لا زلنا نقرأ رواية " حلم رجل مضحك " ...


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


أذكُرُ أنني لمحتُ في ذلك الظلام الشديد نجماً، فسألتُ رغماً عني: "أهذا نجم سيروس؟" ذلك أنني ما أحببتُ أن أتوجَهَ إلى من يحملني بأي سؤال، فأجابني قائلاً:‏

"لا، إنهُ النجمُ نفسه الذي رأيتَهُ بين السحاب حين كنتَ عائداً إلى منزلك، كنتُ أعلم أن لهذا الكائن هيئة إنسان، ومن غريب الأمر أنني ما أحببتُ هذا الكائن، بل شعرتُ تجاهَهُ بكرهٍ شديد. لقد انتظرتُ العدمَ المطلق ولأجل ذلك أطلقتُ رصاصةً في قلبي، فإذا بي بين يدي كائنٍ؛ هو بالتأكيد لا إنساني ولكنهُ "موجود".‏

فكّرتُ بخفّة الحلمِ العجيبة: "إذاً هناكَ وراء القبر حياةٌ أخرى!"، لكنَ ميزتي الأساسيّة ظَلّت في أعماقي: "إذا كان لا بُدَّ أن (أوجدَ) ثانيةً ـ فكّرتُ ـ بإرادةِ أحدٍ ما فإنني لن أكونَ مَغلوباً ومُذلاًّ".‏

"أنتَ تعلم أنني أخافك، ولهذا أنتَ تحتقرُني"، قلتُ لرفيقي، دون أن أستطيع كبح هذا السؤال المُذل، الذي ينطوي على اعتراف و ينغرس في قلبي كإبرةٍ سببها الجبن.‏

لم يجبني عن سؤالي، ولكنني شعرتُ فجأةً أنه لا يحتقرني، ولا يضحَكُ من فعلي، ولا يرثي لي في الوقت نفسه، وأن لدربنا هذا غاية ينتهي إليها، سريّة غير معروفة ولا تعني أحداً سواي، ازدادَ الرعبُ في قلبي، ونفذَ صمتُ صاحبي إلي عميقاً ومؤلماً.‏

واجتزنا فضاءاتٍ مظلمةٍ ما رأتها عين، وما عدتُ أرى نجوماً مألوفة من قبل.‏

وكنتُ من قبلُ أعلم أن في أعماق الفضاء توجدُ نجومٌ لا تصلُ إلينا أنوارها إلا بعدَ آلافِ وملايين السنين، لعلّنا قد قطعنا تلك الفضاءات، كنتُ أنتظرُ شيئاً ما في وحدة قلبي العميقةِ والمخيفة، وفجأةً وبينما أنا كذلك إذا بعاطفةٍ معروفةٍ تهزّ كياني وتوقظ ماضيّ بقوةٍ: لقد رأيتُ فجأةً شمسنا! كنت أعلمُ أنها لا يمكن أن تكون (شمسنا)، شمسنا التي ولدت أرضنا، وأعلم أننا نبعدُ عن شمسنا مسافاتٍ لا نهائية، لكنني كنت أحسُّ بكل جوارحي أنها تشبُهُ شمسنا تمام الشبه، وهي نسخة عنها، ونظير لها. إحساسٌ لذيذٌ حلوٌ غَمَر روحي: وقوّة الضياء الخلاقة التي ولدتني، ترجّعت في قلبي وبعثتهُ من جديد، فأحسستُ بالحياة تعودُ إلى عروقي، لأوّل مَرّةٍ بعدَ أن قُبِرت.‏

ـ ولكن إذا كانت هذهِ هي الشمس، إذا كانت شمساً كشمسِنا تماماً ـ هتفتُ به، فأين هي الأرض إذاً؟‏

فأشار مُرافقي إلى نجمةٍ تُشّعُ في الظلمةِ بضياءٍ زُمردّي اللون، وكنا في الآن نفسه نتجهُ نحوها.‏



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ـ هل من الممكن أن يحدثَ مثلُ هذا التكرارِ في الكون؟ وهل هو قانون الطبيعة؟ وإن كانت تلك هي الأرضُ، فهل هي أرضٌ كأرضنا تماماً، مثلها تعيسة، وفقيرة، ومثلها غالية ومحبوبة أبد الدهر، وقادرة على استدرار حُبِ أبنائها وحتى أكثرهم جحوداً؟ ـ قلت ذلك هاتفاً وأنا أرتعشُ جراءَ حُبٍ طاغٍ وشديد تجاه تلك الأرض التي ولدتُ عليها وهجرتُها، وكانت طيف تلك الطفلة البائسة التي أهنتُها يخفقُ أمام عيني.‏

ـ سترى كل شيء ـ أجابَ مُرافقي وكانت كلماتُهُ تشي بحزنٍ ما.‏

ولكننا كنا نقتربُ بسرعةٍ من الكوكب، فيكبُرُ حجمُهُ في عينيّ، ثمّ مَيّزتُ المحيط وحدود أوروّبا، فاشتعلت غيرةٌ غريبةٌ ومقدّسةٌ في قلبي: "كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التكرار؟ ولأية غاية؟ أنا أحبُ... أنا أستطيع أن أحب تلك الأرض التي تركتُها ورائي، تلك الأرض التي تناثَرَ دَمي فوقها، عندما أطلقتُ الرصاص في قلبي جاحِداً كل شيء، ومنهياً حياتي، ولكنني لمْ أتوقّفْ عن حبّها أبداً، وحتى في تلك الليلة التي فارقتها فيها فقد شعرتُ بحبّها أشدُ تعذيباً لي من أي وقتٍ مضى، هل ثمّة عذاب على هذه الأرض الجديدة؟ على أرضنا لا نستطيع أن نحب إلا مع الألم والعذاب، وفقط من خلالهما، وإلا فإننا لا نستطيع أن نحب، بل لا نعرفُ حُبّاً آخر، لهذا أنا أطلبُ العذابَ كي أتمكّن أن أحب، كم أتعطّشُ في هذهِ اللحظة أن أقبلَ الأرضَ وأغسلها بدموعي، تلكَ الأرض التي هجرتها والتي لا أريدُ، بل لا أستطيع العيش إلاَّ عليها فقط!".‏


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

لكن مُرافقي كان قد تركني وحيداً. وأصبحت فجأةً ـ وكما لو أنني لم أنتبه لذلك ـ أقفُ على تلك الأرض الأخرى غارقاً في نور شمسٍ ساطع، في يومٍ نعيميٍ رائع. لقد وقفت على ما أظنُ على أرضِ جزيرةٍ من تلكَ الجزر التي تشكّل أرخبيل(2) اليونان، أو على شاطئ أرضٍ تشرِفُ على ذاك الأرخبيل. كل شيء كان يشبُهُ ما ألفناهُ على أرضنا تماماً.‏

وتراءى لي أن حبوراً وعيداً يشعُّ في كل مكان حتى يبلغُ الأمرُ مرحلةَ النشوة والروعة.‏

والبحرُ الزمرديُ اللطيف يُداعبُ الشاطئ بحبٍ واضحٍ عن وعيٍ تقريباً.‏



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


يتبع ....