نشأت وتعلمت في جده وهذه أول مرة أسمع فيها بهذا الحي الذي ذكرني

بحي الباطنية في الأفلام المصرية ..نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



هذه جولة لمحرر عكاظ في هذا الحي العجيب


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


«المهدي المنتظر» فوق سطح «العمدة» وثلث السكان بلا اقامات
مكاتب الخدمات في دائرة الاتهام وقوقل «مباشر» يراقب أزقة البخارية




جولة: بدر الغانمي تصوير: احمد بابكير

لا يزال حي البخارية أكثر الاحياء ضبابية بمحافظة جدة.. يتباهى فيه المتخلفون من الحج والعمرة والمتسللون عبر الحدود بافعالهم داخل عالم سري ووسط مبهم وواقع مأزوم تشتبك فيه المصالح الشخصية والعلاقات الشائكة والرؤى المشتركة لوسيلة عيش يبررها أي سبب.. واسلوب حياة يهبط الى اسفل القاع لتتحول مفترقات الطرق الى مراكز تجنيد.. ولتصبح البلطجة قوة والفتونة نظاماً.. والتحايل على النظام حقاً مكتسباً ومشروعاً في مواجهة النظام.

يأتي مجهول الهوية ليجد دائرة الاحتضان تعد له مراسم الاستقبال.. هناك من يدفع لتصبح المخالفة نظاماً وفي الجانب الآخر من يقبل بمثل هذا الاندفاع مستفيداً من خبرته وعلاقاته من باب "نفع واستنفع" سلاح التنفيذ استغلال مواطن الضعف لتصبح نقاط قوة.. تحاول ان تقنع نفسك بانها حالة شاذة فتكتشف بمرارة انها قاعدة عامة ونظرية مباحة ومستباحة ضمن مفهوم العرض والطلب والمصالح المتبادلة.

في هذا الوسط المبهم تتحرك الشخصيات المقيتة تحت رداء الالتفاف على النظام فيصبح اللاممكن ممكناً.. واللا معقول معقولاً.. واللا نظامي نظامياً.. فتفتح ابواب الاستثناء.. ويكون جواز المرور المظهر اهم من المخبر.. معقبون ومخلصو اجراءات ليس معهم تصريح يسمح بذلك.. متخلفون يتحركون بخطابات مكاتب خدمات تحمل عبارة "الاقامة في التجديد" ينتهي الخطاب فيجدد بخطاب آخر.. وهنا تحدث المعادلة المتناقضة حين يصمت النظام ويعلو صوت المخالفة.

يأتون ويتكاثرون ويتحركون بخطى ثابتة.. يتبادلون المواقع والأدوار.. يلتحفون بثوب الاهمال الذي تفصله مكاتب العقار وفق رغباتها.. لا تحديث للبيانات.. قبول صور الاقامات.. تحتار في الوصول الى الدائرة الحقيقية.. خمس اسر تسكن باكثر من عقد ايجار.. تأتي المداهمات فتبدأ رحلة الطواف والسعي.. يبرمجون العناصر وطريقة التحرك.. بداية الاسبوع تغيير المواقع في العزيزية.. يأتي القادمون الجدد.. يخرج فريق آخر الى الحرازات.. يعود الغائبون من الشرفية وهكذا.. البعض لديه جواز سفر بشكل دائم.. والبعض الآخر يحمل تصريحاً مؤقتاً للتنقل رغم انه مجهول الهوية.

عدد كبير منهم متهربون من التجديد رغم سماح وزارة الداخلية بمهلة ستة اشهر لتعديل اوضاعهم.. تشعر ان آلية التنفيذ للتوجيه الصادر بشأن المتخلفين الذين يتم القبض عليهم بعد ترحيلهم بدفع 20 الفا والسجن ستة اشهر غير موجودة.

تغادر نفس الوجوه مرغمة لكنها تعود لنفس المكان مرات ومرات.. كيف.. يعتبر الكثيرون منهم ان الذهاب الى حي آخر مخرج اذا ساءت الأمور ويصرحون بذلك. ليس من المبالغة القول بان بعضهم يستخدم موقع "قوقل ايرث" المباشر في تنسيق تحركاته.. ولا تتعجب اذا علمت ان قدرتهم على انتحال الشخصية للوصول الى مآربهم تصل لنسبة 3%.. تجد نفسك في لحظة امام تساؤل ملح.. كيف يمكن لمن انتهت فترة اقامته وليس مضافاً في اقامة والده ان يعمل في فترة الحج.. تحاول ان تستوضح الصورة وتتبين معالمها فتدهشك تفاصيلها عن قرب.
تركيبة اجتماعية وخليط متعدد الالوان.. مجهولون من اليمن الشقيق بنسبة 45% تابعون لاسر غير نظامية من الجالية التشادية بنفس النسبة.


وما دامت الفتونة هي اللغة السائدة فان مرجع ذلك ان 65% من سكان الحي ذكور يشكل المتحايلون على نظام العمل والعمال بالعمل عند غير كفلائهم نسبة 35% اما العاطلون عن العمل وبلا دخل ثابت فيتجاوزون 30% وبطبيعة الحال لا يدخل في تصنيفهم الباعة المتجولون غير النظاميين الذين قفزت نسبتهم من عشرة الى 15% داخل الحي.


وفي ظل تنامي الخوف الشعبي من الجريمة فان التعامل ببراءة مع هذا العالم السفلي يظل مجازفة غير محمودة العواقب.. نظر لي احد الجالسين وقال: انتبه لنفسك فانت غريب عن الحارة هناك اعين تراقب لتلتقط وتتابع خطوات أي زائر انت من خارج الدائرة وستظل موقع شك.. خذها من قصيرها ولا تتهور بالتصوير.. تطوع احدهم بفكرة مرافقة سيارة جهاز حكومي في الفترة الصباحية او بعد الظهيرة ولكنها لم تنجح لأننا تجولنا في التوقيت الخاطئ.. ظلت فكرة المرافق الامني قائمة ولكنها لم تتحقق.. بادر بعض المتحمسين بفكرة المرافقة.. تمكنا قبل المغيب من التقاط شيء وفشلنا في التقاط ما يحدث في الأزقة المظلمة.. تعرضنا لقذف الحجارة من بعض الصغار.. فاجأتني جرأتهم وعباراتهم "روحوا صوروا في بلدكم" ضحك مرافقي وهو يقول: هذا اللي بقي فعلاً.


عدت لأبحث عن العمدة الذي عاد الى موقعه مكسور الخاطر بقرار ديوان المظالم بعد تنحيته لمدة عامين فجاءتني توصية خاصة.. لا تحرجه ويكفيه اللي فيه.. لم يستلم حقوقه منذ خمسة اشهر.. لم يعد الرجل الذي كان ويكفي ان تلتفت حولك لتعرف الاجابة الشافية.. لم يطل انتظاري حالة.. حالة صاخبة وتحد صارخ.. خيمة بلاستيكية فوق سطح مكتب العمدة.. صاحبها يهدد ويتوعد عاطل يثمل فيهبط ليقول للناس انه "المهدي المنتظر" يقطع اسلاك الهاتف ويعبث بالستلايت.. يمارس فتوته بتسلق الشجرة المواجهة لبوابة العمدة.. خطورته تكمن في تجنيده للصغار وغسل افكارهم.. اطلق على احدهم لقب "سيف المهدي" ولم يتورع عن التعبير بالشخبطة على جدار المكتب.. يئس منه العمدة فقال: اتركوه لله. هذا التساهل شجع احد المنفلتين ليجد له ملعباً.. يأتي من خارج الحي ليعبث بكل الالوان ويغادر.. امن العقوبة فأساء الادب.. تضطر الى رفع الصوت حين تعلم انه مطلوب للحضور احدى عشرة مرة ولا زال طليقاً.

تحاول ان تنتزع نفسك من هذا الواقع المؤلم والتداعي غير المقبول بتشريح الحي وتقليب صفحاته هندسياً وتنظيمياً فلا تجد مخرجاً تبرئ به صفحة مسؤول.. ازقة ومنعطفات يستحيل ان تمر بها سيارة "اسعاف" واطفاء.. مراكيز فتونة تملك من القوة التنفيذية ما لا يملكه العمدة تمارس فرد العضلات وتقطيع اوصال الحي الى مراكز قوى.. تباه بفهم الحياة الداخلية لظواهر تزداد قوة كلما زادت المعارضة لها.. تشعر انك محاصر واسير واقع يرى البعض انه لن يتغير الا اذا تم اختراقه بشوارع رئيسية من كافة الاطراف.

وعكس كل المتشائمين من ابناء الحي الذين يرون انهم بحاجة لعصا موسى.. لا زلت متفائلاً بجهود المخلصين في تطبيق النظام حتى لو اضطررنا في سبيل الحفاظ على نعمة الأمن والآمان ان نستخدم "العصا لمن عصى".