه, أصبح طفلـُكِ رجلاً يافعاً يتحمـّل المسؤولية و يسافِر ويعود ويجني لقمة العيش و يبحث عن زوجةٍ ليكونَ له أطفالٌ بإذن الله يشبهونه, مثلهُ تماماً حينما كان طفلاً, يتسلقون الأشجار و الجدران و يؤذون الزوّار والجيران وهم يمرحون في برائتهم.
إنظري يا أماه, لقد أصبح ذلك الطفل الصغير الذي كان يتعاركُ مع إخوته على مكانٍ عند جدته ليستمع إلى حكاياتها, حكايات: قصبة الجلجل والعمر داني, والأسدي و مقولته الشهيرة: يوم اقبلن للأسدي باض الحمام على الوتدِ ويوم أدبرن عن الأسدي بال العير على جسدي, و حكاية الأولادِ الثلاثة ودعوة القبول.
كلها كانـت قبل سنين طويلة كنتُ حينها لا أستطيع الوصولَ إلى مفتاح التلفاز لأشغله وأطفئه و اليوم أنا يا أماه أباري بطولي أكبر إخوتي وكأني أكبرهم. أرأيتِ يا أماه كيف أصبحتُ اليومَ كبيراً.. فهل ستنظرين إلي ككبير ؟ لا أظن, فرؤيتك لي ستبقى كماهي دائماً.
لذلــِك: كل عامٍ و أنتِ بخير يا أمي , ليس هناك شخص يستحق هذه العبارة التي تخرج من سويداءِ قلبي بالقدر الذي تستحقينه أنتِ, لازلتُ أذكــُر أغنية مسلسل الأطفال الجميل (ريمي) حين تبدو تلك الفتاة حمراءُ الشعر وهي تغني باسم جميع شعوب العالم: أنتِ الحنان أنت الأمان من تحتِ قدميكِ لنا الجنان, عندما تضحكين تضحك الحياة , تسهر الآمال في طريقنا نحس بالأمان, أمي أمي أمي نبض قلبك نبعُ الحنان , مررتِ بخاطري فكرة, عبرتِ ظلــّت الذكرى, نسيتِ الحزنَ شوقاً للغدِ الأفضــَل, دروبٌ قد قطعتيها, أفينا البــُعدُ أم فيها ؟ نسينا عيبنا بالأمسِ لم نسأل.
كــنتِ حينها تجلسين لتشاهدي معنا معاناة ريمي وبُعدها عن أمــّها, أنا اليومَ مثلها, أنتظــِر لقياكِ بشوق, سألقاكِ يا أمي الحبيبة و سأقبــّل قدميك كعادتي فتسحبيهما وتتعللين بأنك تتدغدغين ثم تقلبيني. سأشتري لكِ هدية حينما أرجِع وتفرحين بها. أعلمُ أن الهديـّة لا تـُهمـّك كثيراً.
أتذكرين آخــِر مرةٍ حينما كنتُ أجلس بين قدميك وكنتِ تفلين لي رأسي و تحدثينني عن مواصفاتِ الفتاة التي تتمنينها لي ؟ جاءَ إبراهيم الذي قارب على الثلاثين وسحبني من بين قدميك ليجلسَ هو ؟ فضحكتِ ثم جاءَ البقية كلن يريدُ أن يكون هو الجالسُ بين قدميك ؟ لقد اجتمعنا ذاك اليوم بالصدفة بالرغم من أن الإجتماع لا يحدثُ إلا نادراً فأخبرتنا أنك تريدين أن يبني كل واحد منــا بيته في داخل دارتنا الواسعة. ما أجملها من لحظات ..!
كنتِ تحتملين غصباً عنكِ فتحبسين دموعك لأنني لا أحب رؤيتها حين يحين موعـِد سفري, لم تعــُد المدة طويلة لم يتبقّ لي إلا سنتين إن شاء الله, ربــّما ستلحقها سنواتٌ أخــَر لا أعلــَم لكــِني أعـِدُك أني سأجعلُ دموع فرحك تتطاير من عينيك بقدر ماتسيلُ دموعك حزناً على فراقي. ٫
أنا يا أمي كبــُرتُ, وصلتني رسالة تخبرني أن عيد الأم العربي سيحــُل علينا بعدَ أيــام, فتساءلتُ ولم لا أشارِك بما أشعــُر ؟ لقد خصصتُ لكِ كل عمري عيداً لكِ, ولن يكـُون لي يومٌ محدد, بل سأكتُب لك في عيد الأم وفي غيره.
سأبني بيتي بقربـِك لأستنشقَ رائحتك كل صباح و أجني لكِ الفــُل والكاذي من دارتنا وسيكونُ لي أبناء تربينهم وستكونُ لي زوجة تحبك وتحبينها إن شاء الله و سأصبـِح يوماً ما وزيراً أو ربما سفيراً أو ربما موظفاً يستلمُ الآلاف الكثيرة وربما سأكون موظــّفا لا يؤخذ سوى ألفين كل هذا لن يــُهم بقدر ما أني سأكون دائماً بقربــك أشم رائحتك و أسعى لرضاك و أبقى دائماً طفلـك .
حـــذيفــة مدخـلي
١٠/٤/١٤٣٢هـ