معاناة أم فقدت ولدها
مرت على تلك الأم المسكينة بضعة أعوام لا ترى ولدها ، ولا تجد من يدلها عليه ، فأصبح من يراها في طريقها يرى عجوزاً حدباء والهة متسلبة (1) مذهوباً بها (2)، قد توكأت على عصا ماتزال تضطرب في يدها ، وأسبلت فوق جسمها الناحل المحقوقف أهداماً (3) خلقاناً يحسبها الناظر إليها لكثرة ما نالت يدا البلى منها ، أهداباً متلاصقة ، أو مزقاً متطايرة ، تقف صدر النهار بأبواب المعابد والكنائس تسال الله أن يرحمها ، والناس أن يطعموها . حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، أخذت سمتها (4) إلى شاطئ البحر ، وجلست فوق بعض صخوره تناجي أمواجه ورماله ، وترقب أفقه البعيد كما يرقب المنجم كوكبه في أفق السماء .
فإذا سرت إليها نسمة وجدت ريح ولدها فيها ، وإذا أقبلت عليها موجة ، ظنت أنها رسول منه إليها ، وإذا تراءت لها سفينة ماخرة على سطح الماء ، حسبتها السفينة التي تحمله ، فلا يزال بصرها عالقاً بها لا يفارقها ، حتى ترسو على الشاطئ ، فتقف في طريق ركبانها ، تتصفح الوجوه ، وتتفرس الشمائل (5) وتهتف باسم ولدها صارخة معولة وتقول : عباد الله ، من يدلني على ولدي ، أو ينشده لي في معالم الأرض ومجاهلها ، فقد أضللته منذ عهد بعيد ، فحار بي الدهر من بعده ، فلا أنا سالية عنه ، ولا واجدة إليه سبيلا ، فاحتسبوها يداً عند الله ، وحدثوني عنه . هل عاد معكم ؟ أوتخلف عنكم ليأتي على أثركم ؟ أو انقطع الدهر به فلا أمل فيه بعد اليوم ؟فلا يلتفت إليها أحد ، ولا يفهم أحد ما تقول !!وربما لمحها بعض الناس ، فضنها امرأة ملتاثة (6) فرثى لها أو سائلة ، فتصدق عليها .
ولا يزال هذا شأنها في موقفها هذا ، حتى ترى الأمهات والأخوات والفتيات ، قد عدن بأولادهن وإخوانهن ، وآبائهن إلى منازلهن ، ولم يبق على شاطئ البحر من غاد ولا رائح سواها ، فتتناول عصاها ، وتعود أدراجها إلى بيتها ، فتأخذ مجلسها من حافة قبر كانت قد احتفرته بيدها في أرض قاعتها ، وتوهمته مدفناً لولدها ، فتضل تبكي وتقول :
في أي بطن من بطون الأرض مضجعك ، يابني ؟ وتحت أي نجم من نجوم السماء مصرعك ؟ وفي أي قاع من قيعان البحر مثواك ؟ وفي أي جوف من أجواف الوحوش الضارية مأواك ؟
لو يعلم الطير الذي مزق جثتك ، أو الوحش الذي ولغ دمك ، أو القبر الذي ضمك إلى أحشائه ،
أو البحر الذي طواك في جوفه ، أن وراءك اماً مسكينة تبكي عليك من بعدك لرحموك من أجلي
عد إلى يابنى ، فقيراً ، أو مقعداً ، أو كفيفاً ، فحسبي منك أن أراك بجانبي في الساعة التي أفارق فيها هذه الحياة ، لأقبلك قبلة الوداع ، وأعهد إليك بزيارة مضجعي ، مطلع كل شمس ومغربها ، لتخفف بزورتك عني ضمة القبر ، وتستنير بوجهك الوضاء ظلماته الحالكة .
ما أسعد الأمهات اللواتي يسبقن أولادهن إلى القبور ! وما أشقى الأمهات اللواتي يسبقن أولادهن إليها !! وأشقى منهن تلك الأم المسكينة التي تدب إلى الموت دبيباً ، وهي لا تعلم هل تركت ولدها وراءها ، أو أنها ستجده أمامها ؟
وهكذا كان شأنها صباحها ومساءها ، فلم تزل تبكي ولدها بكاء يعقوب ولده ، حتى ذهب بصرها ذهاب بصره ، ولكنها لم تستطع عن يوسفها صبراً ...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منقولة بتصرف من كتاب العبرات / للأديب العربي / مصطفى لطفي المنفلوطي ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المتسلبة .. التي أحدت على زوجها أوغيره
(2) المذهوب به .. المسلوب عقله
(3) أهداما .. جمع هدم وهوا الثوب البالي
(4) سمتها .. الطريق
(5) تفرس .. تفحصه
(6) ملتاثة .. مجنونة