نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





في مئوية سيد الساخرين :
حياته قصة قصيرة.. نهايتها مفتوحة


محمود الورداني



'السبل التي فتحتها ستبقي سليمة وصامدة، وهنا تكمن كل قيمتي'.
هكذا كتب أنطون تشيخوف في رسالة إلي مكسيم جوركي منذ أكثر من مائة عام، وكما تنبأ تشيخوف نفسه، مازالت السبل التي فتحها والأبواب التي طرقها والأساليب التي ابتدعها.. مازالت كلها سليمة وصامدة.
مائة عام مرت علي رحيل تشيخوف ومازالت قصصه القصيرة ومسرحياته حية متألقة تلمس أعماقنا وتهدهدها بخفوت ورقة أوتار الكمان. من الصعب أن تجد في كل أعماله كلمة واحدة عالية نابية تخدش الأذن، فهو الكاتب الأقل إثارة والاخفت صوتا والأعمق تأثيرا..
وهذا العام 2004 هو عام تشيخوف بلا منازع، علينا أن نحتفل به ونتذكره ونستعيد أعماله وسيرته الذاتية التي تشبه سيرة أصحاب الرسالات الكبري في تاريخ الانسانية من الكتاب والفنانين الذين كان عملهم منحة من السماء ومحاولة لتخفيف ألم الانسانية.

***

ولد انطون تشيخوف في 17 يناير 1860 في بلدة صغيرة اسمها 'تاجا نروج' علي الشاطيء الشمالي الشرقي لبحر الخرز. كان جده المباشر قنا منذ مولده، إلا أنه بفضل براعته وعمله الدؤوب أفلح في أن يصبح مدير مصفاة السكر التي يملكها سيده، وكان قد تعلم القراءة والكتابة، واستطاع عام 1841 أن يشتري حريته وحرية زوجته وثلاثة من ابنائه بمبلغ كبير هو 700 روبل، وبقيت ابنته بعد أن دفع آخر نقوده، إلا أن مالكه كان كريما فمنحه ابنته كجزء من الصفقة. وما أن أصبح ييجور بافلونتشي تشيك حرا حتي استطاع أن يعمل 'الوكيل المسئول' عن أملاك الكونتيسة بلاتوفا الواسعة، وفي نفس الوقت، تخلي عن اسم العائلة 'تشيك' الذي كان يوحي بنغمة احتقار واتخذ لنفسه اسم تشيخوف.
أما أبوه بافل فعمل كاتب حسابات لدي رئيس بلدية تاجا نزوج، وأمه يفجينا مثله تنتمي لأسرة من الأقنان. وبعد سنوات من التوفير والاقتصاد نجح الأب في تحقيق حلم حياته، حيث اشتري محل بقالة في تاجا نروج التي سماها البعض 'المدينة الصماء' بسبب فقرها وتعاستها.
كتب تشيخوف عن ذكريات طفولته المبكرة: 'كان أول ما يخطر لي حين أستيقظ في الصباح هو: هل سأضرب اليوم؟' فقد بدأ أبوه في ضربه قبل ان يبلغ الخامسة من عمره، وهو الابن الثالث بين ستة أشقاء من بينهم شقيقته التي ستلعب دورا هاما في حياته واسمها ماريا.
كانت قسوة الاب وبطشه بأبنائه وزوجته ليست أكثر من وسيلة ليغرس فيهم 'الحقائق المقدسة' علي حد تعبير الأب، وكمسيحي طيب كان عليه أن يستعمل العصا يوميا في تهذيب الجميع. أما أنطون فكان يقضي أغلب أيامه مصطحبا كتاب قواعد اللاتينية قابعا في دكان أبيه البارد ويراقب حركة البيع والشراء في المتجر مرتجفا يكاد يتجمد.
ومن كابوس المتجر إلي كابوس الكنيسة، ينتقل ابناؤه، فالأب كان مهووسا بالدين، ويحرص علي أن يؤدي الجميع صلواتهم اليومية داخل الكنيسة، بل وقرر أن تشكل الاسرة جوقة للكنيسة يحفظون الترانيم بين العاشرة ومنتصف الليل في المتجر القارس البرودة، ويؤدون صلواتهم وترانيمهم في الفجر..
الا أن كل هذا لم يحل دون أن ينهار متجر بافل ييجورفيتش في النهاية لتدخل الأسرة في نفق مظلم من الفقر والتعاسة.

***

عمل أنطون واشقاؤه صبيانا في المتاجر، والتحقوا بالمدارس في نفس الوقت، ويمكن تخيل كيف سارت الحياة بالأسرة، لكن عام 1873 شهد صدمة أنطون الاولي حين اصطحبه أحد أصدقائه ليشاهد المسرح فأصابه الجنون تقريبا! كان عليه أولا أن يرتدي معطف أبيه الفضفاض ويخفي عينيه خلف نظارة زرقاء، وبعد هذا التنكر يلجأ للتسلل لأن التلاميذ كانوا ممنوعين من ارتياد المسارح دون موافقة مديري المدارس، كما كان عليه أن يصل إلي شباك التذاكر قبل افتتاحه بساعتين ليرسم خطة التسلل المحكمة! وسرعان ما لجأ بدلا من كل هذه المتاعب لتكوين فرقة مسرحية خاصة من أشقائه وشقيقاته، حيث ينتهزون فرصة غياب الأب ويمثلون مسرحياتهم المرتجلة أمام الجيران والأصدقاء.
لكن سياسة القبضة الحديدية للأب، دفعت الشقيقين الأكبرين لانطون وهما الكسندر ونيقولاي للهرب إلي موسكو عام .1875 كان الأول ينوي دراسة الرياضيات والثاني دراسة الرسم. ازداد الأب عنفا وبطشا ببقية ابنائه، وكرد فعل علي هذا الجو الخانق انغمس انطون في تحرير مجلة من نسخة واحدة مكتوبة بخط اليد سماها 'المتأتيء'، وتتكون من صور قلمية موجزة تدور حول الحياة المحلية للمدينة الصغيرة.
وفي نفس الوقت كانت المصاعب المادية تتزايد علي الأب، بل وأعلن أفلاسه وهرب قبل أن يزج به في السجن، بينما بقيت الأم تحاول بيع البيت أو التصرف في قطع الأثاث دون جدوي. وهكذا سرعان ما تفرقت العائلة، حيث رحلت الأم مع ابنيها ميخائيل وماريا إلي موسكو لتلتحق بزوجها المعدم، بينما بقي أنطون ثلاث سنوات يستكمل تعليمه معتمدا علي اعطاء الدروس الخصوصية.
منذ السادسة عشرة كان علي أنطون أن يتحمل مسئولية إعالة نفسه ودراسته وحيدا، ولم يعد هناك ما يربط بينه وبين أسرته سوي الرسائل المتقطعة، وأغلبها شكاوي واستغاثات من الأم التي كانت قد تركت بعض قطع الأثاث القليلة وطلبت من انطون أن يبيعها ويرسل لها الثمن. من بين هذه الرسائل ما كتبته الأم في 25 نوفمبر 1876، وفقا لما جاء في كتاب هنري تروايا 'أنطون تشيخوف' والذي صدرت له ترجمتان إلي العربية، الاولي ترجمة خليل الخوري عن الشئون الثقافية ببغداد عام 1987، والثانية ترجمة حصة منيف عن المجلس الاعلي للثقافة في مصر عام ..2000 كتبت الأم:
'تلقينا منكم رسالتين مليئتين بالنكات والسخرية في وقت لم نكن نملك فيه إلا أربع كوبيكات لشراء الطعام والشموع، كما كنا نتوقع أن ترسل لنا نقودا فوضعنا صعب للغاية، وقد لاتصدق ذلك، ماشاليس لديهما معطف، وأنا لا أملك حذاء مبطنا بالفرو، ولذا فإننا نبقي في البيت باستمرار، وليس لدي ماكينة خياطة تمكنني من الحصول علي قدر ضئيل من المال، كما أنك لم تخبربنا متي سترسل النقود المستحقة لنا.. بحق الله ارسل لنا النقود بسرعة حتي لا أموت كمدا'.
واستطاع أنطون الذي كان يمتلك ارادة حديدية استكمال دراسته ليحصل علي الدبلوم ويحقق حلم حياته بدراسة الطب، وفي نفس الوقت استطاع خلال أيام الأحاد والعطل ان يقرأ في مكتبة المدينة العامة آلاف الكتب الأدبية والفلسفية.

***

وفي عام 1877 أرسل له شقيقه الكسندر في عطلة عيد الفصح تذكرة قطار ليلحق بهم في موسكو التي تبعد 1200 كيلومتر. وعندما وصل أنطون وجد العائلة تعيش في غرفة مفروشة لا أكثر، ينامون جنبا إلي جنب علي مرتبة يفرشونها علي الأرض عندما يحل الليل، انه بؤس ما بعده بؤس في جو موسكو القارس. وسرعان ما أدرك أنطون إلي أي حد انحدرت احوال العائلة، وأدرك في نفس الوقت أنه الوحيد الذي يمكنه انقاذها لأن أخوته الأكبر لايمكن الاعتماد عليهم.
غير أن هذه الزيارة القصيرة فتحت عين أنطون لأول مرة علي المدينة العريقة الضخمة، وقارن بينها وبين تاجروج التي عاد اليها ليفكر للمرة الاولي في الكتابة، وفي نوفمبر 1877 أرسل لأخيه الكسندر بعض القصص القصيرة ليعرضها علي المجلات الهزلية في موسكو، الا أن كل قصصه رفضت. وفي أغسطس من العام التالي 1879 كان قد أنهي امتحاناته وحصل علي الدبلوم بدرجات ممتازة، وسافر إلي موسكو ليلحق بأسرته ويدرس الطب.
كانوا عشرة أشخاص يعيشون فوق بعضهم في غرفة سيئة التهوية، بعد التحاق طالبين من الاصدقاء ويدفعان 60 روبلا، بينما كان انطون يحصل علي منحة قدرها 25 روبلا شهريا، وصمم انطون علي أن ينهض بعائلته ويتحمل مسئوليتها. وبعد شهر واحد انتقلت الأسرة إلي شقة أكثر اتساعا وبدأت الأمور تتحسن، فقد عكف انطون علي كتابة عشرات القصص الهزلية بهدف واحد هو الحصول علي دخل منها. وبحلول عام 1883 كان قد كتب 129 مقالة وقصة وكلها بأسماء مستعارة.
أما الحياة الاجتماعية للأسرة فقد تميزت بملمح سيظل مسيطرا حتي رحيل تشيخوف، وهو أن البيت مفتوح طوال الليل والنهار لضيوف لاينقطعون: يأكلون ويشربون ويثرثرون ويسكرون، حتي أن تشيخوف كان يشتكي من أنه لايجد زاوية يكتب فيها، لكنه كان مع ذلك يسعد باستضافة كل هؤلاء البشر.
وعندما عرض عليه أن ينشر قصصا هزلية لقاء 8 كوبيكات للسطر الواحد لم تسعه الدنيا من الفرحة، لكن المجلة التي اتفق معها رفضت عشرات القصص بسبب طولها، فظل تشيخوف يوجز ويستبعد من سطور قصصه حتي وافقوا أخيرا..
وظلت القصص بالنسبة إليه حتي ذلك الوقت مجرد وسيلة للحصول علي ما ينفق منه علي أسرته، وبقي عشقه الاول هو الطب وشغفه الأساسي ربما حتي نهاية حياته، ولم يكن مهما أن يحصل علي أجر من مرضاه ماداموا فقراء، إلا أنه في ديسمبر 1884 تلقي الانذار الاول للمرض الذي ما لبث أن أودي به، وهو عبارة عن سعال جاف ونفثات دم. ولم يكن خافيا عليه معني هذه الانذارات، الا أنه آثر تجاهل الأمر، بل وبدا كأنه يدفن رأسه في الرمل، ويمضي في عمله سواء كطبيب أو كقاص، ويكفي أنه كتب بين 1880 و 1884 ما يزيد علي 300 نص تحت أسماء مستعارة.

***

وفي أحد أيام ديسمبر 1885 استقل القطار ليزور للمرة الأولي عاصمة روسيا بطرسبورج التي يعيش فيها كبار الكتاب مثل شيدرين وواسبنسكي وبليشيفه. قضي أسبوعين تعرف خلالهما علي شخصية ستلعب دورا مؤثرا في حياته وهو الكسي سيفورين أحد أقطاب الصحافة ورئيس تحرير أكبر الصحف اليومية 'الأزمنة الحديثة'، واتفقا علي أن يكتب تشيخوف لهذه الصحيفة الواسعة الانتشار، وعلي الرغم من الحاح سيفورين علي أن يتخلي انطون عن اسمه المستعار ويكتب باسمه الحقيقي الا أنه رفض تماما حتي جاءته من الناقد الكبير جريجورو فيتش رسالة شخصية مطولة. واذا علمنا ان هذا الناقد هو نفسه الذي سبق له أن قدم ديستويفسكي إلي الحياة الأدبية منذ 40 عاما لأدركنا أهمية الرسالة التي تقول سطورها:
'لقد قرأت كل ما هو موقع باسم تشيخونتي (وهو الاسم المستعار لتشيخوف)، وان كنت أشعر بغيظ داخلي من انسان يقلل من شأن نفسه بحيث يجد أن استعماله اسما مستعارا هو أمر ضروري، ان لديك موهبة حقيقية، موهبة ترفعك إلي موقع أعلي بكثير من الكتاب المعاصرين' وأضاف.. دعك من مواعيد تسليم محددة. لست أعرف عن دخلك شيئا، فان كان قليلا فإن عليك أن تجوع كما فعلنا في سني شبابنا.. اكتب فقط خلال ساعات الهامك السعيدة، لادفعة واحدة'.
شكلت هذه الرسالة انقلابا في حياته، ودفعته لأن ينشر مجموعته القصصية الاولي 'قصص منوعة' إلا أن الصحافة لم تستقبلها استقبالا حسنا، لكن مجموعته الثانية 'عند الغسق' علي العكس نالت اعترافا به.
أما مسرحيته الاولي 'ايفانوف' فكتبها خلال عشرة أيام وعرضت باسمه الحقيقي 'تشيخوف' في نوفمبر 1887 لكنها سقطت سقوطا ذريعا، ولم ينقذه من الاكتئاب إلا جائزة بوشكين التي منحت له علي مجموعته الثانية..
وبعد ثماني سنوات من ممارسة الكتابة كان مايزال يعتبر القصص في المرتبة الثانية بعد الطب. انه طبيب أولا وكاتب ثانيا، لكنه كان قد توصل إلي عدد من القناعات، من بينها رفضه أن يضيف: كتب 'لست ليبراليا ولا محافظا، كما أنني لست من أنصار التدرج ولست راهبا أو عديم الاكتراث. كل ما أوده أن أكون فنانا حرا ولاشيء غير ذلك.. انني أكره الكذب والعنف بكل أشكالهما، فالرياء وبلادة الذهن لايحتلان مكان الصدارة في منازل التجار ومراكز الشرطة فقط، بل أراهما ايضا في مجال العلم والأدب بين جيل الشباب' كتب ايضا 'ليست مهمة الكاتب في رأيي أن يحل مشاكل تتعلق بأمور مثل الله والتشاؤم، بل يسجل ما يقوله أو يفكر فيه شخص ما في وضعية ما حول الله أو التشاؤم. ليست مهمة الكاتب أن يكون قاضيا يصدر الاحكام علي أبطاله، بل يكون شاهدا محايدا.. مهمتي فقط أن أكون موهوبا أي أتمكن من التمييز بين الشهادات المهمة وعديمة الأهمية'.
كتب الناقد كورني تشوكوفسكي في كتاب (أ. ب. تشيخوف) الذي ترجمه أحمد القصير: 'أي فضاء مهما كان اتساعه يستطيع ان يتسع لكل هؤلاء: رجال البوليس، القابلات، الممثلين، الترزية، المساجين، الطباخين، العجائز المتدينات، المدرسين، العاهرات، ملاك الأراضي، الرهبان، السيرك، الموظفين، التافه والمهم، الفلاحين في الريف الشمالي والجنوبي، قادة الجيش، خدم الحمامات، المهندسين، اللصوص، الشماسين، التجار، منشدي الترانيم في الكنائس، الجنود، الخاطبات، ضابطي الايقاع، رجال المطافيء، القضاة، سدنة الكنائس.. الخ'.
هذا هو ما أضافه تشيخوف الذي كان معروفا لدي أصدقائه بتدبير المقالب المهلكة، كأن يدس بطيخة ثقيلة ملفوفة بعناية في ورق بني في يد رجل البوليس قائلا له: 'قنبلة.. أذهب بها إلي مركز البوليس ولاتنس أن تكون حريصا!.. كان مسلكه صبانيا تماما حتي وهو كاتب كبير، وفي نفس الوقت كان قادرا علي أن يجعل عشرات الآلاف من القراء يذرفون الدمع علي الواقع الروسي البشع. جوركي مثلا كانت قصص تشيخوف تجعله يجهش بالبكاء، بل وكتب له عندما شاهد الخال فانيا: 'شاهدت الخال فانيا أمس. شاهدتها وبكيت كأني امرأة مع أني أبعد ما أكون عن العاطفية'.
والحقيقة أن جوركي لاينفرد بهذا، فحتي الممثلون الذين يمثلون المسرحية كل ليلة كانوا ينخرطون في البكاء مع الجمهور..

***

من جانب آخر، وكما عبر صلاح عبدالصبور في كتابه 'في مدينة العشق والحكمة' كان تشيخوف عدوا للتفاهة وظل العمل هو لذته الكبري، وطوال العشرين عاما الاخيرة من حياته بقي يهتم بشئون الآخرين، كان وحده مؤسسة أدبية كبري، فقد عمل علي طبع عشرات الأعمال الادبية للكتاب الشباب، بل وكانت ترسل له مئات القصص التي يعلق عليها كتابة ويرسلها لأصحابها، وخدعه ناشرو أعماله وسرقوه في وضح النهار، ومع ذلك ظل يساعد الكثيرين في سرية.
يكفي أن أشير إلي أنه في يونيه 1904 وهو علي فراش الموت كان يحاول مساعدة ابن شماس الكنيسة في التحويل من جامعة إلي أخري! أما معاصره وصديقه الكاتب الكسندر كوبرين فيذكر أنه حينما ضرب بلطجي حمالا علي ظهر احدي البواخر في حضور تشيخوف، صرخ الحمال بأعلي صوته: من الذي تضربه؟ هل تعتقد أنك تضربني؟ انظر إلي من تضربه' وأشار إلي تشيخوف وكأنه أدرك أن آلام الآخرين انما هي آلام تشيخوف نفسه!!
وفي عام 1889 اتخذ قرارا، ساعد فيما بعد علي أن يلقي حتفه وهو في هذه السن المبكرة 44 عاما حين أصر علي أن يزور جزيرة سخالين، وهي مستعمرة في المحيط الهاديء استعملت كمركز للعقاب للمجرمين ومنفي للسياسيين، ليري بعينه ما الذي يجري في هذه الجزيرة الاسطورة والابعد حتي من سيبريا وهو في هذه الحالة الصحية الهشة.
لن أسهب كثيرا في وصف تفاصيل ما تعرض له تشيخوف في رحلته المرعبة داخل مستعمرة العقاب، وجلسات الجلد التي حضرها والحياة التي يحياها السجناء، والدعارة والاهانة التي تلحق بهم. ولم يكن كل هذا التعب من أجل الفرجة فقط، بل أجري احصاء رسميا وأبحاثا حول الأمراض المنتشرة، وكتب عددا كبيرا من المقالات التي تصف جحيم سخالين من أجل انقاذ، ما يمكن انقاذه وتوفير الشروط الضرورية لحياة هؤلاء البؤساء.
لم تحقق قصصه فقط كل هذه الشهرة، فقد كان واحدا من أعمدة المسرح الحديث عبر بستان الكرز والخال فانيا والنورس والشقيقات الثلاث، كانت كلها فتحاجديدا في عالم المسرح، حيث كتب عن أولئك المنسيين الذين علي وشك الانهيار المادي والمعنوي والباحثين عن لحظات قليلة من السعادة دون جدوي. ولعل انجازه الحقيقي يكمن في امكانية أن يقدم مسرحا لا يحتاج للزعيق أو الأحداث الكبري، بل مسرح شجي خافت الصوت، والمعروف ان تشيخوف كان كثيرا ما يعارض المخرجين الذين يحبون المؤثرات الصوتية والضوئية ويصر علي عدم استخدامها.
واذا كان تشيخوف قد زار بلادا عديدة في أوربا وآسيا، إلا أن ولاءه الاول ظل لمسقط رأسه تاجنروج التي بني بها المدارس والمكتبات، إلي جانب انشائه أول ناد للشعب بموسكو وعيادة مجانية للأمراض الجلدية ثم ثلاث مدارس لابناء الفلاحين ومحطة مطافي، وكان يعالج في مقره الريفي ما يزيد علي ألف مريض سنويا بالمجان فضلا عن تقديم الدواء لهم.

***

أما حياته العاطفية، فقد ظل حريصا علي أن يبتعد عن الارتباط بامرأة معينة، وظلت كل علاقاته خاطفة سريعة، وان كانت الكثيرات زعمن أنه وقع في هواهن مثل ليديا ايفانوفا التي ظلت تحاول استدراجه قرابة سبع سنوات. لكنه اضطر للزواج اضطرارا قرب نهاية حياته بناء علي الحاح من احدي بطلات مسرحياته أولجا كيير.
وفي السنوات الأخيرة من حياته كان السل قد نهش رئتيه، ولم يعد قادرا علي الاقامة في موسكو، واضطر لشراء بيت في يالطا حيث الجو أدفأ، وبعد محاولات مستميتة من جانبه للافلات من الزواج، وعلي الرغم من حالته الصحية المتدهورة، الا أن زواجهما تم في نهاية الأمر. وكانت أولجا تعمل كممثلة علي أحد مسارح موسكو، ولذلك لم يتح لهما الاقامة معا فترات طويلة، وهو ما أثر عليهما، فمن جانبه كان يريدها معه لكنه لايستطيع أن يقف في طريقها كفنانة، ومن جانبها كانت تريد البقاء معه، وظلت حسبما يتبين من مراسلاتهما تتهم نفسها بالجحود.
وفي مارس 1903 كتبت له أولجا أنها فقدت جنينها وأجهضت أصابه هذا الخبر بالحزن الشديد، فقد كان أحد آماله الكبري أن يري طفلا من صلبه.
واذا كان تشيخوف حريصا علي الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وكان يرفض دائما توقيع البيانات السياسية، إلا أنه في لحظة معينة قرر الاستقالة من الاكاديمية الروسية احتجاجا علي فصل صديقه مكسيم جوركي، ونشر خطاب استقالته في الصحف السرية ووزع خارج البلاد، وتلقي تقديرا علي موقفه الشجاع وتحية من المثقفين، خصوصا أن تولستوي كان قد تهرب من الموضوع!
وفي يونيو 1904 وبعد ان ازدادت حالته الصحية تدهورا أصر الأطباء علي ضرورة سفره إلي ألمانيا للعلاج. صحبته أولجا زوجته وقضت معه شهرا تقريبا في منتجع صحي هناك. وفي احدي الليالي فوجئت أولجا به بعد منتصف الليل يجلس منتصبا في فراشه ويطلب الطبيب للمرة الأولي. وعندما وصل الطبيب، استجمع تشيخوف كل معلوماته في اللغة الألمانية وقال معتذرا للطبيب الذي جاء في الساعات الاولي من الفجر، قال له بالالمانية: انني أموت!
كان الطبيب علي وشك ان يطلب اسطوانة اوكسجين، الا أن تشيخوف الذي ظل صافي الذهن حتي اللحظة الاخيرة قال له: 'ما الفائدة لن تصل إلا بعد أن أكون قد أصبحت جثة هامدة'.. لذلك طلب الطبيب زجاجة شمبانيا. واحتسي تشيخوف بالفعل كأسا والتفت إلي أولجا مبتسما وقال لها: 'لم أشرب الخمر منذ وقت طويل'.
أفرغ كأسه ببطء وتمدد علي جانبه الايسر، وبعد لحظات قليلة توقف تنفسه وانتقل ببساطة إلي العالم الآخر.
ولأن تشيخوف كان ساخرا عظيما في حياته، فان جنازته أيضا لم تخل من السخرية. كان جثمانه قد نقل من ألمانيا بالقطار، وفزع مستقبلوه عندما وجدوا النعش ينقل في عربة شحن قذرة كتب علي بابها بأحرف كبيرة 'لشحن المحار'. وكانت هناك فرقة عسكرية اصطفت علي الرصيف لتعزف لحنا جنائزيا، واعتقد المشيعون ان الحكومة رأت أخيرا أنه من المناسب أن يتم دفن تشيخوف علي نحو لائق، إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذه الفرقة جاءت لتشييع نعش أحد الجنرالات، بينما مضي نعش تشيخوف خاليا من كل المظاهر، ولايتبعه أكثر من مائة شخص.
تلك هي الملامح السريعة لحياة تشيخوف التي لم تستمر إلا أربعة وأربعين عاما، لكنه غير خلالها شكل ومضمون القصة القصيرة عالميا، وأضاف للمسرح اضافة لايستهان بها..
واذا كان يوسف ادريس قد صرح قبل وفاته بأشهر قليلة بأن حياته ليست اكثر من قصة قصيرة طالت قليلا، فان تشيخوف كان قصة قصيرة.. وظلت قصيرة..