الحداثة في الفن والفلسفة [COLOR="Indigo"]
يصف فاسيليكي كولوكوتروني Vassiliki Kolocotroni الحداثة، في مقدمة كتاب: الحداثة: مجموعة مصادر ووثائق Modernism: An Anthology of Sources and Documents، بقوله، إنها تشمل عدداً كبيراً من النظريات المختلفة والمتدابرة والممارسات. وأن جوهر حافز الحداثة كان يَمْثُلُ في روح التجريب.[i] ويرى أن الكلام عن هذه الروح يتطابق مع تعريف كليمنت غرينبرغ Clement Greenberg للحداثة، في الفن، عندما قال بأن الروح النقدية عن الفيلسوف كانط Kant هي التي دفعت إلى التجريب الحداثيّ، والذي تجسد أخيراً في المذهب الفنيّ التعبيري الأميركاني المجرد American Abstract Expressionism.[ii]
أما زمان الحداثة فهو محدَّد، تقليدياً، بالحقبة الممتدة ما بين العام 1910 والعام 1930.[iii]
الحداثة في الفن
فعلى صعيد الفن، كان للحداثة ظواهر، نذكر من أهمها المذهب المستقبلي Futurism الذي وضع بيانه ومبادئه الشاعر الإيطالي فيليبو طوماسو مارينيتي Filippo Tommaso Marinetti ونشر في جريدة لوفيغارو Le Figaro في باريس في عام 1909. في هذا المانيفستو (البيان)، نقرأ أفكاراً تدعو إلى الحركية والسرعة والجسارة والحرب وهدم القديم. وفي ذلك قوله في المبدأ الأول: "لقد عقدنا العزم على حبّ الخطر، واعتياد بذل الطاقة وعدم الخوف". ويضيف قائلاً في المبدأ الثاني: "الشجاعة، والجسارة، والثورة سوف تكون العناصر الجوهرية لشعرنا".
وفي المبدأ السابع نقرأه، يقول: "لا جمال إلا في الصراع". وفي المبدأ الحادي عشر، نقرأ: "وستكون أغانينا عن الجماهير الواسعة التي حرّكها العمل، والسعادة، والسير في المظاهرات...".[iv]
ثم هناك التكعيبية cubismفي الرسم التشكيلي. ومن أشهر من صاغ مبادئها غيلوم آبولينير Guillaume Apollinaire. وهو يقول في هذه الظاهرة، مما يقول، ما يلي: "لقد آن الأوان لنكون أسياداً. ولا يكفي الإرادة الخيرة لتحقيق ذلك بالتأكيد".[v] ويضيف: "لذا، فنحن نتقدم في اتجاه فنّ جديد بالكلّية، فنّ ستكون نسبته إلى الرسم التشكيلي السابق، كنسبة الموسيقي للأدب. فهذا الفن الجديد سيكون فناً نقياً، كما هي الموسيقى أدبٌ مصفّى". ثم يضرب مثلاً عن بيكاسّو Picasso التكعيبيّ المشهور، فيقول: "إن رجلاً مثل بيكاسّو يدرس الشيء كما يفعل الطبيب الجرّاح الذي يشرِّح جثّة".[vi]
ومن بين مدارس الفن التشكيلي التي تنسب إلى الحداثة، نذكر، أيضاً، التعبيرية Expressionism، ومن فرسانها فاسيلي كاندنِسْكي Wassily Kandinsky الروسيّ الأصل (1866-1944). وقد كتب في عام 1912 عن "مشكلة الشكل" "The Problem of Form". ومما قال، زمانئذٍ: "لذا، يدرك المرء إدراكاً أساسيّاً أن السرّ العظيم المهم ليس في القيمة الجديدة، وإنما في الروح التي تكشف عن ذاتها في تلك القيمة، وأيضاً، في الحرية اللازمة لذلك الكشف".
وبالإضافة إلى ما تقدم، يمكننا الإشارة إلى الدادائية Dadaism، والدوّاميّة أو مذهب الحركة الدائرية Vorticism، والبنائيّة Constructivism، والسورياليّة Surrealism، والفوضويّة Anarchism، وحركات أخرى.
ولن يمكننا، في حدود دراستنا الحالية أن نخوّض في شرح أفكار ونظريات هذه الحركات جميعها. لكننا سنكتفي بأن نختار واحداً منها على سبيل مسك الختام لكلامنا عن الحداثة في الفن. وقد اخترنا السوريالية. فما هو هذا المذهب؟ لعلّنا لا نكون بعيدين عن الصواب، إذا قلنا إن أندريه بريتون André Breton (1896-1966) كان رسول السوريالية، وهو الذي وضع بيانها (مانيفستو) الشهير في عام 1924. وكانت الفكرة الأساسية التي قامت عليها السوريالية ماثلة في الدور الذي يلعبه اللاوعي في الفن. وواضح أن هذه الفكرة مستمدة من علم النفس الفرويدي.
يقول بريتون في بيانه، وبعد مهاجمته لحكم المنطق: "أؤمن أن المستقبل سيوفّر حلاًّ لهاتين الحالتين: "الحلم والواقع، واللتين تبدوان متناقضتين، وسيكون الحلّ نوعاً من الواقعية المطلقة، أي سوريالية، إذا صحّ القول". ويتابع قائلاً: "إن من يعترض على حقنا في استعمال لفظة السوريالية، بالمعنى الخاص الذي نفهمها به، هو إنسان غير مخلص أبداً، ذلك، لأنه لم يكن لهذه اللفظة استعمال قبلنا. لذا فإنني أحدِّد معناها مرّةً وإلى الأبد، على النحو التالي: "السورياليّة هي آلية نفسيّة في حالتها الصافية، وبها يُعبِّر المرء، لفظياً، بواسطة الكلمة المكتوبة، أو بأية طريقة أخرى _ عن عملية التفكير الواقعية... في غياب أية رقابة للعقل، وفي حالة تحرّر من أي همٍّ جمالي (استطيقي) أو أخلاقي".[vii]
محصَّل ما تقدم هو أن الحداثة في الميدان الفني عبّرت عنها حركات ومدارس وظاهرات مختلفة طلبت الجديد والتجديد، بممارسة الحرية، وبدون قيود.
الحداثة في الفلسفة
مع أن الحداثة في الفن كانت قبل الحداثة في الفلسفة، لا بدَّ من عرضٍ لما حصل في الفلسفة أيضاً. يرى بيبين Robert Pippin أن مشكلة الحداثة في الفلسفة تختص بما يسمى "الحرية الذاتيّة" autonomy أو، هي تقرير المصير أو الحكم الذاتي.[viii]
ويعتبر بيبين Pippin كانط Kant أول فيلسوف حداثيّ.[ix] فقد أكّد هذا الفيلسوف الألماني على مبدأ "الحرية الذاتية" autonomy في نقده للعقل وبخاصة في كتابه: نقد العقل العملي Critique of Practical Reason. فالعقل، عنده، لا يكتشف مركز الإنسان في الطبيعة ولا يخدم غاية طبيعية أو عاطفة، إنه "يُشَرِّع للطبيعة". فهو لا يكتشف الحياة الصالحة، بل يضع قوانينها. فما على الإنسان إلا الاتكال على نفسه.
أما لووِث Karl Löwith الذي استعرض المسار الفكري من فولتير Voltaire إلى ماركس Marx فقد رأى أن الفكرة المركزية، في الحداثة، كانت فكرة التقدم، وأن هذه الفكرة إن هي إلا نسخة علمانية للنظرة المسيحية للزمان. وهذا معناه عدم وجود مبرر أو شرعنة للحداثة.[x]
ويرد بيبين Pippin فكرة "الحديث" إلى التقاليد المسيحية الأوروبية الغربية، فهي من نتاجها، كما يقول، مع أن أصلها الحرفي روماني، وسابق للقرنين السادس عشر والسابع عشر حينما صار لها مدلول مشروع ثوري. وهناك شبه إجماع على أن الكلمة وجدت في أواخر القرن الخامس أو أوائل القرن السادس، وهي مشتقّة من الفعل modo الذي يفيد "حديثاً" أو "في هذا الزمن".[xi]
وما يزال النقاش، بَلْهَ الجدل، قائماً وحامياً بين الدارسين والمفكرين حول صحة وصف ما جرى، منذ عصر التنوير Enlightenment إلى زماننا الحاضر بأنه كان مشروعَ حداثةٍ مختلفاً جذرياً عما كان. فهناك، من يرى أن ما حصل ليس نظرة جديدة إلى الحياة كما يدعي الحداثيون، وإنما هو تكرار خادع للذات، وما الاختلاف سوى كون هذا الزمان الحداثي هو زمان حماقة ومخاطر. وقد عرفت المشكلة القائمة بين المتجادلين بمشكلة الشرعية أي شرعنة صحة وجود الحداثة.[xii]
وعودة إلى كانط Kant وعلاقته بروسو Rousseau يمكننا أن نشير إلى أن روسّو Rousseau كان بمثابة المعلم والموحي لكانط Kant، فمنه تعرّف كانط على ميل العقل للجدل وللأزمة وللنقد الذاتي. ويعتقد فيلكيه Velkley بأولوية العملي في فلسفة كانط Kant.[xiii]
والنقد الأساسي لعصر التنوير (عصر العقل) الذي وضعه كانط Kant وقبله روسّو Rousseau يختص بمفهوم العقل الذرائعي instrumental reason.[xiv]
وكانت الفكرة الأولى عند كليهما، هي أن قيادة العقل الإرشادية لا يمكن أن تفوَّض، للعاطفة غير المهذّبة وغير المنظّمة، من قبل عقد مشرِّع.[xv]
ويمكن القول إن حجّة كانط للتوكيد على أولوية العقل العملي تجد أساسها في عجز العقل النظري في مجال معرفة الموجودات بذاتها. فصار من حق العقل النظري-الأخلاقي الولوج إلى عالم تلك الموجودات، بلا عدوان.
وما لفت كانط Kant من أفكار روسّو Rousseau فكرة أن العقل الذرائعي متناقض ذاتياً. ففي حين ظن الناس أن ذلك العقل سيحقق استقلال الإنسان وكفايته، كان الحاصل معاكساً تماماً، ألا وهو استعباد الإنسان لما صنعت يداه.
وقد تناول كانط Kant هذه الفكرة وطوّرها إلى حدّ القول بأن العقل الإنساني، كله، ينطوي على تناقض ذاتي.[xvi]
COLOR]
:mohammed: