بسم الله الرحمن الرحيم
الأربعاء .. 18/11/1428
الشرق الأوسط
د.عائض القرني
لن تسلموا من تصنيف الناس ولو كنتم في بروج مشيّدة ، فإذا تكلّمت أو حاضرت أو كتبت أو ألَّفت فسوف يقوم أناس موكّلون بك ويصنِّفونك تماماً ، فإن كنت طالب علم ومدحت آراء الفقهاء ونقلت عن أهل المذاهب فأنت عندهم ( مقلِّد متعصّب جامد ) ، وإن أخذت بالدليل واعتمدت على النص فأنت ( ظاهري جلف ) ، وإن رفعت صوتك وأغلظت في العبارة وأنكرت على بعض المخالفات فأنت ( خارجي ) ، وإن أكثرت من البشارة وذكَّرت الناس بعفو الله وفتحت باب الأمل لهم في التوبة فأنت ( مرجئ ) ، وإن رفقت بأهل الشأن وألنت لهم الحديث فأنت ( عالم سلطان مداهن ) ، وإن كتبت عن الآخر ونقلت عن الغرب فأنت ( ليبرالي ) ، وإن تحدَّثت عن التمدن وخبرات الغير فأنت ( علماني ) ، وإن حاضرت عن الحكم وما والاه فأنت ( إخواني ) ، وإن ذكرت الولاء والبراء فأنت ( سروري ) ، وإن أكثرت من المبشرات وأعرضت عن المنكرات فأنت ( تبليغي ) ، وإن حاضرت عن الخلافة فأنت ( تحريري ) ، وإن دعوت إلى منهج السلف ونبذ الشركيّات والبدع فأنت ( وهّابي ) ، وإن أكثرت من الشمائل والمدائح النبوية فأنت ( صوفي ) ، وعندي كتابات ورسائل تحدثت عني من البعض فذكرت عني وأنا العبد الفقير أنني ( حلولي ) لبيت شعر قلته من قصيدة ، وآخر ذكر أني ( صوفي ) لعبارة قلتها في شريط ، وثالث ذكر أني ( خارجي ) لأن لي قصيدة وأنا طالب بالثانوية بعنوان ( دع الحواشي وأخرج ) ، ومقصودي : أيها العَالِم أخرج للناس معلماً ومربياً ولا تكتفي فقط بتحقيق الحواشي ، فقال الأخ معلّقاً على كلامي : فانظر إليه يا أخي كيف يقول : ( دع الحواشي وأخرج ) ومقصوده أخرج على والي الأمر !! فبالله عليكم هل في كلامي ما يُفهم عند المسلمين أو اليهود أو النصارى أن قصدي أخرج على والي الأمر ، وذكر آخر أنني ( مرجئ ) لأنني أُكثِر من ذكر التوبة والرحمة حتى سهّلت المعاصي للناس ، وأنا لا أنكر أن هذه المذاهب والجماعات والأفكار موجودة ولكن الإنكار على من نصبوا أنفسهم قضاةً على عباد الله يصنِّفونهم على كل كلمة وقصيدة ومحاضرة وكتاب ،
قال الزمخشري عن تصنيف الناس :
* إذا سألوا عن مذهبي لم أبُحْ به - وأكْتُمُه كتمانُهُ لـيَ أَسلَـمُ
* فإن حَنَفياً قُلتُ قالوا: بأنّـني - أُبيحُ الطِّلا وهو الشرابُ المحرّمُ
* وإن مالكيًّا قلتُ قالوا: بأنَّـني - أبيحُ لهم أكْلَ الكلابِ وهمْ هُمُ
* وإن شافعيًّا قلتُ قالـوا: بأنَّـني - أُبيحُ نكاحَ البِنْتِ والبنتُ تَحْرُمُ
* وإن حنبليًّا قلتُ قالـوا: بأنّـني - ثقيلٌ حُلُـوليٌّ بغيضٌ مُجَسِّـمُ
* وإن قلتُ من أهل الحديث وحِزْبِهِ - يقولون تيسُ ليس يَدْرِي ويَفْهمُ
* تَعَجّبتُ من هذا الزمانِ وأهِلـهِ - فما أحدٌ مِنْ أَلسْنِ الناس يَسْلمُ
* أيها الناس أغلقوا محاكم التفتيش في أذهانكم ، وأوقفوا ثكنات التجسس والإستخبارات في عقولكم ، وارفعوا المشانق التي نصبتموها للآخرين ، ويا أيها العلماء والدعاة صونوا ألسنتكم من الخوض في ما نهى الله عنه ، ويا أيها الكتّاب أغمدوا أقلامكم عن التجريح والتشويه والهمز واللمز والغمز ولا تحكموا إلا ببيّنة كالشمس في رابعة النهار ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) ، أما الظنون والأوهام والوساوس فهي تليق بمرضى النفوس ، فقراء القيم ، خاوي الضمائر .