إإلى أمي...‏
أُمّي كَبُرتُ وظَلَّ الطِّفلُ يَسكنني كأنَّه البَعضُ مِنْ روحي ومِنْ بَدني ‏
أحسُّهُ فيَّ فيْ صَمتي وفي صَخبي وفي سُروري وأحزاني وفي شَجني ‏
أغفو فيغفو معي بالهَمْسِ مُرتجِلاً صدى حَكاياكِ قبلَ النَّومِ في أذُني ‏
يَزورني في الرؤى طيفاً فأحضُنهُ بكلِّ ما فيَّ مِنْ شَوقٍ و يَحضُنني ‏
يَبكي مَعـي حينما أبكي على زمنٍ دَفنتهُ تحتَ أنقاضٍ مِـنَ الزَّمنِ ‏
يلومُني فيكِ يـا أُمّـي فأعذرهُ على المـَلامةِ لكنْ ليـسَ يَعذرني ‏
عَيناهُ بحرانِ مِـنْ شكٍّ ومِـنْ قلقٍ ودَمعُ عينيهِ مثلَ المَوجِ يُغرِقني ‏
وصوتـهُ سابـحٌ حولي ككوكبةٍ مـِنَ المَحاذيرِ تَنهاني و تأمرني ‏
يلومني فيكِ يا أُمّـي وليس معي عذرٌ سوى أنَّ أوجـاعي تُمزِّقني ‏
سَفحتُ في كـفِّهِ دَمعي ليسأَلهُ عَـنِ الإجابةِ لكنْ ظـلَّ يَسألني ‏
لِما كَبُرتَ..؟ أنا..! هُمْ كلُّهمْ كَبُروا فمَنْ يُحاسِبهمْ أو مَـنْ يُحاسِبني ‏
كُنَّا ندور مَعاً في خيطِ سُبْحتِها مِنْ أوِّلِ الصَّحوِ حتَّى آخرِ الوَسنِ ‏
ثمَّ انفرطنا و مَـا زالـتْ أصابِعُها تُقبِّلُ الخيطَ في شَوقٍ و في شَجنِ ‏
هـي السِّنينُ الَّتي تمحو مَلامحنا يا للقبيحِ الَّذي يأتي على الحَسَنِ ‏
كَبُرتُ حقَّاً..! أرى وجهي فأُنكرُهُ وحينَ أسألهُ : مَـنْ أنتَ؟ يُنكِرُني ‏
كَبُرتُ حقَّا..! وأظفارُ الأسى حَـفرتْ في سَحنتي ألفَ تذكارٍ مـِنَ المِحَنِ ‏
كَبُرتُ حقَّا..! وشابتْ فيَّ ذاكرتي حـتَّى صَحا الطِّفلُ في روحي فذكَّرَني ‏
أمَّي أضعتُ طريقَ البيتِ في طُـرق تلتفُّ مـثل الأفاعي داخلَ المُدُنِ ‏
أعْدو وراءَ أمـانٍ لا مكانَ لهُ ومِـنْ ورائي أشباحي تُطارِدُني ‏
أبكي وأصرخُ يا أُمّي ولا أحداً في السَّاكنينَ بلادَ الصَّمتِ يَسمعني ‏
هذي بـلادٌ بـلا قلبٍ قَتلْتُ لها قلبي الَّذي كـادَ بالأحزانِ يَقتلُني ‏
رميتهُ عندَ رِجليها فمـا رضيَتْ وبعتها كلَّ أحلامي بـلا ثمنِ ‏
هذي البلادُ المَنافي لستُ أعرِفُها ولمْ تكنْ قَـطُّ يا أمَّاهُ تَعرِفني ‏
أُمّي و أُمّي و أُمّي كـيفَ أعزفـها على فَـمي نَغماً في السِّرِ و العَـلنِ ‏
هَلْ تَسمعينَ دَمي يَهتزُّ في جَـسدي مِـنْ وَقعِها حينما تهتزُّ في أُذني ‏
إنِّـي أعـودُ إليكَ اليومَ مُنكسِراً أحـبو إلـيكِ وأشواقي تُسابقني ‏
عصيتُ قلبي سنيناً في رضـاكِ فهلْ جنَّاتُ عَـدْنٍ علـى كفَّيكِ تقبلني ‏
مُدِّي يديكِ أنا أطفو على ألمٍ كالبَحرِ يَلفظني حيناً ويَبلعني ‏
مُدَّي دَعاءكِ عندَ الفَجرِ أشرعةً بَيضاءَ يرفعها شَوقي على سُفني ‏
مُدِّي وشاحكِ شطآناً ألـوذ بها مِنْ غربتي عنكِ يا داري و يا وطني ‏
مُدِّي إليَّ ولو نعشاً ولو كفناً يا مَنْ تمنَّيتُ لو منديلُها كَفَني ‏
و عانقيني أنا روحٌ بـلا جسـدٍ و أنتِ آخـرُ فِردوسٍ يُعانـقني ‏


للشاعر ابراهيم الطيار