~~~ الفردوس المفقود ~~~

قرطبة مدينة العلم والعلماء

ها نحن على أبواب قرطبة Gordoba؛ قرطبة زينة الدنيا وجوهرة العالم - كما سماها الأوربيون- التي اشتهر سناؤها وبهر ضياؤها في الشرق والغرب، منبع العلم والأعلام ، وهي أول مدينة في العالم تقضي على الأمية، إنها مدينة تحكي قصة شموخ الحضارة الإسلامية يوم أن كانت مدينة لندن مجموعة أكواخ على نهر التايمز!.

قرطبة صانعة التاريخ والمعرفة، أزهى حواضر أوربا كلها، بلغت من الازدهار والرقي في العلوم منزلة كبيرة، فمكتبتها كانت تضم أربع مئة ألف كتاب، حين كانت أكبر المكتبات في شمال أوربا ، وهي مكتبة دير القديس سانت غالن St.Gallen في سويسرا كان يوجد بها ست مئة كتاب، والمسافة بين إشبيلية وقرطبة مئة وأربعون كيلو مترا.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

هذا الازدهار العلمي والثقافي دفع ملك انجلترا وفرنسا والسويد والنرويج إلى أن يبعث مجموعة من الطالبات على رأسهن ابنة أخيه، وكتب للخليفة في قرطبة:

( صاحب العظمة هشام الجليل المقام، بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفصائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يجتاحها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الاميرة " دوبانت" على رأس بعثة بنات الإنجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي يستوفون على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخاص)[1]. من خادمكم جورج

وكان بعض ملوك أوربا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليعالجوا فيها، وتمنى جوستاف لوبون لو أن العرب المسلمين وصلوا إلى فرنسا لتغدو باريس مثل قرطبة مركزا للحضارة والعلم، حيث كان رجل الشارع فيها يقرأ ويكتب، في الوقت الذي كان فيه ملوك أوربا لا يعرفون كتابة أسمائهم، ويبصمون بأختامهم.

توجد قرطبة أمانة عظيمة؛ أمانة مسجدها الجامع ، وهو أول جامعة في أوربا ، وشاهد على قمة من قمم العلم والرفعة والعمارة، وقد خاطبه الشاعر والمفكر الإسلامي محمد إقبال لما زار الأندلس في مطلع القرن العشرين في قصيدة رائعة :

يامحراب أرباب الفن ، ياجوهرة الدين المبين
لقد جعلت تراب الأندلس مقدسا كتراب مكة

آه هؤلاء العرب الأشاوس، ذوو الأخلاق العظيمة والحكمة الساطعة
لقد مدنت نظرتهم الشرق والغرب
وفي ظلام أوربا كانت حكمتهم هي نور الطريق

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

وقد وصفها الشاعر الأندلسي ( لوركاFederico Garcia Lorca 1898- 1936 )وهو من أهم أدباء القرن العشرين في صورة شعرية :

قرطبة..
بعيدة ووحيدة..
إنني أسير إليها على بغلة سوداء، يطالعني من بعيد قمر كبير
وتحتي خرج ملئ بالزيتون
ومع أني أعرف الطريق كلها
فإنني لن أصل أبدا إلى قرطبة
آه ما أطول هذا الطريق..!
يالهذه البغلة الباسلة..
إن الموت ينتظرني
قبل أن أصل إلى قرطبة
قرطبة ...تلك البعيدة الوحيدة

يشابه مسجد قرطبة المسجد الأموي في دمشق، وقد حرف الكاثوليك اسمه فأسموه: ( لامثكيتا كاتيدارال ) كما شوهوا مضمونه؛ فحولوا مئذنته إلى برج للنواقيس، وأقاموا داخله كاتدرائية تمتثل لأمر الفاتيكان!.

ورحم الله ابن خفاجة حين قال:

عاثت بساحتك الظبى يادار ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار

هذا المسجد المهيب، عندما تدخله تراه وكأنه يرد عليك السلام وينظر إليك في عتب وعلى وجنتي محرابه تنحدر دموع الحر الكتوم، بل يصيبك حزن عميق على أكبر منارة علمية كانت تضيء العالم، فإذا بها تتحول إلى ظلام مقفر.أليس الخشوع البابوي لا يتحقق إلا في الظلام؟



بل وكأن محرابه يخاطبك: لماذا تركتموني غريبا وحيدا تعبث بي يد الظلم والظلام؟

يامحراب العز:

إنك تحمل على عاتقك عبء حضارة عظيمة، حضارة لم تصرع الثيران بل صرعت الظلام في عقر داره.

يامسجدنا الغالي:

رغم القيود والسدود والأغلال ، ورغم الأجراس والظلام والأصنام، ورغم أنك بعيد ووحيد ستبقى تخفق في ضميرنا، رمزا من رموز الضياء، وغرة في جبين الدهر لا تمحوها صروف الزمن ولا تقلب الأيام.

لأجلك سأصلي يامحراب العلم

على حين غفلة من الشرطة تمكنتُ من أداء تحية المسجد في جامع قرطبة وفاء لهذا المكان الجليل، فلازال الفاتيكان مصرا على "تسامحه" بمنع المسلمين من الصلاة في مسجد قرطبة! ألم يتعلم الفاتيكان من نبي الرحمة محمدا عليه الصلاة والسلام عندما سمح لنصارى نجران بالصلاة في مسجده، وهل نسى الفاتيكان فضل الأندلس ومدينة قرطبة عندما جاءها البابا سلفستر الثاني [3] يطلب العلم من المسلمين ؟

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ما إن دخلتُ إلى المسجد حتى شعرت بضيق شديد؛ ظلام وتماثيل شاحبة، رمقت داخل المسجد تمثالا للروماني سان أوغسطين ت 430 م، صاحب مقولة: أنا مؤمن لأن ذلك لا يتفق مع العقل، وله عدة كتب مؤثرة في الفكر المسيحي من أهمها الاعترافات).

ثم رأيتُ مؤسس جماعة الفرنشسكان سان فرنشسكو [4] وهو يمثل رمز السلام في الثقافة الأوربية الحديثة والمعاصرة، وكان قد ذهب إلى الملك الكامل الأيوبي في دمياط يدعوه إلى النصرانية، فما كان من الملك الكامل إلا أن وضع له عند استقباله فرش مزخرفة بالصليب لكي يطأ الصليب بقدميه وعندما رأي سان فرنشسكو الصليب حاول تجنبه.

وأمام مسجد قرطبة تجد تمثال الفقية الطبيب ابن رشد ، وهو حامل كتابه تحت نور الشمس، وكما قيل إن الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتمايز الأشياء.



في حي قريب من مسجد قرطبة عقد معرض لأدوات وصور التعذيب التي كانت تقيمها محاكم التفتيش، وكان أغلب صور المعرض لضحايا من النساء؛ أشكال من التعذيب بشعة يتنزة القلم عن وصفها. وستبقى محاكم التفتيش وصمة عار على جبين البابوية.

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ماذا فعلت البابوية طوال قرون من الزمن في المجتمع الأوربي؟ وما ذا صنعت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من مجتمع داحس والغبراء؟

بعد قرن واحد من فجرا لدعوة الإسلامية وقف المسلمون على أسوار باريس، وصاروا قبلة العلوم والمعارف، وكما يقول جوستاف لوبون فإن المسلمين أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.

في قرطبة تتذكر الإمام زياد بن عبدالرحمن القرطبي ت 193هـ الذي سمع من مالك الموطأ والإمام يحيى بن يحيى ت 234 هـ عالم الأندلس في عصره الذي سمع الموطأ من الإمام مالك أيضا، وعاد إلى الأندلس، فانتهت إليه رئاسة العلم ،وبسببه دخل المذهب المالكي إلى الأندلس، إذ كان في زمن بني أمية الذين يريدون تغييرمذهب الدولة العباسية، فكان يحيى مستشارهم في تعيين القضاة، ولا يشير عليهم إلا بمن كان مالكيا، فانتشر المذهب في الأندلس، كما كان الأمر في العراق مع أبي يوسف، فالمذهبان الحنفي والمالكي انتشرا بوازع السلطان، وكان مذهب الأوزاعي هوالسائد في الأندلس .

وتعرف قرطبة طبيبها الجراح أبوالقاسم الزهراوي ت 427هـ،، أول من استعمل ربط الشريان لمنع النزيف، والرجل الذي أهدى الإنسانية عمليات استخراج الحصى من المثانة والكلى، وسمي أحد شوارع قرطبة باسمه: Albucasis، والاسم كتب كما ورد مصحفا في النصوص اللاتينية.


نهر الوادي الكبير

الذي اسرف الشعراء في وصفه وفي وصف لياليه

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


اسوار وقصر أشبيليه قصر المعتمد واول عاصمه للمسلمين في الأندلس استوطنها عبدالعزيز بن موسى بن نصير وقتل فيها

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


م /ن