= يوسف بلا قميص ! =

بقلم : جمال علوش

كثيرة هي المعارك التي خاضتها اللغة العربية الحديثة ضد الدعوات الضارة ، وكثيرة هي الهزات التي ضربت وعينا منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي ، وزعزعت موقفنا من أناس كنا نعدّهم عظماء وعباقرة لما قدّموه من نتاج إبداعي مذهل ومشرِّف ، ولكنهم أي
( العظماء ) ، وعندما وصلوا إلى مرحلة الشهرة العالية ، إذا بهم بدون أي مبرر ، يصبُّون جام نقمتهم على اللغة العربية ، ويشبعونها ذمَّاً وقدحاً ، وكأنها لم تكن سبيلهم وطريقهم إلى ما وصلوا إليه من مكانة ورفعة وشهرة .
لن أتحدث طبعاً عن أولئك السابقين الذين انحرفوا عن جادة الصواب بتأثير من الخارج ، ولا عن دعواتهم الضارة ، فهم معروفون ، ودعواتهم ماتت في حينها ، تاركة لهم نقطة سوداء في تاريخهم ، وحصاداً مرَّاً نعرفه جميعاً ، ولكننا سنتعرض لدعوة جديدة وغريبة طلع بها علينا منذ سنوات رجل نكن له في دواخلنا كل الحب والاحترام ، ونقدّر إبداعه الفذ الذي أثرى به اللغة العربية ، وساهم من خلال ماتُرجم له من أعمال إلى اللغات الأخرى في نشر أدبها عالمياً ، ونعني به الروائي المعروف يوسف القعيد الذي صرَّح في حوار أجري معه بأنه " ... مع نهاية القرن الواحد والعشرين أو مع منتصفه ستصبح العاميات العربية لغات قائمة بذاتها مثل الإنجليزية والفرنسية ، أما الفصحى فستصبح مثل
( اللاتينية ) . أي أنها ، وحسب تصريح يوسف القعيد ستصبح لغة مهملة ، يرجع إليها معجمياً ودلالياً في أمور البحث عن أصول الألفاظ ليس أكثر .
ويكشف لنا الدكتور عبدالله أبو هيف في مقال له في جريدة ( الأسبوع الأدبي ) السورية تفاصيل مثيرة عن هذه الدعوة التي يبدو أنها ليست جديدة ، وأن القعيد طبَّق عملياً ماصرَّح به وتنبأ ، فكتب رواية جديدة كاملة بالعامية المصرية هي ( لبن العصفور ) التي صدرت عن روايات الهلال ، وكان قبلاً قد جرّب الكتابة بتعويم الفصحى ، أي كتابتها بعامية سماها ( الفصعاميّة ) في روايته ( وجع البعاد ) ، فكان يكتب كلمة العشاء
( العشا ) ، وهواء العصر ( هوا العصاري ) .. إلخ ، وكانت حجته في ذلك تقريب الرواية من القارىء ، والقارىء الأمي بالذات ، وقد ذهب القعيد إلى أبعد من ذلك ، فاعتقد أو أوهم نفسه باعتقاد يثير التبسّم مفاده أنه لايوجد في مصر إلا عامية واحدة مقنعة هي عاميّة قريته ( الضهريَّة ) ، وبالتالي فهو حريص على قراءة قريته ، حيث صرَّح في حوار أجري معه في لندن : " لاحظت في كل أعمالي السابقة أن القراء من أهل قريتي لايصلون إلى كل مافي النص ولايتعرفون إلى ملامحه وأعماقه ، ويتكلمون بصورة عامة عن العمل ، وأن الجمل والكلمات التي تعلق في أذهانهم هي عامية أو قريبة من العامية " .
والخطير في هذا الطرح أن القعيد يعد جمهوره هو جمهور قريته وحدها ، وكأنه ، كما يقول الدكتور أبو هيف ، لايكتب رواية عربية أو عالمية ، وهو الذي ترجمت رواياته وقصصه المكتوبة بالعربية إلى غالبية اللغات الحية ، مثلما انتشرت رواياته وقصصه إلى أوسع جماهير القراء العرب لأنه يكتب بالعربية .. فهل يمكن أن يكون له هذا الحضور لو كان بدأ الكتابة بعامية ( الضهريّة ) مثلاً ، وهل يحق له أن يتحدث عن اللغة العربية في واقعها ومستقبلها بما ليس يخبره أو يعرفه ؟
ونحب ، قبل ختام كلامنا ، أن نطمئن الجميع بأن اللغة العربية لن تصبح أبداً كاللاتينية ، لأن لها من ذاتها ومن خارجها مايحفظها ويحميها ويبقيها أبداً لغة التخاطب الأسمى بين أبناء الأمة العربية ، مهما طغى مدُّ اللهجات العامية . لن نخشى شيئاً مما جاء به أديبنا القعيد ، ولكننا نخاف أن يكون لدعوته ، على غرار المسلسلات ، بقية مقبلة ، ، فيطلع علينا أو على الأجيال اللاحقة ، في المستقبل القريب أو البعيد ، أحد تلامذته بدعوة مستمدة من فيض تعاليمه تتضمن ماهو أخطر وأكثر ابتعاداً عن جادة الصواب .

====================