براعة الاستهلال في النثر

انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظما وأما براعات النثر فإنها مثلها إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشىء وإلا فليست ببراعة استهلال
وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر بقول الصاحب عمرو بن مسعدة كاتب المأمون فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلا وجهه كوجه الإنسان فكتب الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام
ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر إلى الأمير سنقر الفارقاني جوابا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان واستهل بقوله ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة )
الله


أكبر إن من البلاغة لسحرا والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر ولإهلال كاتب المأمون في هذا الاستهلال بزاهر وهذا المثال الشريف ليس له مثال منه صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد وأتت على كل جبار عنيد وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء ( وما ربك بظلام للعبيد )
وبراعة الشيخ جمال الدين بن عبد الرزاق الأصفهاني في رسالة القوس تجاري براعة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في هذه الحلبة وتساويها في علو هذه الرتبة فإنه أتى فيها بالعجائب وأصاب غرض البلاغة بسهم صائب واستهلها بعد البسملة بقوله تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فاتبع سببا ) منها شيطان تطلع شمس النصرة من بين قرنيه مارد لا يصلح إلا بتعريك أذنيه صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
وأما براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة في خطبة كتابه المسمى بخبز الشعير فإنها خاص الخاص ولا بد من مقدمة تكون هي النتيجة الموجبة لتسمية هذا الكتاب بخبز الشعير فإنه مأكول مذموم وما ذاك إلا إنه كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه ويسكنه بيتا من أبياته العامرة بالمحاسن فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه ولا يغير فيه غير البحر وربما عام به في بحر طويل يفتقر إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم فلم يسع الشيخ جمال الدين إلا أنه جمعه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين واستهل خطبته بقوله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) ورتب كتابه المذكور على قوله قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين قلت
( ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك )
( قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكي )

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( غار على سرح الكرى عندما رمى الكراكي ... غزال للبدور يحاكي )
( فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراكي )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين قلت
( أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب )
( صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال من البحر نفسه
( قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب )
( سكنت في قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
فأخذه الصلاح وقال
( وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه )
( له عارض لما رأى الطرف ناعسا ... أتى خده سرا فدب عليه )
وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين أنه قال
( بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... ملي الحسن خالي الوجنتين )
( له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين )
فأخذه الصلاح وقال
( بروحي خده المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبة )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وحبه )

فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال لا إله إلا الله الشيخ صلاح الدين سرق كما يقال من الحبتين حبة
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته ... وكان مني محل السمع والبصر )
( قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشا على حجر )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( ما زلت أشكو حين وفر لي الضنا ... فسما وأسلمني إلى البلوى وفر )
( حتى توفر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشا في حجر )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال قاتلتي ألذ وأزين )
( فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن )
فأخذه صلاح الدين مع البحر بل أخذ الكل مع القافية وقال
( بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين )
( كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين وأجاد إلى الغاية
( فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه )
( لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( تشرط من أحب فذبت وجدا ... فقال وقد رأى جزعي عليه )
( عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه )
وما أظن الشيخ صلاح الدين غفر الله له لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين ونظم بعده هذين البيتين كان في حيز الاعتدال وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من

انجذاب الدم إلى الخد وليته في براعة استهلاله بقول الله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) قال بعدها اللهم ومن دخل بيتي كافرا بفوائدي المنعمة وبيت شعري سارقا من ألفاظه ومعانيه المحكمة فأخجله في سره وعلانيته وعاقبه على قوله ونيته
ومنها بلغني أن بعض أدباء عصرنا ممن منحته ودي وأنفقت على ذهنه الطالب ما عندي وأقمته وهو لا يدري الوزن مقام من زكاة نقدي وأودعته ذخائر فكري فأنفقها وأعرته أوراقي العتيقة فلا والله ما ردها ولا أعتقها بل إنه غير الثناء بالهجاء والولاء بالجفاء ونسبني إلى سرقة بيوت الأشعار مع الغناء عنها والغنى فتغاضيت وقلت هماز مشاء بنميم وغصة صديق أتجرعها ولو كانت من حميم وأخليت من حديثه باب فمي ومجلس صدري وصرفت ذكره عن فكري
ولكن وقفت له على تصانيف وضعها في علم الأدب والعلم عند الله تعالى ووشحها بشعره وشعري المغصوب المنهوب يقول يا صاحبي ألا لا
وما يتوضح من جيد تلك الأشعار لمعة إلا ومن لفظي مشكاتها ولا تتضوع زهرة إلا ومني في الحقيقة نباتها فضحكت والله من ذهنه الذاهل وذكرت على زعمه قول القائل
( وفتى يقول الشعر إلا أنه ... فيما علمنا يسرق المسروقا )
وعجب له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررا وقد أوردت الآن في هذا الكتاب قدرا كافيا ووزنا من الشعر وافيا وسميته خبز الشعير المأكول المذموم وعرضته على معدلة مولانا ليعلم أينا مع خليله مظلوم
ولولا الإطالة لأوردت جميع أبيات الشيخ جمال الدين التي دخلها الشيخ صلاح الدين بغير طريق ليرتدع القاصر عن التطاول إلى معاني الغير
ومن البراعات التي يستهل بها في هذا الأفق الذي مرآة سمائه صقيلة براعة المقر المخدومي القضائي الفخري عبد الرحمن بن مكانس مالك أزمة البلاغة وملك المتأخرين نظما ونثرا في رسالة كتبها إلى المقر المرحومي القضائي الزيني أبي بكر

ابن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة وبقية الفضلاء الذين فضلوا بالطريق الفاضلية بسبب عبد الله القيرواني الضرير
فإني نقلت من خط المشار إليه ما صورته ورد علينا شخص من القيروان ضرير يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي من المعاني فتردد إلي في مجالس متفرقة ثم بلغني بعد ذلك أنه وشى إلى صاحبي الشيخ زين الدين بن العجمي بأني اهتضمت من جانبه وانتقصته وغضضت منه بالنسبة إلىالأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرا فتأذى بسبب ذلك وتأذيت من كذب الناقل فكتبت إليه رقعة براعة استهلالها ( ليس على الأعمى حرج )
أقول إنه يستغنى بهذه البراعة عن الرسالة
منها وبلغ المملوك أنه رماه بعض الأصحاب برمية مثل هذه فأصمى وتردد إليه مرة أخرى ف ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى )
ولقد خسرت صفقته إذ المملوك ما برح مخلصا لمولانا في ولائه ومبايعا له على سلطنة البلاغة وأجل من تشرف بحمل لوائه
ومولانا بحمد الله أولى من استفتى قلبه واستدل على صفاء صدق محبته بشواهد المحبة والمسؤول من صدقاته أمران أحدهما الجواب فإن يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة والآخر رد كل فاسق عن هذا الباب العالي فإن أبا بكر أولى من يصلب في الردة
انتهى كلام القاضي فخر الدين
ولقد كشف الشيخ جمال الدين بن نباتة عن هذا الوجه القناع وأظهر من بهجته في رسالة السيف والقلم ما ليس لمطالع البدور عليه اطلاع فإن الرسالة مبنية على المفاخرة بينهما ولما انتصب القلم لمفاخرة السيف كانت براعته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) واستهل بعدها بقوله الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم
وبراعة استهلال السيف قوله تعالى ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) واستهل بعده بقوله الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وما أظن أن أحدا من المتقدمين نسج على هذا المنوال ولا نفث في عقد أقلامهم مثل هذا السحر الحلال

وممن طلع من العصريين في هذا الأفق الساطع فأبدر ورقي ببلاغته أعواد هذا المنبر القاضي ناصر الدين بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية فإنه اتفق له بحماة محنة كان لطف الله تعالى متكفلا له بالسلامة منها ولم يضرم نارها إلا من غذي بلبان نعمته قديما وحديثا فالحمد لله الذي أسعف الإسلام والمسلمين بنجاته وأمتع العلم الشريف والرياسة بطول حياته ولما هاجر من حماة المحروسة إلى دمشق المحروسة كان إذ ذاك مولانا السلطان الملك المؤيد كافلها ففوض إليه خطابة الجامع الأموي فلم يبق أحد من أعيان دمشق حتى حضر في تلك الجمعة لأجل سماع الخطبة فكانت براعة خطبته الحمد لله الذي أيد محمدا بهجرته ونقله من أحب البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته فعلت بالجامع الأموي أصوات ترنم حركت أعواد المنبر طربا وكاد النسر أن يصفق لها بجناحيه عجبا
وما ألطف براعة الشيخ العلامة نور الدين أبي الثناء محمود الشافعي الناظر في الحكم العزيز بحماة المحروسة والشهير بخطيب الدهشة بحماة المحروسة في كتاب أدعيته المسمى بدواء المصاب في الدعاء المجاب وهي الحمد لله سامع الدعاء ودافع البلاء
وفيها البناء والتأسيس فإنه أشار بسامع الدعاء إلى الدعاء المجاب وبدافع البلاء إلى دواء المصاب
وأما براعة خطيب الخطباء أبي يحيى عبد الرحيم بن نباتة الفارقي فإنها شغلت أفكاري مدة ولم يسعني غير السكوت والإحجام عنها فإنه استهلها في خطبة وفاة النبي بقوله الحمد لله المنتقم ممن خالفه المهلك من آسفه
ولقد اعتذر عنها جماعة من أكابر العلماء
وأورد الشيخ سري الدين بن هانئ في شرحه الذي كتبه على ديوان الخطب على هذه البراعة عذرا لأبي البقاء أرجو أن تهب عليه نسمات القبول
وما أحشم ما استهل الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في خطبة وفاة النبي الحمد لله الذي استأثر بالبقاء وحق له أن يستأثر وحكم بالفناء على سكان هذا الفناء فأذعنوا لحكمه القاهر
وأما خطبة الشيخ صفي الدين في صدر شرح بديعيته فإن استهلالها نير ولكن فيه نظر وبعض مباينة عما نحن فيه فإنه قال الحمد لله الذي حلل لنا سحر البيان

وكتابه مبني على البديع
ولهذا استهليت خطبة شرح بديعيتي بقولي الحمد لله البديع الرفيع
ولما جمعت ديواني استهليت خطبتي بقولي الحمد لله الذي لا يحصر مجموع فضله ديوان
وكان قد رسم لي أن أنشىء صداقا للملك الناصر وأنا إذ ذاك بدمشق وقد حل ركابه الشريف بها على بنت المرحوم الشريف السيفي كشبغا الظاهر الحموي فاستهليت بقولي الحمد لله الذي أيد السنة الشريفة بقوة وناصر
وتمثلت بعد هذا التاريخ بالمواقف الشريفة الإمامية الخليفية المستعينية العباسية زاد الله شرفها تعظيما فبرزت إلي أوامرها المطاعة أن أنشىء عهدا بكفالة السلطنة بالبلاد الهندية للسلطان العادل مظفر شاه شمس الدنيا والدين صاحب دهلي والفتوحات الهندية فاستهليت براعته بقولي الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به
وقلت بعد الاستهلال وثبت أوتاده ليفوز من تمسك من غير فاصلة بسببه وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا فأفرغ على أطراف الأرض حلل الخلافة الشريفة وعلم أن في خلفها الزاهر زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل ( إني جاعل في الأرض خليفة ) واختارها من بيت براعة استهلاله من أول بيت وضع للناس وسبقت إرادته وله الحمد ان تكون هذه النهاية الشريفة من سقاية بني العباس وذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة
ومما أنشأته في الديار المصرية وقد استقريت منشىء ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تقليد مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي عظم الله شأنه بصحابة ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية بتاريخ شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة واستهليته بقولي الحمد لله الذي أودع محمدا سره وقلت بعد الاستهلال وجعله ناصر دينه فحل به عقد الشرك وشد أزره وأرسله لينشئ مصالح الأمة فهذبنا بترسلاته والله أعلم حيث يجعل رسالاته وبين ديوان الإنشاء الشريف بصاحب من بيت ظهر التمييز بكتابته وأيد الإسلام والمسلمين بملك مؤيد تمسك بمحمد وصحابته
وأنشأت بعد هذا التاريخ توقيعا لرئيس الطب بالديار المصرية فكانت براعته الحمد لله الحكيم اللطيف
وبراعة الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم في غاية الحسن

فإنه استهلها بقوله الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب
والكتاب مبني على شيء من علم الأدب
وأما البراعات التي يحلو تقبيلها بوجنات الطروس فمنها براعة الشيخ جمال الدين ابن نباتة من رسالة كتبها إلى القاضي علاء الدين الحسني واستهلها بقوله يقبل الأرض العلية على السحاب نسبا
وقال بعد الاستهلال الموفية على حصباء الأنجم حسبا
هذا الأدب إن أطنبت في وصفه فهو فوق الوصف
وكتب إليه الشيخ برهان الدين القيراطي من القاهرة المحروسة إلى دمشق المحروسة رسالة بليغة واستهلها بقوله يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها
وقال بعد البراعة وحرس الله ذاتها وعمر معاني الحسن أبياتها
ومن أظرف ما وقع من البراعات المتوشحة برداء التبكيت براعة القاضي فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج فإنه كان له صديق منهم يعبده فكتب إليه رسالة يداعبه فيها واستهلها بقوله يقبل اليد الشهابية كثر الله عبيدها
وقال بعد البراعة وضاعف خدمها وأضعف حسودها
وقد خطر لي أن أوردها بكمالها لوجازتها وغرابة أسلوبها فإنه قال بعد يقبل الأرض الخ وينهي بعد ولاء يمتد ودعاء يستد وثناء كأنه عنبر أو كافور راوند إن مولانا توجه والأعضاء خلفه سائره وكل عين لغيبته ساهره ولا يخفى عليه شوق العليل إلى الشفاء والظمآن إلى صيب الماء والغريب إلى بلده والمحصور إلى سعة مسلكه ومقعده فمولانا يطوي هذه الشقة ويقصر هذه المدة ويدع أحد غلمانه يسد مسده فالمملوك قلق لسماع أخبار التشويش في البلاد وتطرق أهل الجرائم والفساد فمولانا يرسم لغلمانه أن يشمروا في خدمته ذيلا ويسهروا عليه بالنوبة لمن يطرق ليلا والله المسؤول أن تكون هذه السفرة معجلة ويخص فيها بالتبرك مخرجه ومدخله ويبلغه من فضله مزيدا ويجعل يومه عليه مباركا وليله عليه سعيدا
وكتب المقر المخدومي فضل الله بن مكانس مجد الأدب الذي ظهر من بيته

فجره ورضيع لبانه الذي ما سقانا منه ذرة إلا قلنا لله دره إلى والده المقر المرحومي الفخري من القاهرة إلى حلب وهو صحبة الركاب الشريف الظاهري يشكو إليه رمدا حصل له بعده وكان مبدأ الرسالة قوله
( ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل )
وقال بعد الاستهلال لا استهلت لمولانا دموع ولا جفا جفنه مدى الليالي هجوع
منها يطالع العلوم الكريمة بما قاساه طرف المملوك من الرمد وما حصل عليه من الكمد
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهي )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها )
فلو رآه وقد أخذت عيناه من العناصر الثلاثة بنصيب وعوضها الهواء عن التراب بمضاعفة الماء واللهيب لرأى من نارها ما يفحم القلوب ومن دمعها ما هو البلاء المصبوب واستمر انهمالها حتى أنشدها المتوجع قارنها الدمع فبئس القرين
وطالت مدة رمده حتى لقد أتى على الإنسان حين وتزايد خوف المملوك على مقلتيه وشحه بكريمتيه ففصد في الذراعين وكاد أن يصير لولا أن من الله تعالى عليه أثرا بعد عين
وكتب إلى المقر المخدومي المشار إليه سيدنا الإمام العلامة الذي صلت جماعة أهل العصر خلف إمامته وملك قياد البلاغة ببراعته وعبارته بدر الدين رحلة الطالبين أبو عبد الله محمد بن الدماميني المخزومي المالكي جوابا عن حل لغز في ورد أرسله إليه فاستهله بقوله يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى الصدور وروده وقال بعد الاستهلال واللغز الذي نسي بوروده منه بان الحمى وزروده منه فاستحلى المملوك منه بالتحريف ورده وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده فرده ذل التقصير عاريا عن ملابس عزه وأنشد قول ابن قلاقس وهو يقلى بنار عجزه
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )

فظهر من طريق سعده نصره وعلم أن هذا الورد لا يحسن من غير تلك الحضرة وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها بيدي الراحة المخدومية بهجة ونضرة
ومنه وتمشى نظر المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحديقة فرأى كل وردة وأخت الوجنات الحمر فتحير أوردة هي أم شقيقة وعلمت أن الفكر القاصر لا يجاري من بديهته من بحار الفضل رويه وأن الخاطر الذي هو على ضعف من رعايا الأدب لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية
منه وتمتعت من ورده الوارد بالمشموم ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم فاستقطر البين ماء الورد من حدقي
وكتبت إليه من القاهرة المحروسة في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة عند دخولي إليها في البحر هاربا من طرابلس الشام وقد عضت علي أنياب الحرب بثغرها رسالة مشتملة على حكاية الحال وريت في براعتها بمصنفين له أحدهما الفواكه البدرية الذي جمعه من ثمار أدبه والثاني نزول الغيث الذي نكت فيه على الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم للشيخ صلاح الدين الصفدي واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي سقى دوحها بنزول الغيث وأثمر بالفواكة البدرية
وقلت بعد الاستهلال وطلع بدر كمالها من الغرب فسلمنا لمعجزاته المحمدية وجرى لسان البلاغة في ثغرها فسما على العقد بنظمه المستجاد وأنشد لا فض الله فاه وقد ابتسم عن محاسنه التي لم يخلق مثلها في البلاد
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام )
فأكرم به من مورد فضل ما برح منهله العذب كثير الزحام ومدينة علم تشرفت بالجناب المحمدي فعلى ساكنها السلام ومجلس حكم ما ثبت لمدعي الباطل به حجة وعرفات أدب إن وقفت بها وقفة صرت على الحقيقة ابن حجة وأفق معان بالغ في سمو بدر فلم يقنع بما دون النجوم وميدان عربية يجول فيه فرسان العربية من بني مخزوم ومنها أورى بدخوله إلى دمشق ومطارحته للجماعة وتالله ما لفرسان الشقر أو البلق في هذا الميدان مجال وإذا عرفوا ما حصل للفارس المخزومي عندهم من الفتح كفى الله المؤمنين القتال وينهي بعد أدعية ما برح المملوك منتصبا لرفعها وتعريدا ثنية ما

لسجع المطوق في الأوراق النباتية مثل سجعها وأشواقا برحت بالمملوك ولكن تمسك في مصر بالآثار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار )
وهذه الرسالة لكونها نظمت في طويل البحر ومديده يفتقر إلى سرد غالبها لتعلقها بحكاية الحال وينهي وصول المملوك إلى مصر مخيما بكنانتها وهو بسهم البين مصاب مذعور لما عاينه من المصارع عند مقاتل الفرسان في منازل الأحباب مكلما من ثغر طرابلس الشام بألسنة الرماح محمولا على جناح غراب وقد حكم عليه البين أن لا يبرح سفره على جناح
( وكان في البين ما كفاني ... فكيف بالبين والغراب )
منها يا مولانا وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر وأحدث عنه ولا حرج فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج وشاهدت منه سلطانا جائرا يأخذ كل سفينة غصبا ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى فتحققت أن رأي من جاء يسعى في الفلك غير صائب واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله وكم قلت من شدة الظمأ يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة
( وهل أباكر بحر النيل منشرحا ... وأشرب الحلو من أكواب ملاح )
بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف وحملنا على نعش الغراب وقامت واوات دوائره مقام مع فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب وقارن العبد فيه سوداء استرقت مواليها وهي جارية وغشيهم منها في اليم ما غشيهم فهل أتاك حديث الغاشية واقعها الريح فحملت بنا ودخلها الماء فجاءها المخاض وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض وتوشحت بالسواد في هذا المأتم وسارت على البحر وهي مثل وكم سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل برج

مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عد من المصبرين في التابوت تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب لأن بياضها سواد وتمشي مع الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود وتتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج وكم وجلت القلوب لما صار الأهداب مجاذيفها علىمقلة البحر اختلاج وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
وأما البراعة التي لخطبة كتابي المسمى بمجرئ السوابق في وصف الخيول المسومة فإنها أحرزت قصبات السبق وهي الحمد لله الذي يقف عند سابق فضله كل جواد ويقصر في حلبة هذا الكرم الذي ليس له غاية في بديع الاستطراد فمن ألهمه الحزم وأرشده إلى حد المعرفة حاز قصبات السبق ولا نقول كاد نحمده على أن جعل لنا الخير معقودا بنواصي الخيل ونشكره شكرا نعلو به على أشهب الصبح ونمتطي أدهم الليل ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن نكون منها في ميادين الرحمة من السابقين ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله قائد العز المحجلين
وقد آن أن نقطع طول هذا البحث برسالة السكين فإن استهلالها يسن ما كل
من الذوق ويبرزه من قراب الشك إلى القطع باليقين وما ذاك إلا أنه لما انفرد كمال الدين عبد الرزاق الأصفهاني برسالة القوس واستوفى جميع المحاسن وجاء الشيخ جمال الدين بن نباتة برسالة السيف والقلم وأظهر فيها معجزات الأدب أردت أن أعززهما من اختراع رسالة السكين بثالث واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي قامت حدود مكارمها وقطعت عنا مكروه الفاقة بمسنون عزائمها
منها وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفا وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفا وتالله ما غابت إلا وبلغ الأقلام من تقشيرها إلى الحفى
منها ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب وذل بعدما خضعت له الرؤوس والرقاب كم أيقظت طرف القلم بعدما خط وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط وكم وجد الصاحب بها في المضايق نفعا وحكم بحسن صحبتها قطعا من أجل أنها تدخل في مضايق ليس للسيف قط فيها مدخل وكلما تفعله توجزه والرمح في تعقيده مطول تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس وكم لها من عجائب تركت السيف في بحر عمدة كالغريق ولو سمع بها من قبل ضربه ما حمل التطريق
انتهى ما أوردته من براعة الاستهلال نثرا ونظما ومن لم ير بهجة ما أبرزته للمتأخرين فهو في هذه أعمى