
أنطون تشيخوف
(الأديب الروسي)
نجيب محفوظ
في سن التاسعة عشرة بدأ نجيب محفوظ كتابة مجموعة من المقالات في مجلة السياسة الاسبوعية. كانت مقالاته تأملات حول الفلسفة والدين.. وغيرها من الموضوعات.
وكان أول موضوع أدبي يقدم فيه أديبا عالميا، أو عملا ابداعيا هو تشيخوف، وعمله المسرحي 'الخال فانيا' ونشرهما علي التوالي: الأول في مجلة السياسة الاسبوعية في8 مايو 1933، والثاني في مجلة 'المعرفة' في عدد شهر يونيو من نفس العام.
وفي استعراضه لبدايات نجيب محفوظ، قدم الدكتور عبدالمحسن طه بدر في كتابه (الرؤية والأداة) قائمة بمقالات أديب نوبل التي نشرها قبل أن يكتب القصة، وكان منها هذان المقالان اللذان عثرنا عليهما في أروقة دار الكتب.
في 19 يناير سنة 1860 ولد أنطون تشكوف ببلدة تاجازوج في أسرة فقيرة تافهة التاريخ، إذا كان جده عبدا لأحد الموفرين وقد اشتري حريته بما وفره من مال سيده، ونشأ ابنه (والد أنطون) مقتصدا مديرا فاستطاع أن يترقي في وقت قصير من كاتب حقير إلي صاحب حانوت وعميد أسرة مكونة من أربعة أخوة وأخت واحدة، وكانت الأسرة محافظة شديدة المحافظة، عظيمة الرعاية للتقاليد الدينية، فتلقي الاطفال تربية دينية عن الأب وعن الأم وفي البيت وفي الكنيسة وبلغ من شدة غرام الوالد بموسيقي الكنيسة أن ألحق أطفاله جميعا بزمرة فاختلطت أصواتهم بأصواتهم الرفيعة وهي تنشد الأناشيد الدينية، علي أن هذه التربية الدينية وما بذل في سبيلها من شدة وعناية لم تأت إلا بعكس ما رجي منها وقد كتب أنطو في كهولته يقول 'عندما أستعيد ذكري طفولتي، نبدو في مخيلتي مروعة. وأني الآن بلا دين. ولما كنت أغني واخوتي في الكنيسة كان الناس يلقون علينا نظرات إعجاب وينفسوننا علي والدينا، ولكن كان يجرح نفوسنا احساس ذلة كأننا من عبيد السفن الصغار' ولكن هذه النشأة لم تضع هباء لأن الترتيلات الجميلة نقشت آثارا خالدة في نفس تشكوف وأشربت قلبه بالهيام بها: كانت نتيجته ميل الفتي إلي اللغة الروسية واهتمامه بها.
ولما شب قليلا التحق بمدرسة الابريشية وهناك كابد مدرسا شديد القسوة ضحل الفطنة والمعرفة بما أضاع عليه هذا المعهد السعيد وربطه في ذاكرته بالجفاف والفقر وجعله يكرر دائما أنه ليست له طفولة!
ثم التحق بمدرسة الأجرومية، وفي باديء عهده بها عرف بالكسل والغباء وإن كان إلي النفوس فذلك لنأيه بنفسه عن ميدان المنافسة ولابتسامة ساحرة لا تفارق شفتيه، إلا أنه في أواخر عهده بهذه المدرسة حدث انقلاب في نفس الفتي فقد زال خموله وانفض عنه الكسل وصقل مخه واحسر عنه الغباء وتدفق في عروقه دم النشاط والحيوية من غير أن يسلبه ذلك روح الفكاهة فبقي مرحا يقرأ الروايات بصوت مرتفع حتي يثير الضحك في الصدور ويغير من صوته ويحاكي مختلف الأصوات ويبدل من ملامح وجهه حتي لا يكاد يعرف وإخوانه من حوله يدهشون ويسرون.
ثم كان أن التحق بمدرسة الطب. وكان أن عبس الحظ لأبيه فهوي إلي قرار الخراب حتي اضطر إلي العمل ككاتب بسيط ولكنه لم يكف الأسرة بما اضطر معه الفتي أن يعمل لينقذ الاسرة من الموت جوعا وفي الحق لقد كانت هذه الفترة من حياة الأديب من أشق ماعاناه في حياته فهو طالب طب وأنت تدري ما يقوم به طالب الطب من واجبات شاقة وهو كاتب قصصي يؤلف لتسلية القراء بعد الغذاء وأنت تعلم ما يعانيه الكاتب إذا كان دافعه إلي الكتابة التكسب وسد العوز لا الالهام والحب ثم أنه يعيش في حي حقير تختلط ضوضاء الاطفال بصراخ الفتيان مثل هذه الحياة أقرب إلي الفناء والعدم لأنا لا نتذوق جمال الوجود ونحس بالحياة إلا في الساعات التي نقف فيها قليلا لنتأمل ونتملي، وكان يعلم أن أدبه غثا وقد حاول أن يكتب كما يريد ويتمني ولكنه لمن يلق تشجيعا ما.
وأخيرا رضيت الحياة أن ترفع عنه بعض اثقالها فنال دبلوم الطب والتحق بأحد المستشفيات للتمرين ولأول مرة أتيح له التعرف إلي لون من ألوان الحياة وهو الحياة الريفية واختلط بكثير من الريفين والضباط مما كان له كبير الأثر في خياله فيما بعد، ثم طلبه مدير جريدة نوفوفريميا ليكتب له قصصا محترمة ولعله سر غاية السرور لتخلصه من كتابة هذه القصص التافهة ونشط هنا لعمله نشاطا لفت إليه نظر بعض كبار الأدباء حتي أن خريجو رفتش كتب له يقول ' إن لك ملكة حقيقية، ملكة ترفعك إلي مكان يسمو علي دائرة أدباء الجيل الحديثين' فبعد أن كان غرضه المال أصبح يتطلع إلي الاجادة الفنية حتي فاز بجائزة بوشكين وأخذ صيته في الذيوع، إلا أن الاجهاد المستمر والعمل المواصل نالا من صحته كل منال وأنهكا قواه فبدت عليه علامات السل! وكم كان ارتياح لذلك عظيما! ولكنه أخفي الأمر وكتمه في صدره حذرا أن يتسرب إلي علم والدته التي يشفق عليها من الحزن والألم، ولم يكن هذا ولا غيره بمانعه من مواصلة عمله فكتب للمسرح روايات ناجحة مثل أيفانوف ' والخال فانيا' وقد صد عن التأليف للمسرح زمنا بسبب سقوط إحدي رواياته ولولا أن أعيد تمثيلها في موسكو ولاقت نجاحا باهرا لحرم المسرح من قلم تشكوف.
زادت آفاق حياته وزخرت بالتجارب والفهم الصحيح للأمور وتحسنت أحواله المالية فرحل إلي موسكو إلا أن المرض كان يغالبه مغالبة شديدة حتي انكشف أمره وعلم به من كان يشفق عليه أن يعلم به واضطر إلي نفي نفسه من وطنه الحبيب إلي جنوب فرنسا وهو أسيف وهنالك لقي زمنا يكابد آلام المرض ويعالج لواعج الشوق الحنين إلي موسكو وأناس بموسكو وأحس بتحسن في صحته وسارع بالعودة إلي الوطن ولأول مرة نري حياته تصطبغ بذلك اللون الوردي الجميل فقد عرف ممثلة هي أولجاليو ناردوفنا، والف الحب بين قلبيهما فتزوجا وساحا ويا ينعمان بالحب، وعاد المرض يطارده ويحرمه من الطمأنينة وعاد هو إلي منفاه تاركا زوجة ترجع إلي موسكو لتباشر عملها وتستطيع أن تتصور حاله وهو صريع القلب والصدر بعيدا عن وطنه.
واشتدت عليه وطأة المرض فرحل إلي ألمانيا حيث لحقت به زوجه، وتحدثت الزوجة عما كان يعانيه زوجها من الآلام وتشير إشارة خاصة إلي بقاء الصفاء مخيما علي روحه التي احتفظت بفكاهتها ودعابتها وهكذا لم تملك أن تضحك له وهي جد جزعة عليه. وأخيرا هزم ذلك الجسم الريفي القوي أمام المرض الخبيث وقضي صاحبه الأديب.
كان في طبيعة تشكوف ما يمنعه عن الابانة الصريحة عن ذات نفسه فلم يخلف لنا مذكرات شخصية تنفع المؤرخ النفساني، حقا إن رسائله كثيرة وكأنها في الغالب تتناول مواضيع عامة أدبية وفلسفية وعليه فالمرجع الثقة لمن يريد أن يتعرف إلي هذه النفس الادبية هو مؤلفاته وبعض رسائله الخاصة ومن الحق علينا أن نتكلم عن إيمانه فإن الرجل أو عدمه أدق مقياس يزن أفعاله وتصرفاته وتشكوف يقول صراحة إنه فقد الايمان برب الكنيسة وهو صغير. وطال عهده بهذه الحرية الدينية وبقي يلهو ويعبث ويعمل من غير ما يكدر صفو قلبه بأسئلة الايمان الملحة التي قد تبلغ حد العذاب، وكأنك بعد ذلك تحس بالجد في كتابته فكأن نظرته إلي الحياة حالت وكأن الحياة في نظره كبرت، وتتوالي اسئلته عن الحياة والموت وتكاد تلمس المرارة التي يفيض بها قلبه المرهف الحس، وخرج عن قبة نفسه ليواجه المشاكل الاجتماعية الكثيرة واستحوذ عليه اهتمام كبير بها، اغراه بالتعرض لأهوال السفر لمجرد التعرف إلي أناس جددوا أخلاق جديدة، ويظهر لنا اهتمامه هذا واضحا في حادث تنازله عن لقب العضوية بأكاديمية العلوم احتجاجا علي الغاء انتخاب ما كسيم جوركي بسبب مذهبه السياسي وقد أهتم كبقية الكتاب الروس بمسائل العمل ونحن ننقل هذه الكلمة له لنتعلم منها شيئا عن خياله الاصلاحي قال 'إذا كنا جميعا سواء من يسكن المدن أو من يقيم في الارياف نرضي بأن نقتسم فيما بيننا العمل الذي يبذله البشر في اشباع حاجاته الطبيعية فإن أحدا منا لا يمكن أن يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث كل يوم. ونبقي بعد ذلك أحرارا بقية اليوم، ونهب هذا الوقت للعلوم والفنون. كلنا نبحث عن الحقيقة وعن معني الحياة هنالك وأني لو أثق أن ينكشف لنا وجه الحق. ويستطيع الانسان أن يخلص نفسه من فزع الموت الدائم الذي يصليه نار العذاب'
وفي النهاية أهتدي الاديب الي الايمان وكان إيمانه بالانسان بمستقبله وبرقيه، وإنك لتحس بايمانه هذا إذا قرأت له إحدي رواياته ويتأكد إحساسك كلما أمعنت في القراءة، نعم أن حياة الإنسان الواقعية تثير سخطه ورحمته، وهو دائما يصور شقاء الانسان ويتهمه بأنه السبب في كل ما يحيق به من أسباب الالم بما تفيض به نفسه من ميول للتشاحن والبغضاء وعواطف الاثرة والشر ويخيل إليك وأنت تقرأ بعض رواياته أنك تقرأ 'البيت الكسير الفؤاد لبرنارد شو' إذا لاحظت الموضوع والغرض فهو يتخيل العالم أو أوروبا في أسرة كل فرد من أفرادها مصاب بما يضلله عن طريق السعادة فإذا قاربت الرواية النهاية سمعت نداء عذبا إلي السعادة وتفاؤلا صريحا بالمستقبل السعيد.
علي أنه بقي وسط هذه المذاهب الاجتماعية والمشكلات الانسانية فنان خالص لوجه الفن وقد قال في ذلك : 'الميل جذوره في عجز الانسان عن أن يعلو عن التفاهات من الأمور، الفنان ينبغي أن يبقي شاهدا نزيها فقط، لست حرا ولست محافظات ولست مصلحا. أني أحب أن أكون فنانا فقط.'