”وظيفتي ليست أن أبقى على إطلاع بالمستجدات، وظيفتي أن أغوص في أعماق الأشياء”
- عالم الحاسوب الشهير: دونالد كنوث
قبل فترة ليست طويلة كتبت تغريدة على تويتر بالنص التالي: “إذا هزموك بسعة الإطلاع، فاهزمهم بعمق المعرفة”. عاتبني بعض الأصدقاء حينها على استخدامي لكلمة “هزموك”، و اعترف أنها لم تكن كلمة موفقة و أعطت انطباع خاطئ عن المعنى الذي كنت أقصده. كنت أقصد من التغريدة أن أشير إلى وجود مدرستين في التعلم، الأولى تهتم بالحصول على معرفة واسعة (Wide Knowledge)، و الثانية تركز على الحصول على معرفة عميقة (Deep Knowledge). الفرق بين المدرستين واضح و بيّن، فالمدرسة الأولى أصحابها تجد لديهم معرفة بعدد كبير من المجالات لكن غالباً تكون مجرد معرفة سطيحة، بينما أصحاب مدرسة المعرفة العميقة لديهم في العادة معلومات كثيرة و تفصيلية عن مجالات قليلة محدد، لكنهم في المقابل يفتقدون المعرفة لما في خارج هذه المجالات. وكان هدفي من التغريدة أن أشير إلى أن المعرفة العميقة هي في رأيي ما نحتاجه وما يجب أن نركز عليه في هذا الزمن .. دعوني أشرح قليلاً …

السؤال عن أي نوع من أنواع المعرفة أفضل: الواسعة أم العميقة، سؤال قديم تمت دراسته من جهات مختلفة (فلسفة، علم إدارة المعرفة، نظريات التعلم …) و الإجابة البديهية المقولبة هي أن الشخص يجب ان يجمع بين الإثنين. إذا كنّا نتحدث عن مجال تخصص محدد فأنا بالتأكيد أتفق مع هذه الإجابة، و أي عاقل سيتفق معي عليها كذلك، فحتى يطلق عليك لقب متخصص لابد ان تكون لديك معرفة عميقة بتخصصك و معرفة واسعة بما يرتبط به من مجالات مختلفة. لكن تبدأ المشكلة عندما تتوسع دائرة سعة الإطلاع لتشمل الغث و السمين، و هنا تكمن مشكلتي.
عالم الحاسوب الشهير Donald Knuth الذي تم وضع كتابه The Art of Programming في مجلة American Scientist من ضمن قائمة أهم 12 كتاب لها علاقة بعلم الفيزياء بجانب كتب أخرى من تأليف علماء مثل آينشتاين و فاينمان و فون-نيومن، قرر في عام 1990 أن يتوقف عن استخدام البريد الإلكتروني، وقال جملة قوية و رائعة : “وظيفتي ليست أن أبقى على إطلاع بالمستجدات، وظيفتي أن أغوص في أعماق الأشياء “ (ترجمة بتصرف) يقصد أن متابعته للبريد الإلكتروني ليكون على إطلاع بآخر الأخبار و الأمور الجديدة ليست هي أساس وظيفته كبحاث علمي، بل وظيفته و مهمته الأساسية هي أن يحصل على المعرفة العميقة في تخصصه. مهم جدا أن نلاحظ أنه عندما قرر أن يتوقف عن متابعة إيميله كان بسبب أنه لايريد أن يتابع مايمكن تسميته بالأخبار القمامية Junk News و ليس الأخبار المتعلقة بتخصصه، لأن الأخيرة الحصول عليها يكون عبر مصادر أخرى و ليس عبر الإيميل (في العادة!). هنا قرر Donald Knuth أن يتوقف عن توسيع دائرة إطلاعه، و يجعلها محصورة فقط على مايرتبط بتخصصه.
الأخبار القمامية Junk News هي أسوأ مايمكن للشخص ان يستهلكه من معلومات. تقرأ هذا النوع من الأخبار فلا تخرج منها إلا بمعلومة بسيطة عن حدث حصل، غالباً هذا الحدث لن يصبح له أي قيمة بعد يوم أو عدة أيام من قراءتك للخبر. و مما يزيد الطين بلّه أنه في كثير من الأحيان هذه الأخبار تأتي مجردة من أي تحليل عميق، مجرد خبر و تفاصيل عن شيء ما وقع في مكان ما. هذا الخبر المجرد سيجبرك على توسيع دائرة إطلاعك و إضافة موضوع جديد ولن يضيف شيء حقيقي لمعرفتك لانه يفتقد لأي تحليل عميق بالرغم من أنك في أمس الحاجة للتركيز و تقليص هذه الدائرة.
إذا كنت ممن يتابعون الأخبار بكثرة و بشكل مكثف، وممن يبدأون يومهم بقراءة الأخبار، و ينهونه بقراءة أخبار أخرى، فقد يكون من الممتع أن تجرب ان تعيش فترة من الزمن، و لتكن أسبوع مثلاً، بعيد عن كل مصادر الأخبار، سواء كانت مواقع أو حسابات في تويتر أو أي قنوات تلفزيونية. ستجد فجأه أن لديك وقت و قدرة عقلية على التركيز على أمور أخرى أهم. و أجزم لك أنك ستكتشف شيء بغاية الأهمية قد يغير نظرتك للاخبار بشكل كامل، ستكتشف ان الخبر المهم يفرض نفسه و يصلك بطريقة أو باخرى. قد يصل متأخر بعض الشيء، لكنه سيصل إليك. ستجد مثلاً أن الخبر المهم ينتشر بشكل واضح في تويتر بدون حاجة لان تتعب و تبحث عنه، و إن لم يصلك عن طريق تويتر فسيصلك عن طريق أصدقائك الذي سيتناقشون حوله. تجربة ثانية قد تكون مفيدة لتغير نظرتك عن الأخبار هي ان تحاول أن تتابع فقط المواقع التي تقدم محتوى يحتوي على تحليل حقيقي و عرض لوجهات نظر مختلفة، فإن كنت مصر على توسيع دائرة إهتماماتك فالأفضل أن تقوم بذلك بشكل صحيح.
توسيع دائرة الإهتمام بشكل كبير و مبالغ فيه ظاهرة ملاحظة في هذا الزمن. لاحظ من حولك، الكثير من الناس يتتحدث عن السياسة و الإقتصاد و التقنية و العلوم و الرياضة و الصحة و كل شيء. وهذا الشخص نفسه الذي يتحدث عن كل هذه المجالات و يتابع الأخبار بشكل عشوائي تجده لم يقرأ في تخصصه ولا حتى كتاب واحد و يشتكي من قلة الوقت.
سعة الإطلاع عندما تكون ممنهجه و منظمه تساعد في تكوين مثقفين و مفكرين، و عمق المعرفة يبني العلماء، أما سعة الإطلاع بعشوائية فأظن بصدق أنها سبب إنتشار السطحية في نقاشاتنا في المجالس و في مجتمعنا عموما.
المصدر
مدونة المبرمج مازن عبدالله مليباري