-نعم ، أجابت السيدة توبيل،أسرع من هذا غير ممكن.
ثم شغلت الآلة، وانطلقت الإبرة تقرقر،آنئد بدا لجوناثان كأنه ما عاد موجوداً، رغم أنه ما زال يستطيع رؤية السيدة توبيل وهي تجلس خلف طاولة الخياطة الصغيرة على بعد ذراع منه فقط لا أكثر.كان يرى رأسها البني الكستنائي بالنظارة الصدفية ،أصابعها القصيرة الغليظة تعمل بخفة، والإبرة تصعد وتهبط بسرعة شديدة زارعة حاشية الثوب الأحمر بالدروز.وما زال يشاهد بشكل ضبابي الحركة في المتجر . إلا أنه فجأة ما عاد يرى نفسه، أي أنه ما عاد يرى نفسه كجزء من العالم الذي يحيط به ، لقد تملكه شعور لبضع ثوان كما لو أنه بعيد جداً في الخارج،كما لو أنه يتأمل هذا العالم بمنظار مقرَّب مقلوب. ومرة أخرى، كما حدث له في الصباح،أصيب بالدوار وبدأ يترنح.
خطا خطوة جانبية،ثم استدار واتجه نحو المدخل.ومن خلال حركة المشي وجد طريقه إلى العالم من جديد،واختفى من عينيه تأثير المنظار المقرَّب المقلوب ،إلا أنه،في داخله، ما زال يترنح توقف في قسم القرطاسية واشترى شريطاً لاصقاً،وقام بلصق قطعة شريط على شق سرواله ليمنع ذلك المثلث الصغير من الرفرفة عند كل خطوة يقوم بها.ثم قفل عائداً إلى مكان عمله مجدداً.
قضى فترة ما بعد الظهيرة بمزاجٍ هجين بين البؤس والغضب.كان يقف أمام البنك على الدرجة العليا بجانب الدعامة دون أن يستند عليها هذه المرة،لأنه لم يكن يريد الاستسلام لضعفه،ولم يكن ليتمكن من هذا حتى لو أراد ذلك، فلكي يتكئ دون أن يلفت الانتباه إليه كان عليه أن يشبك يديه خلف ظهره،وهذا ليس متاحاً،فيده اليسرى يجب أن تبقى ملاة إلى جانبه حتى تخفي مكان الشريط اللاصق.عوضاً عن هذا وجد نفسه،وهو يسعى للوقوف بثبات،مضطراً للوقوف بساقين منفرجتين كما يفعل أولئك الشبان الحراس الأغبياء.ولاحظ ما نجم عن وقفته هذه من تحدب عموده الفقري وهبوط رقبته،المشدودة باستقامة عادة،هبوطها بين كتفيه ومعها الرأس والقبعة،ما نجم عن هذا بالتالي وبشكل أوتماتيكي من انطفاء لتلك النظرة الجدية الخبيثة المتوقدة من تحت حافة قبعته،وظهور تلك المتبرمة المتذمرة التي كان يستنكرها ويكرهها بشدة عند الحراس الآخرين.لقد غدا بعين نفسه كما لو أنه مشوه،كما لو أصبح رسماً كاريكاتورياً لرجل حراسة،صورة ممسوخة لنفسه.
كان يكره نفسه خلال هذه الساعات وود لو يستطيع أن يخرج من جلده من شدة كرهه الغاضب لنفسه. إنه يريد الخروج من جلده بكل ما للكلمة من معنى،فقد كان الحك منتشراً في جميع أنحاء جسده، ولم يعد يتمكن من تدليكه بثيابه،لأن العرق ينضح من كل مساماته،وبدا أن ثيابه التي التصقت بجلده قد أصبحت كأنها جلد ثانٍ له.وهناك حيث لم تلتصق بجلده بعد، حيث ما زال حاجز من الهواء بينهما:في أسفل فخذيه وذراعيه،والفراغ في أسفل عظم قفصّه الصدري... في هذه المنطقة بالضبط حيث الحكة لا تُحتمل،لأن العرق يشكل كاملة تدب منزلقة،وبالذات هنا لم يكن يريد أن يحك نفسه،لم يكن يريد أن يخفف عنها قليلاً،فهذا لن يغير من حالته العامة التي كانت في منتهى السوء بل سوف يضخمها ويظهرها بشكل أوضح. إنه الآن يتقصد أن يعاني، فالمعاناة تبدو له الحل الأمثل،فهي تبرر وتعزز كرهه وغضبه،وكرهه وغضبه صارا يعززان معاناته بدورهما،فقد كانا يوصلان دمه للغليان من جديد،ويدفعان بموجات جديدة من العرق في مساماته.كان وجهه غارقاً بالعرق، والماء يتصبب بغزارة من ذقنه ومن شعر نقرته،وحافة قبعته تحشّ جبهته المترهلة،لكنه لم يكن لينزعها عن رأسه مقابل أي شيء في العالم،حتى ولو لوهلة وجيزة.يجب أن تظل على رأسه مبرغاة كغطاء طنجرة الضغط،كخاتم معدني يطوق صدغيه،حتى لو تصدع رأسه من جراء هذا.لم يكن يريد فعل شيء يخفف من معاناته.كان يتأمل فقط كيف راح عموده الفقري يحدودب أكثر فأكثر،وكيف كان كتفاه ورأسه ورقبته تهبط أكثر فأكثر،وكيف شرع جسده يتخذ وقفة أكثر انتفاخاً كوقفة كلب شرس هرم.