وُجْهَةُ نَظَرٍ !!

دَخَلَت المقهى الكبير بُخطًى هادِئَة , سَحِبتْ كرسيًّا و جَلَسَتْ , طلَبَتْ من النادلِ كوبًا من القهوَة .. مدّ يدَهُ بقهوةٍ تُشْبِهُها كثيرًا .. داكِنَةٌ و مُرّةٌ و فوقَها رغوَة تبدو لذيذةٌ . المقهى متخمٌ بالرجالِ و النساء . النساءُ أصواتُهنَّ خفيضة , لا تكادُ تجاوزُ طاولاتهنَّ ؛ أما الرجال فأصواتُهم أعلى و أكثر صخبًا .
مَرّ بجانِبِها رجلٌ بسيطٌ , نظرَ إليها , دقّق فيها , و رغمَ أميّتِهِ قرأ بلاغَةَ جسَدِها البضّ بطلاقَة . أعجبَهُ الإطنابُ في شعرِها الطويل , و الإيجازُ في حَجْمِ شفتَيْها , و المجازُ في نهديْها الخارجَيْنِ عن النّصَ . و قبْلَ أنْ يخرجَ تمنّى لو أنّه الكنزةُ التي ترتديهِا .
مَرَّ بمحاذاتِها رجلٌ يعملُ في بَيْعِ العدساتِ . نظرَ إليْها , قرأها من الأعلى إلى الأسفل , افتُتِنَ بعيْنيْها النجلاوَيْنِ . و قبلَ أن يمضيَ في سبيلِه ؛ تمنّى لو أنّهُ كوبُ القهوةِ الذي تَسْكبُ في جوفهِ نظراتِها .
مَرّ رجلٌ يتّجِرُ في المجوهراتِ , نظرَ إليْها و أعجَبَتْهُ حُليُّها , بَهرَتْهُ أضواءُ المقهى المنْعكسَةِ عليْها . و قبلَ أن يختفيَ حدّثَ نفسَهُ : " لو أنّني إسوارَةٌ حولَ معصَمِها الجميل "
مَرّ رجلٌ يتأبَطُ كتابًا , نظرَ إليْها , تَفحّصَها فأغراهُ منْظرُها بكلّ تفاصيلِه , و قبلَ أنْ يشقَّ طريقه فكّرَ أنْ يأخذها مِن هذا المقهى الكئيبِ و يَضَعها في إحدى رواياتِهِ المُثيرَة .
مَر رجلٌ يعملُ كمصوّرٍ فوتوغرافيّ , نَظر إليْها , نظرَ منْ جميعِ الزوايا , فتَنَتْهُ الصورة بتفاصيلها : الألوانُ , الزوايَة المُختارَة , الضوءُ السّاقطُ بشغفٍ على وجهها , حدّثَ نفسَه : " هذه فتاةُ غلافٍ بامتيازٍ "
اندلقَ وقتٌ كثيرٌ , و مازالَ المقهى على حالِهِ , و مازالتْ تشربُ قهوتَها الداكنةُ و المُرّةُ , و رجالٌ كثيرونَ و مختلفون يمرّونَ بها , و كالعادَةِ يَنظرونَ إليْها , و ما منْ رجلٍ منْهم ينظرُ إلى الكرسيِّ الفارغِ الذي يُقابِلُها .



هذا أنا
المكانُ مليءٌ بالأرقام , تُطالِعُكَ الأرقامُ من كلِّ الجهاتِ , لا شيءَ هنا غيرَ أرقامٍ صمّاء . تشعرُ بالجفافِ و الحنْقِ . حتى ذلك الموظفُ الصغير المُختبئُ خلفَ زجاجَتِهِ المصقولَة ليسَ بوسعكَ أنْ تتحدّثَ مَعَهُ دونَ أنْ تأخذَ رقمًا منْ مكنَة الأرقامِ , ثمّ عليْكَ أنْ تنْتظرَ معَ أولئك الطيبينَ القابعينَ في مقاعِدهمِ و كأنّهم أوثقوا إليْها . تتأمّلُ المشْهدَ بتفاصيلِه فيقفِزُ سؤالٌ منْ رأسِكَ , ينْتصبُ أمامَك , يضعُ عينيه بعيْنيك , و يصرخُ في وجْهكَ الأبلَه : " منْ أنت ؟ "
لا تُكلّفُ نفسَكَ عناءَ الإجابَة , بيدَ أنّ السؤالَ يُحْدِثُ دُويًّا هائلا في رأسِكَ الصغيرِ . تتناثرُ شظاياه الحادّة فتصيبُ إحداها جدارَ ذاكرتِكَ الهشّ . تُحدثُ الشظيّةُ شرخًا صغيرًا لا يفتأ يكبرُ بفعلِ التداعياتِ التي تَخرجُ مِنْه : ( في البَدءِ كُنْتَ رقمًا . كنْتم مئاتَ الملايينِ , تدافَعتم بقوّة و انطلقتم في شَهوةٍ عارمَة تَبْحثُونَ عَن الخَصْبِ و الحَياةِ , و تخبئون في أحجامكم المتناهية الصِّغر أحلامًا متورّمة . حدَثتْ مَجْزرَةٌ مليونيّة , ماتَ مئاتُ الملايينِ و بقيت أنت , كُنتَ الرقم الوحيد النّاجي منْ بينِ رُكامِ الأرقامِ الهالكة . أردتَ أنْ تخرجَ إلى الحياةِ لتشعرَ بالوجودِ ؛ غَيْرَ أنّكَ اصطدمْتَ بقانونٍ يقضيْ أنْ تمُرّ بتِسعَةِ أرقامٍ , أو سبعَةٍ على أقلّ تقدير .
قفزتَ منْ رقمٍ إلى آخر حتى انزلَقتَ فالتقَفتْكَ المُمرّضةُ , و أحاطَتْ مِعصَمكَ الصّغيرَ برَقمٍ عريضٍ يُميّزكَ عَن المواليدِ الآخرينَ . في قِسْمِ المواليدِ كنْتم تشابَهونَ حدّ التطابُقِ , و لمْ تحملوا بعدُ أسماءً تُميّزكم .
في البيتِ صُرتَ رقمَ أربعةٍ بينَ إخوتكَ . و في دائِرَةِ الأحوالِ المدنيّة وضعوا مُقابلَ اسمكَ رقمًا أطول مِنْهُ , تُعْرَفُ بِه بقيّةَ حياتِك , بوسْعكَ أنْ تُغيّر اسمك ؛ لكنْ ما منْ طريقَةٍ لتغييرِ رقمكَ إنْ لمْ يُعحبكَ . و لا شيءَ يَتمُّ في حياتِك و بعدَ مماتكَ بغيْرِ هذا الرقم . أيضًا أضافوكَ كرقمٍ جديدٍ إلى عددِ السكّان الذي لا يحتملُ مزيدًا من الأرقام .
دخلتَ المدرسَة فأضافوكَ كرقمٍ آخر . كبُرتَ و كبرتْ معك أرقامُك : ( عمركَ , طولكَ , وزنك .. ) و كلّما ذهبْتَ إلى مكانٍ التصقتْ بكَ الأرقام . توتّرتْ علاقتكَ بها , و صرتَ تسمعُ : " أنتَ صفرٌ إلى اليسار " كلّما أرادَ أحدُهم أنْ يحطّ منْ قيمتك .
أخطأ الموظف فوضعَ اسمكَ مقابلَ رقمِ أبيك المتوفى , و عندما أخبركَ أنّ رقمكَ يقول أنّك ميّتٌ لم تتعجبْ كثيرًا , تشعرُ بذلك .. فقط طلبتَ بعض الإيضاح ... أعلنَت الصحفُ عنْ رقمٍ شاغرٍ لإحدى الوظائف , تقدّمتَ فلمْ يقبل الرقمُ مواصفاتك . و كنتَ إذا استغرقتَ في النومِ تحلمُ بأرقامٍ صغيرَة تصعدُ سريرَك الخشبيّ و تأكلُ أطرافَه و أطرافَك ) ... ثمّة شاشةٌ رقميّةٌ مُعلّقةٌ على الحائط , تضيءُ الشاشَةُ برقمٍ جديدٍ ؛ فيخرجكَ الجالسُ إلى جواركَ من تداعياتِ ذاكرتكَ بلكزةٍ خفيفة , يُشيرُ إلى الرقمِ في الشاشة و يقول : " هذا أنت " تنظرُ إلى الرقمِ الذي تحملُه في ورقةٍ صغيرَةٍ , ثمّ تقول دونما فرحٍ : " نعم , هذا أنا "

قصص قصيرة جدا :
منطق
وقفَ على نافذتي فسألته :
كيفَ قطعتَ تلك الأميال بجناحٍ أبيض و آخرَ أسود ؟
رفرفَ بهما و طار .
حلّقَ عاليا حتى لم أعدْ أميّز بين اللونين !

بيْت
كلّ بيوتِ الحيّ يصدرُ
منْها صراخٌ و أنين , إلا هذا البيت
غارقٌ في بحرِ سكونِهِ
دخلتُه خلسةً فوجدتهم يصرخون
و رأيته يجلسُ على كرسيّه
و تتدلّى من يده حبالهم الصوتيّة !!


أثَر
امتدّتْ أغصانُها إلى داره
فتناولَ فأسًا و اقتلعها , ثم نظر خلفه
فإذا بالظلّ يبقى و يَمتدّ .

ما الذي تنساهُ عنْدَ الرحيلِ ؟
أتخمنا بطونَ الحقائبِ حتى كادت تتقيأ
أطلّ جدي وقال : " دائمًا ثمّة شيءٌ تنساهُ و لا تستطيعُ أخذهُ "
أعدنا البحثَ و لم نجدْ شيئًا , و لمّا ركبنا السيارَة
سألناهُ , فأشارَ بيدِه إلى آثارِ خطواتنا في باحَةِ البيت !


ما وراءَ القيودِ !!
فَكَّ قيودَه و أغلالَهُ
هربَ منْ أسْرهِ .. قطعَ مسافَةً ثمّ
تحسّسَ أقدامَه فلمْ يجدْها ؛ نظر إلى الخلف
فلم يرَ خطواتِه , و رأى أقدامَه
بجانبِ القيودِ و الأغلالِ !!

اثنان !!
ألقى المحاضَرَة فاصطخبَت القاعَة بالتصفيقِ الحار
و عندما عاد إلى بيتهِ , أغلقَ الأبواب و النوافذ
ثمّ جلسَ أمام المرآة و ألقى المحاضرة بنسختها الأصلية .