ريحة نتنة تنبعث وبقايا تجمعات مائية زادت من تردي حالة الحي الذي تربيت فيه....... بقايا فضلات حيوانية تغط بها الجدران وعرصات البيوت........... أعدو مع الصبية متفادياً تلك الكومة من النفايات كالغزلان ونمرح بسراولينا مكشوفي الصدور والتي وشحتها شمس عابسة............. بائعات متجولات يبعن البذور المحمصة والبطاطا المقلية التى نلتهمها على عجل في أزقة ملتوية................ البيوت متراصة ومتقابلة وبينها أبواب صغيرة مشرعة........نجري من خلالها لنعانق الخاله حليمة التي ترمي لنا بشيء من الحلوى بنكهة الفواكة من دكان زوجها دون علمه بينما هو منهمك بقراءة القرآن ...... وتناديني بصوت عالٍ بينما قد حملتنا الريح لبيت آخر.... فتصرخ " قل لأمك أني سامر عليها لزيارة حموده بعد صلاة العصر" ............ كنا نعدو في طريقنا لشراء فل الخالة عيش والتي ردائمها مكتنزة بعبير الجنان.........
ألهثُ والهث حتى داهمتني كحه وشعور بتقيء........... لأستكين قليلاً في ذلك الركن الشرقي الخارجي من المسجد بينما الصبية يطالبوني بالنهوض.........لم أستطع حتى النظر اليهم......تمسحت بذلك الركن وكأني اناجي ربي.......... ما عدت اسمعهم وبدت لي حركات أيديهم وشفاهم تبهت رويداً رويداً.........حركاتهم تنكسر في بؤبؤي وكأني أُطل عليهم من أعماقِ اليم......
أنفاسي ُشلت.... وبدى شهيقي يستحل الزفير ......ورأيت أحشائي تتسابق صعوداً الى الأعلى....خرتْ قدماي وتسربلتْ يداي...... نُكست قواي وبَدتْ الأهداب عناق الفجيعة...........
سقطتُ كالعصفور المبتل وإختلط جسمي بطين هذا المكان............. وخيم في عالمي صمت ولا شيء غير الصمت..............
أفقتُ على صوتِ الممرضة وهي تصرخ في أُذني " دكتور حادث مروع وإصابة شخص بليغة عليك القدوم"
عويل أم...... وصراخ أب....... واستجداء أخ......... ودهشة مرافقين.........
كنت وحيداً في الطواريء في ساعات الصباح الباكر اغالب النعاس الذي إنتحر.........
سَرعتُ الخطى بإتجاه غرفة الإنعاش حيث يوجد المصاب.......... لأجدها فتاة في بداية العشرينات قد فارقتها العلامات الحيوية واعترتها صفرة الموت وشحوب الرحيل............
أغرقتُ أوردتها المنقبضة بوابل من الحقن....... وأصغيتُ لقلبها الصامت......... وبدى لي ان الموت قد قطع شوطاً كبيرا ً في أعماقها.......... فكل أجهزتي أعلنت رحيلها .......
ورأيت أوعيتها العنقية المتورمة.......... وخصال شعرها المتناثرة..... وأهدابها المنحنية انكساراَ.......وزوايا مقلتاها الواجمة.............
كان حادث مروري مروع........إصابة مباشرة في الشقِ الأيسر من قفصها الصدري......
كانت لحظات حاسمة فالسكون والموت يقبع في ذلك الركن............
أدركتُ أنه يتحتم علي مواجهة الحسم ومجابهة نتائجه فالدقيقة تعني الأزل...............فقلبها قد توقف تماماً بسب تجمع (نزيف) دموي بين الاغشية المبطنة لجدران قلبها الذي لم يشرئب أمومة بعد.............. التفت للوراء لأرى علامات الوهن ومرارات ترقب الوداع تعتري وجوه جميع من رافقها........
شرذمت كل ملابسها وغرست مشرطي بلا رحمة بين أضلعها النحيلة شاقاً بلا هوادة طريقي لقلبها مباشرة متجاوزاً حدودي كطبيب مبتدأ..... قاطعاً ما علق أمامي من أنسجة وشرايين وعضلات..... حاولت جاهداَ توسيع الجرح بتهشيم ضلعتين..... أدخلت يدي اليمنى ملامساً قلبها الساكن ..............................
توجستُ خيفة عندما صَرخ والدها باكياً بألم الكهوف ( حرام عليك والله ........دعها وشأنها.... دعها في أمان......)
أُجبرَ الأب ومن معه على مغادرة غرفة الإنعاش وبقيت مع الممرضة المندهشة والتي تحنو علي ببعض اللمسات لتزيل بقع الدم من على جسمي وملابسي.......
تمكنتُ من إزالة التجمع الدموي بصعوبة وحقنتُ عضلات قلبها بالأدرنالين مباشرة ...... وصاحبتها بصدمات كهربائية...... ومساج بأصابعي الراجفة.......
وكم كان هول المفاجئة ان بدأ القلب بالعدو تارة اخرى وكأنه يسبح مولاه...... وكأن قلبي هو من ينبض لأول مرة..... كأن تلك النبضات هي الوجود..... بل نفحات الإعجاز الرباني تتخلق أمام الضعف وقلة الحيلة......
أجهشت الممرضه باكية مع ابتسامة هتكها إعياء الإنتظار وهي تشاهد ذلك القلب الصغير ينبض بين أصابعي ......... وخرجتْ من أحشائي كلمات جزيئاتها دموع ضعفي ومصدرها رحم انكساري ( ياربي .....ما أعظم سرك......)
خررت ساجداً على صدرها بين سيل من دماء........
رفعت رأسي وكأني بنداءات صبية الحي يصرخون فرحاً لنهوضي........
سيقتْ المصابة الى غرفة العمليات حيث تلقفها الجراحون لتستمر العملية لساعات طوال............ بينما انا غطيت وجهي بذراعي الهزيلة وأجهشتُ بإنهيار طاهر ونقاء مترامي بعد ان افترشت من احد كواليس المشفى ركنا لتأمل ذاتي....
توجهت لغرفتي وطوفان وحدتي في اطراف تلك المدينة.....
ظلتْ بعدها في حالة حرجة في قسم العناية المشددة لأسابيع عدة.......
آنذاك كنت قد حصلتُ على فرصةٍ وظيفية في مدينة أُخرى.....بقيتُ على إتصال لمعرفة تحسنها......
غادرتْ تلك الفتاة بسرها الإلاهي المستشفى سيراً على الأقدام معانقةً تلك الممرضة العظيمة والتي أقف إجلالاً لها والتي روت لي تلك التفاصيل المهمة في تاريخي الإنساني...... طلبت المريضة من الممرضةِ عنواني البريدي.......
المفاجئة المبهرة لقوى إستيعابي العقلي والفكري أنها أرسلت لي بطاقة شكر ورسمة لملامحي ما زلت أحتفظ بها..... وتكاد تكون مطابقه لتعابيري رغم انها ما رأتني .............. بل قلبها فعل.......