ولد سلمان بن مفرح الغزواني عام 1985 على سفح جبل في محافظة بلغازي بمنطقة جازان. نشأ وترعرع وسط قبائل النحل الغفيرة التي تحلق فوق رأسه. فصار مثلها مهموما بالأشجار والأزهار. رفاقه الأطفال يتحلقون حول تلفزيون بينما يحلق وحيدا حول زهرة مستكشفا جسدها وجوفها.
انهمك سلمان مبكرا في التفاصيل الصغيرة. كانت تشغله الأسئلة كثيرا. الصغار يطلبون من آبائهم نقودا بينما كان يطلب أجوبة لأسئلته. تفاقمت أسئلته أكثر عندما نضج قليلا وصارأكثر وعيا وإدراكا. كان يستيقظ يوميا على آهات مرضى تحملها جبال بلغازي الشاهقة على أكتافها وتنقلها إلى أذنيه. يكاد لا ينام من شدة المشاهد المروعة التي يراها واقعا نهارا وكابوسا مساء. أقرب مستشفى لبلغازي يقع في أبي عريش، التي تبعد عنها نحو ساعتين بالسيارة، لكن الطريق وعر وشائك، جبلي ومحفوف بالمخاطر. والأدهى والأمر أن الرحلة باهظة الثمن، فقيمة المغامرة تصل إلى 500 ريال وهذه الخمسمئة لا يملكها دائما أهل بلغازي الذين يشتغل معظمهم في الرعي والزراعة وتربية النحل، سيما ومنهم من تتطلب حالته أن يراجع المستشفى مرة أو ثلاث مرات في الأسبوع. كان سلمان شاهدا على وفاة الكثير من أبناء محافظته الذين لقوا حتفهم إما في الطريق إلى المستشفى أو خلال العمل على توفير قيمة الرحلة إليه.
لم تتح تلك الظروف الممضة لسلمان خيارات عديدة لاختيار التخصص. فقد كانت دراسة الطب هي خياره الأول والأخير لكي يجفف ولو قليلا من منابع الدموع التي تتدفق في بلغازي التي ترقد دون مستشفى. بيد أنه كان يتساءل منذ أن كان في المرحلة المتوسطة حتى وصل إلى ثاني ثانوي عن مكان الكلية التي سيحط رحاله وينيخ ركابه فيها، فقد كانت الأقرب كلية الطب بجامعة الملك خالد بأبها، لكن الصعوبة تكمن في كونها لا تقبل سوى نحو 50 طالبا من أصل أكثر من ألف طالب يتقدم لها. تضاؤل الفرصة أمامه لم يدعه يستكين.
كان يدرس في ثانوية عيبان في الصباح وينكب على كتب الطب بمنزله في المساء، مما جعله يطمئن على حظوظه في دخول جامعة الملك خالد، لكن لم يدر بخلده أنه لن يغادر جازان إذ تلقى هو وزملاؤه بسعادة نبأ افتتاح كلية الطب بجازان وهم يستمعون إلى شرح مدرس إحدى المواد في الصف الثاني الثانوي. وفي غضون أقل من عامين كان سلمان أحد طلاب دفعتها الثانية.
دخول سلمان إلى كلية الطب لم يكن حلما بحد ذاته، فأحلام سلمان ليست طفيفة وصغيرة كالتي يقتنيها ذوو الطموحات المحدودة. أحلامه شاسعة وواسعة. كبيرة وشاهقة كالجبال التي يصعدها في بلغازي.
سلمان اليوم هو طبيب امتياز في جامعة جازان، ويحزم حقائبه حاليا استعدادا لمتابعة سنة الامتياز في جامعة الينوي العريقة في شيكاجو في يوليو المقبل من العام الجاري. وسيتخصص لاحقا في جراحة الأطفال.
واللافت أن سلمان رغم حداثة خبرته فقد شارك في عملية فصل التوأم السيامي الأردني "محمد وأمجد" الشهر الماضي برفقة استشاريين مخضرمين. ونوه رئيس الفريق الطبي والجراحي للعملية، الدكتور عبدالله الربيعة بمساهمته قائلا: "مشاركة طالب جامعة جازان كانت لمدة ثلاث ساعات في المرحلة الخامسة والسادسة بالعملية من أجل فك العيوب الخلقية لأمعاء (محمد) بالإضافة إلى إصلاح وترميم الجلد".
إن سلمان ليس قصة نجاح شخصية، إنه قصة صعود بلغازي ومدن ومحافظات غابت لسنوات دون أن نسمع عنها ومنها شيئا، لكن عندما هطلت عليها التنمية في زمن (أبو متعب) كشفت عن وجوه مضيئة وواعدة، ستسهم مع نظرائها في تدشين سعودية جديدة حافلة بالإنجازات العلمية والمعرفية.
هذه المدن تضم بين جوانحها كنوزا نفيسة، فالغزواني، الذي يحتل ترتيبه السابع، من بين 11 أخا وأختا، من والدين أميين يعد إحدى ثمار الألم الذي سيتحول إلى جوهرة تسطع نورا في سماء الوطن والعالم.
تقول الشاعرة مي زيادة: "اللؤلؤة ابنة ألم طويل".
والأجمل في سلمان ليس موهبته الناصعة بل سلوكه الذي يعبر عنه بابتسامة هائلة تعلو محياه أينما يمم وجهه وصوته الخفيض الذي يلازمه في حديثه. عندما تستمع إليه لأول مرة تحس أنك تعرفه منذ أزل. ربما تشك أنه شقيقك من فرط الارتياح الذي يخلفه حوارك معه.
فلن أستغرب أن يحقق سلمان الذي نشر مؤخرا دراسة علمية مهمة حول انتشار تضييق فم المعدة الخلقي في المملكة فتحا طبيا وشيكا إثر حماسته لدراسة جراحة الأجنة الدقيقة وإنجازاته المبكرة. يقول عالم الفيزياء الأمريكي الشهير ديفيد جي جروس: "أرى الإبداع في وجه القادم من الألم. لديه صبر جبل. ولياقة نحلة". أحسب أن جروس كان يتحدث عن سلمان. هذا الجبل الغض.


عبدالله المغلوث ,, صحيفة الوطن