
عِند احتضار النهار, دخَل الجبانة
ومن يديه تتدلى الْوُرُود
وفِي الأُخرَى ماءٌ يتراقَصُ اهتزازاً
في داخِل زجاجتـه ..
وتتسابقُ ذراتُه إلى الدُعاءِ والسلام
على أهل لا إله إلا الله ..
مشى في رواقِ الجبانة المُتوسِط للقبُور ..
ينشُدُ لأرواحِ أهلها السكينـةَ ..
ويحفهم بِحِمى التلاواتِ من سورة يس ..
وعِندمَا وصَل إلى دوحةِ القبور المنشودَة ..
كانت خيُوط النهار تنسحب بهدوءٍ من السماء
تهيباً وخشوعاً أمام أرواحُ الإباء وأصواتُ الخلود ,
فجلسَ قربها بفؤادٍ منقبِض ! وأفكارٍ متطايرة
هل ما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم ؟
فالأفكارُ تتشابه في المصدر وتختلف في الفروع ..
أما الرغائب الباقية في أعماق النفس البشرية
فهي هي .. في كل آنٍ ومكان !
ساقطَ قطراتَ الماءِ مهللاً مكبراً .. ثم نثَر الْوُرُودِ ..
كتجديدٍ لِمُباركة شهادتهم .. فسبقته أجنحةُ الخلودِ المُرفرِفة حولهم بتلاوةِ
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾
رجعَ إلى تفكيـرِه .. هل تُشتَرى حريتهُم بالأمسِ ببحرٍ من الدماء
وحريتنا اليوم قمعٌ نقابلـه بحوارٍ عقيمٍ ومُساوَمَةً ؟
وإن نحيبُ أمهاتهِم بالأمس كان لأجلِنـا
فغنائنا اليوم ! لأجل من ؟
وإن تيتُم أطفالهِم بالأمس كان لأجل الأحفاد
فأين هم الأحفاد ؟
وإن تساقُط دماءهم بالأمس كان لأجل الوطن
فمتى تأتي يقظة أهلُ الوطن ؟
ثقُل دماغه بأفكارٍ يعرف حلها ولا يدركها !
وضاق منه الصدر لهمومٍ يعرف ماهيتها ولا ينكرها !
وفي وسطَ الهدوء .. تصاعدت نغمةٌ
انتشر تموجها على أنفاسِ أزهار القبُور ..
وفاضَت بكلمات تُطَمئن روحه المُثقلَـة
وتحنو على قلبه وتذكره بكبيـرٍ قادرٍ عادل
يدعوه إلى حياةٍ لا موت معها
وعزٍ لا ذل معه وكرامةٍ يالَها مِن كرامة !
لطالما ترددت على مسامِعَه في الظهيـرة
وأُنشِدَت له في الصباح وها هي تُعاد
عند الغروب !
:
حي على الفلاح
حي على الفلاح