يتلقى التيار الإسلامي بكافة تياراته الكثير من اللوم والنقد المباشر والغير المباشر، من أطراف عدة، بعضها يظهر الحرص ويبطنه، وبعضها يظهر الحرص ويبطن أمرا آخر، وآخر يظهر كرهه وحقده وسخطه. يتساءل البعض لماذا ينصب اللوم والسخط والنقد والـ"تريقة" على هذا التيار العريض دون غيره، ولعلي –نفعكم الله بعلمي- أحاول في هذه الخربشة توضيح سبب هذه الهجمة، وتبيان تداعياتها ودوافعها. قبل ذلك لا أبالغ إن قلت أنّ ما يعانيه مجتمعنا من مصائب ونكبات أخلاقية وحضارية لا أشكّ طرفة عين أن للتيار الإسلامي الباع الأطول فيها، والمساهمة الأبلغ في صنعها عن قصد أو غير قصد.


فالمجتمع كان بين أيدي التيار الإسلامي بأطرافه المتشددة، وتياراته المنفتحة من بدايات نشوء هذه الدولة كالمريد بين يدي الشيخ الصوفي، لا يُسأل الشيخ عما يفعل، ولا يرى المجتمع إلا ما يرى الشيخ المُعمّم أو "المُبشّت" ، ولا يتجرأ أحدٌ أن يقول له صه، ما فتئ التيار الإسلامي يغرس أنفه في كل صغير وكبير من الأمور، يحاول مناهضة ما لا يريد، ومناصرة ما يريد، وخلت لهم الساحة سنين عدة يسيحون فيها توجيها وتخبيصا وتحريما وتكميما وتصنيفا، حتى غرسوا عقدًا لا يمكن للمجتمع أن يقتلعها إلا بعمليات جراحية بالغة الخطورة.

خذ مثلاعلى مستوى العدالة في المجتمع وتحقيق قيم الإنسانية الحقة، تجد التيار الإسلامي العريض تكفل بإماتة كل دعوة لمثل هذه الأمور، أو تجاهلها وصرف أنظار الناس عنها إلى قضايا هامشية لا ترقى بالمجتمع، حرّم على الناس كل وسيلة مشروعة تمكنهم من الأخذ على يد الظالم، وتضع حدّا للطبقية والعنجهية. وعلى مستوى البعد الحضاري تجد التيار الإسلامي ساهم عن قصد أو غير قصد في تحقير بعض العلوم الرائدة، وجوانب الحياة ومحاربة الفنّ والإبداع، حتى مسخت ملامح الجمال في المجتمع، وتعطلت التخصصات التي كانت قد تساهم في تقدم المجتمع وتدفعه للأمام.

ولعله من نافلة القول أن التيار الإسلامي تمكّن بامتياز من تعطيل المرأة وعزلها عن الحياة، لقد خلق التيار الإسلامي نظرة قاصرة عن المرأة وقيمتها وعملها، وصوّرها "جوهرة" في صندوق لا تخرج منه إلا من خلال عمليات البيع "الزواج"، ووقف التيار الإسلامي حجر عثرة في وجه تقدمها،وضيّق فرص عملها ، ومساهمتها في جوانب الحياة الحقيقية.

على جانب الإستفادة من الآخر، وقف التيار الديني ضد كل وافد، يفلتره بفلتر ضيق الأفق لا ينفذ منه إلا ما ترتضيه بعض الأفهام الضيقة، التي تنظر لسواد كل أمر قبل بياضه، وتنقض كل شيئ قبل أن تقوّمه، وتعطل كل قادم قبل أن تأقلمه، وبذلك حرم المجتمع من وسائل وآليات أمم سابقة في التعبير والتحضر والإعتراض والانتقاد والمحاكمة ومحاصرة الفساد، قد يكون التيار الديني مُستغَلّا مُستغفَلا في ذلك، لكن ذلك لا ينفي عنه التهمة..

على هامش التعامل مع الآخر أيّا كان لونه/ جنسه/معتقده، انتصب التيار الإسلامي شوكة في حلق التوافق، وإسفينا مدقوقا في خاصرة التواصل ، يجرّم/يفسق/ يبدّع/ يصنّف/يخاصم كل تيّار أو مذهبٍ أو آخرٍ يختلف معه التيار الإسلامي، حتى أضحى التلاقي بديلا عن تدانينا، وناب عن طيب الوحدة تخاصمُنا وتفاجُرنا وتشعبنا فرقا ومذاهب لا يمكن التقاؤها...

ثمّة شواهد عدة على مساهمة التيار الإسلامي في رسم صورة وملامح هذا المجتمع الحالي، وبصماته الشوهاء ظاهرة للعيان، فهذا المجتمع، وأخلاقياته، وثقافته المعادية هو نتاج التيار الإسلامي بالدرجة الأولى، ونتاج عوامل أخرى لكنها بالدرجة اللاحقة والتابعة. وحين ينتقد أحد ما هذا التيار لا يكلّف تصنيف هذا المنتقِد إلا خروجُ حروفٍ معينة من فم رمز/شيخ/بشت ما لهذا التيار الإسلامي المتنفّذ فإذا بهذا الإنسان يرتع بين صفوف الليبراليين ، أو يترنح بين قبائل بني علمان أو المذبذبين أو أخيرها وليس آخرها من طالبي الشهرة...

ليس ثمة تيار يملك قوة وتأثير هذا التيار ،وقدرته على توجيه المجتمع، ومن هنا فإن النقد والنقد فقط هو أفضل طريقة للتعامل معه حتى يتم أحدُ أمرين: إما أن يعود إلى رشده، ويصحح مساره، ويرفع عن هذا المجتمع وصايته الغاوية، وآلته التصنيفية التفريقية، فيسهم في محو آثاره السيئة عن المجتمع، ويكفّر عن سوابقه، فيخف النقد عنه، أو أن يسقط تأثير هذا التيار، وتقل جماهيريته ويفقد عنفوانه، وحينها يصبح "الضرب في الميت حرام"، ويأخذ زمام التأثير فكرٌ آخر، أما الآن فأفيضوا عليهم من النقد ما استطعتم إلى ذلك سبيلا...

ناي/ف