نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

مشهد الصبر في الحج

فضيلة الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد




الحديث ههنا سيكون حول مشهد عظيم من مشاهد الحج ، ودرس نافع من دروسه المفيدة، ذلكم هو الصبر؛ فالحج مدرسة للصبر، وميدان فسيح للتدرب على هذا الخلق الكريم؛ فالحاج يتدرب عملياً على الصبر بجميع أنواعه الثلاثة وهي:
الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارم الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة .

فالحاج يصبر على بذل المال، وبذل الجهد البدني، ويصبر على ما يلاقيه من فراق الأهل والأولاد والبلاد والأملاك، ويصبر على ما يواجهه من إرهاق وتعب ونصب وزحام في سبيل الوصول إلى البيت العتيق، وأداء النسك، ويصبر عن ملاذه التي تحرم عليه حال الإحرام من نساء وطيب ونحو ذلك، ويصبر على ضبط نفسه عن الغضب؛ خوفاً من فساد حجه أو نقصان أجره، ويصبر على قلة النوم، وكثرة التنقل ونحو ذلك مما يصبر عليه وهكذا يتبين لنا عظم الارتباط بين الحج والصبر، ويتضح لنا أن الحج سبيل إلى اكتساب ذلك الخلق العظيم الذي أمر الله به وأعلى مناره، وأكثر من ذكره في كتابه، وأثنى على أهله القائمين به؛ ووعدهم بالأجر الجزيل عنده، قال الله - تبارك وتعالى -: (واصبر وما صبرك إلا بالله) وقال ـ عز وجل ـ (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)، وقال -عز وجل -نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعييا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفحلون) وقال - عز وجل-نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوبشر الصابرين).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه :"ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءاً أعظم ولا أوسع من الصبر"
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "وجدنا خير عيشنا الصبر "
وقال: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً"
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "الصبر مطية لا تكبو"
وقال الحسن -رحمه الله-: "الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده".

معاشر المؤمنين:

الحاج المحتسب إذا أوذي أو شتم لا يغضب، ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا تضطرب نفسه، ولا يثور لأتفه الأسباب؛ كحال من لم يتسلح بالصبر؛ فترى الواحد من هؤلاء يخرج عن طوره وتثور نفسه وتضطرب أعصابه.
أما الحاج المحتسب فتراه هادئ النفس، ساكن الجوارح، رضي القلب.
والحاج المحتسب يطرد روح الملل؛ لأن حجه لله وصبره بالله، وجزاء ه على الله.
والأمة التي تدرك من الحج أفضل المعاني تتعلم الانضباط، والصبر على النظام، والتحرر من أسر العادات.
وهكذا يتبين لنا أثر الحج في اكتساب خلق الصبر؛ فإذا تحلى الإنسان به كان جديراً بأن يفلح في حياته، وأن يقدم الخير العميم لأمته، ويترك فيها الأثر الكبير، وإن عَطُل من الصبر فما أسرع خوره، وما أقل أثره.
ثم إن الإنسان أي إنسان لابد له من الصبر إما اختياراً، وإما اضطرارً؛ ذلك أنه عرضه لكثير من البلاء في نفسه بالمرض، وفي ماله بالضياع، وفي أولاده وأحبته بالموت، وفي حياته العامة بالحروب وتوابعها من فقدان كثير من حاجاته التي تعوَّدها في حياته؛ فإذا لم يتعوَّدِ الصبر على المشاق، وعلى ترك ما يألف وقع صريع تلك الأحداث.
وكذلك حال الإنسان مع الشهوات؛ فهي تتزين له وتغريه، وتتمثل له بكل سبيل؛ فإذا لم يكن معه رادع من الصبر ووازع من الإيمان أوشك أن يتردى في الحضيض.
ومن كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح منبرياً للدفاع عن الحق فما أشد حاجته إلى الصبر، وتوطين نفسه على المكاره؛ فإن في تلك السبيل عقبةً كؤوداً لا يقتحمها إلا ذو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنةً مقذعة، وربما كانت فيهم أيدٍ باطشة، وأرجلٌ إلى غير الحق ساعية.
وإنما تعظم همة الداعي إلى الحق والإصلاح بقدر صبره،وبقدر ما يتوقعه من فقد محبوب أو لقاء مكروه؛ فلابد لأهل الحق من الصبر على دعوة الناس، ولابد لهم من الصبر في انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج معاكسة تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمةً للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.
إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، والثقة بمن بيده ملكوت كل شيء ليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر، ولا صبر الخانع الذليل لغير ربه - جل وعلا-.
وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق وأجل العبادات، وإن أعظمَ الصبر وأحمدَه عاقبة الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عما نهى عنه؛ لأن به تخلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويستَحَقُّ الثواب؛ فليس لمن قل صبره على الطاعة حظٌ من بر، ولا نصيب من صلاح.
ومن الصبر المحمود: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة ؛ فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خُرْقُ.
ومن جميل الصبر: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها ؛ أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها؛ فلا يتعجل هم ما لم يأت فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
ومن جميل الصبر: الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف؛ ففي الصبر في هذا تنفتح وجوهُ الآراء، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداء ؛ فإن من قل صبره عَزُبَ رأيه، واشتد جزعه؛ فصار صريع همومه، وفريسة غمومه.
وكما أن الأفراد بأمس الحاجة إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم لا تخرج عن سنن الله الكونية؛ فهي عرضة للكوارث والمحن، وهي في الوقت نفسه مكلفة بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّل جميع ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوة ثبات، ويقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.
وهي كذلك مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلابد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى، وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تركوا طباعهم وما أودع فيها من حب للراحة وإيثار للدعة، ولم يشد أزرهم بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه - عجزت كواهلهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالهم أمام ملذاتها وشهواتها؛ فيفقدون كل استعداد لتحصيل السمو والعزة، والمنزلة اللائقة؛ فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقل أرواحهم، ويزكي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم.
ومن أعظم الشرائع التي يتحقق بها ذلك المقصود شريعة الحج.
ومن هنا كان الحج من أعظم أنواع الجهاد؛ كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.
فيا أيها المسلمون: هذا هو الحج يعلمنا الصبر، ويربينا على خلق الصبر؛ فليكن لنا منه أوفر الحظ والنصيب، وليكن زاداً فيما نستقبله من أعمارنا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.