حين انتهى من حزم أمتعته كانت الساعة تشير غلى الثامنة إلا ربعاً، فبدأ بارتداء بزة العمل.لبس أولاً السروال الرمادي ثم القميص الأزرق والسترة الجلدية،الحزام الجلدي المجهز بحامل المسدس وأخيراً قبّعته الرمادية، وشرع يحضّر نفسه لمواجهة الحمامة ويتحص لذلك.كان يشعر بقرف شديد من مجرد التفكير أن الحمامة ربما تلامس جسده،أو تتمكن من نقره في كاحل قدمه أو تلامس بجناحيها، خلال طيرانها، يديه أو رقبته،أو تقوم بالوقوف عليه بأطرافها ذات المخالب،لهذا فقد قام بارتداء حذاء ذي عنق طويل وبطانة من فرو الخروف،لايرتديه عادةً إلا في أشد ايام الشتاء برداً،بدلاً عن حذائه الصيفي الخفيف،ثمارتدى معطفاً شتوياً وزرره من الأعلى إلى الأسفل وقام بلف شال صوفي حول كامل رقبته حتى اسفل ذقنه،وحمى يديه بقفازات جلدية مبطنة،وأخيراً تناول مظلة المطر وحملها بيده اليمنى.بعد كل هذه التحصينات كان جوناثان يقف في الثامنة غلا سبع دقائق جاهزاً لتنفيد خطة الهروب من الغرفة،فخلع قبعته عن رأسه وألصق اذنه بالباب.لم يكن هنالك شيء يُسمع!فاعتمر قبعته مرة أخرى وثبتها جيداً على جبهته،ثم شد الحقيبة ووضعها بجاهزية عند الباب.
لكي يحرر يده اليمنى علق المظلة على رسغها ثم أمسك بمقبض الباب ووضع يده اليسرى على القفل ففتحه،ثم ادار المقبض وشق الباب قليلاً ليستطلع.الحمامة لم تعد موجودة قرب الباب.على البلاطة حيث كانت ترقد توجد بقع ذات لون اخضر زمردي وبحجم يقارب حجم قطعة نقدية من فئة الخمس فرنكات تقريباً،كما أن هناك ريشة بيضاء صغيرة كانت تهتز بفعل مجرى الهواء الناتج عن شق باب الغرفة.بدأ حوناثان يرتعد من شدة القرف وهمَّ بصفق الباب والعودة إلى الداخل. كانت طبيعته الغريزية تريد التقهقر رجوعاً إلى الغرفة الآمنة بعيداً عن هذا الرعب في الخارج، لكنه تنبه إلى أن تلك البقعة ذات اللون الاخضر الزمردي لم تكن وحيدة،فهنالك بقع كثيرة مثلها في كل مساحة المدخل التي كان يستطيع أن يراها من شق الباب.كانت كلها مبرقعة بتلك البقع الزمردية الرطبة اللامعة.وهنا حدثت مفاجأة:فالعدد الكبير للبقع المثيرة للتقزز لم يُحبط من عزيمة جوناثان،كما هو متوقع،بل حفزها! ربما لو أن الأمر اقتصر على تلك البقعة الوحيدة والريشة،لانسحب وأقفل باب غرفته عليه إلى الأبد!أما كون الحمامة قد تبرزت في كل أنحاء المدخل،فإن انتشار هذه الظاهرة المقيتة حفز كل ما يملكه من الشجاعة فقام بفتح الباب على مصراعيه.
إنه يستطيع الآن أن يرى الحمامة تجلس على بعد متر ونصف في الزاوية الضيقة المظلمة من نهاية الممر.ألقى جوناثان نظرة سريعة باتجاهها بحيث لم يتمكن من معرفة ما إذا كانت نائمة أم لا،أو إذا كانت عيناها مقفلتين أم مفتوحتين؟إنه في كل الأحوال لم يكن يريد أن يعرف ،لم يكن يريد حتى مجرد رؤيتها-في كتاب عالم الحيوانات المدارية كان قد قرأ مرة أن حيوانات معينة،خصوصاً قرود الأورانج أوتان، تقوم بمهاجمة الإنسان في حالة واحدة فقط:حين ينظر في عينيها.فغذا قام المرء بتجاهلها فإنها تتركه بسلام-ربما ينطبق هذا على الحمام أيضاً.على كل حال فقد قرر جوناثان التصرف كما لو أن الحمامة لم تعد موجودة،على الأقل ألا ينظر إليها،وبدأ يدفع بحقيبته إلى الممر بتأن وانتباه بين البقع الخضراء.ثم فتح مظلته ممسكاً بها بيده اليسرى ووضعها أمام وجهه وصدره كالدرع وخرج بدوره إلى الممر منتبهاً دائماص للبقع الخضراء على الأرض،مغلقاً الباب خلفه.إلا أن تظاهره بتجاهل وجود الحمامة اختفى في هذه اللحظة،وبدأ التوتر ينتشر في أوصاله وهو يحاول إخراج مفتاح الغرفة من جيبه بأصابعه التي تلبس قفازاً،وحين لم يتمكن من إخراجه بسرعة بدا يرتجف من التوتر بحيث كاد يفقد المظلة.سارعبالتقاطها وتثبيتها بين خده وكتفه،فسقط المفتاح على الأرض بعيداً شعرة واحدة عن إحدى البقع،انحنى والتقطه بعد لأيٍ ثم تمكن من إدخاله في ثقب قفل الباب بعد أن أخطأه ثلاث مرات،أداره مرتين،
وفجأة،خيل إليه أنه سمع رفرفة أجنحة خلفه...
أم كان هذا صوت احتكاك المظلة بالحائط؟...لكنه سمع الصوت ذاته مرة أخرى،لقد كان فعلاً صوت ضربات اجنحة! دبّ الذعر فيه وسحب المفتاح بسؤعة من ثقب قفل الباب وخطف حقيبته وفر هاربا،المظلة المفتوحة تحتك بالجدار،والحقيبة تصطدم بأبواب الغرف،أما في منتصف الممر فقد راحت درفتا النافذة المفتوحتان تسدان الطريق ،فقلص نفسه ليمر بينهما وبين الحائط،ثم حشر مظلته بشدة وعجالة مزقتها إرباً،إلا أنه لم يعر الأمر أي اهتمام،فهمّه الاوحد في هذه اللحظات كان الفرار بعيداً...بعيداً...بعيداً...
فقط حين بلغ عتبة الدرج،توقف للحظة طوى خلالها المظلة التي أصبحت تعيقه،وألقى نظرة سريعة إلى الخلف.كانت أشعة الشمس الساطعة تجتاح اىن الافذة الصغيرة لتحفر مربعاً شديد الضياء وسط الظل القاتم في الممر،يصعب على العين اختراقه.فقط حين ضيق عينيه وحدق بتركيز تمكن جوناثان من تمييز الحمامة وهي تقترب مبتعدة عن الزاوية المعتمة بخطى سريعة متنططة ثم وقفت واستقرت تماما أمام باب غرفته،فاستدار بتشاؤم وبدأ بالنزول وهو متأكد بأنه لن يتمكن أبداً من العودة.