لذة الكلام مع البسطاء

بسم الله الرحمن الرحيم


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته






لذة الكلام مع البسطاء / التعرف على مكنونات المرء عند التكلم معه






لذة جديدة ، ومتعة حقيقية ، لم أعهدها من قبل ،




تكمن في محادثة البسطاء من الناس، والقدرة على استخراج



مكنونات تجاربهم إن وُفقت لهذا ،




فما كل بارقة ٍ تجود ُ بمائها ، لأنهم كالكنز الخفي ، لا يستدل عليه إلا من وُفق ،



و لذلك ترى أن كثيراً من الملوك وأصحاب الشأن من العظماء يحرصون



على محادثة البسطاء العقلاء والبحث عنهم ، مِمَن لم تدرج أسماؤهم
ضمن قائمة أعلام النبلاء في عصرهم .



سمع الخليفة هارون الرشيد برجل صالح اسمه ابن السماك فطلبه ،
دخل ابن السماك مجلس الخليفة ، وقد طلب الخليفة الماء ليشرب ،



فجلس ابن السماك ،



فقال الرشيد : عظني يا ابن السماك ، وقد أمسك الخليفة بالكأس ،



فقال له : لو مُنعتَ يا أمير المؤمنين هذه الشربة بكم تشتريها ؟



أطرق الخليفة مفكراً للحظات ، ثم رفع رأسه
و قال : بنصف ملكي !



فقال ابن السماك على الفور :
فإن مُنعتَ خروجها بكم كنت تشتريه ؟



سكت قليلا ً ثم أجاب بصوت خافت ، كأنه يحدث نفسه :
بنصف ملكي الآخر !



قال ابن السماك : إن مُلكا ً قيمته شربة ماءٍ لجدير أن لا ينافس فيه ، فبكى الرشيد !!



فيا لله ، كم هي عبارات وجيزة اللفظ ، غزيرة الفائدة ، سالمة من التعقيد
واضحة الدلالة على المعنى .



يعادُ حَديثـُهُ فَيَزيدُ حُسنا ً ... وقد يُستَقبَحُ الشيءُ المُعاد ُ





إن هؤلاء الذين لا يُؤبه بهم متى حلوا وارتحلوا ،



مثل كبير السن الذي ربما تصادفه في محطة ٍ ما ،



أو الغريب التقي الخارج من أحد المساجد الصغيرة ،








أو صاحب الدكان في الأزقة الضيقة ،




أو المزارع القنوع ، أو البائع المتجول أو غيرهم ،



ينطقون أحيانا ً بكلام من ضروب الحكمة ، يرسلها أحدهم فتحسبها مثلا ً ،



و ربما قذف أحدهم حكمة تقع منك بمكان ، فتتغير على أثرها حياتك ،



و لو كُتبت بمداد الذهب ، على صحائف الفضة ، وعُلقت عند مداخل الجامعات ،



و وسط ميادين العواصم ، لقالوا ما أحكم مَن قالها !





نعم لا تستغرب ، قد تلتقط من أفواههم أقولاً تشبه الجواهر ،
تتسم بالوضوح والإيجاز ،



لا تجدها عند بعض كبار المثقفين والمتعلمين ،



الذين تسمع بأحدهم فيمتلئ سمعك إجلالا ً له وإكباراً ،
فإن شاهدته و حادثته لقلت



ما قاله ابن ماء السماء :



أن تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه !



تجالسه فتجده قليل التجربة ، يتخبط في حديثه كحاطب ليل ،



ويتقلب في رعونة عباراته كهواء البصرة ،



وذلك لأنه من الذين لم يخوضوا غمار الحياة إلا من خلال المفاهيم النظرية الجافة ،



أما أولئك البسطاء فقد كابدوا الدنيا وعركتهم الأيام ولم يغيرهم زهو منصبٍ



ولا ذيوع صيتٍ و لا عظيم جاه ، وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة .





واكتشفت أيضا ً أن معرفة هذا الصنف من الناس من ثمين الصيد



الذي يحتاج صاحبه الى نظر دقيق واستقراءٍ لبعض الدلائل ،



لأنهم ليسوا بأصحاب أسماء رنانة فتعرفهم بها ،



بل هم كما أسلفت بسطاء أخفياء لهم من التجارب ما جعلهم



يمتلكون نظرة وعبرة وقدرة على إصدار حكم نتج عن خبرة ، بعبارة وجيزة



خالية من التعقيد مملوءة بالحكمة ،
ولذلك قيل أن طول التجارب زيادة في
العقل و لسان التجربة أصدق .



ومن تلك الدلائل الدالة عليهم على سبيل المثال كبر السن ،



وسعة الصدر، و طول الصمت ، و إجابته لسؤالك عن الدنيا وعن أعباء الحياة



وعن تغير الناس ، و كيفية اختياره لابتداء الحديث معك ، وغير ذلك ،





قيل اقترب رجل ذات مرة من أحد أولئك البسطاء الذين يُتوسم فيهم العقل ،



فقال له : أتسمح لي بسؤال ؟



قال : عن ماذا ؟



قال : أخبرني عن بعض الدروس التي تعلمتها من الحياة ؟



سكت قليلا ً ثم قال :
نعم .... تعلمت أنني قد أسبب جروحاً عميقة لمن أحب في بضع دقائق فقط ،



لكن قد أحتاج لعلاجها سنوات طويلة !



وتعلمت أن الأغنى ليس الذي يملك أكثر ، بل الذي يحتاج أقل !



مما راق لي
طبتم بحفظ المولى ورعايته