قصة قصيرة........

القناع
اقيم في نادي 'س' الاجتماعي حفل تنكري لغرض خيري.
كانت الساعة الثانية عشرة ليلا. وجلس المثقفون غير الراقصين * وكانوا خمسة *في قاعة المطالعة الي طاولة كبيرة ودسوا أنوفهم ولحاهم في الجرائد وراحوا يقرأون وينعسون، و'يفكرون' علي حد تعبير المراسل المحلي لجرائد العاصمة، وهو سيد ليبرالي جدا.
وتناهت من الصالة العامة أنغام رقصة 'فيوشكي' . ومن حين لأخر كان الخدم يهرولون بجوار الباب وهم يدقون عاليا باقدامهم ويثيرون رنين الاواني. بينما كان الصمت العميق يسود قاعة المطالعة.
وفجأة تردد صوت غليظ مكتوم بدا وكأنه صادر من المدفأة.
* يبدو أن المكان هنا سيكون مناسبا.، تعالوا هنا يا أولاد! تعالوا، تعالوا!
وفتح الباب، ودخل قاعة المطالعة رجل عريض، ربعة، يرتدي حلة حوذي وقبعة بريش طاووس وقناع، وتبعته سيدتان مقنعتان وخادم يحمل صينية. وكان علي الصينية زجاجة ليكير منبعجة وثلاث زجاجات نبيذ أحمر وبضعة أكواب.
وقال الرجل:
* تعالوا! الجو هنا بارد.. ضع الصينية علي الطاولة..
اجلسن يا موزمزيلات! جي فو بري أما انتم يا سادة فلتفسحوا.. هيا من هنا!
وتمايل الرجل وازاح بيده عدة مجلات من علي الطاولة.
* ضع هنا! اما انتم ايها السادة القراء. فلتفسحوا، لا وقت هنا لقراءة الجرائد والسياسة.. دعوا عنكم هذا!
فقال أحد المثقفين وهو ينظر الي صاحب القناع من خلال نظارته:
* الزم الهدوء من فضلك، هذه قاعة مطالعة وليس بوفيه.. ليس هذا مكانا للشرب....
* ولماذا ليس مكانا؟ هل الطاولة تتأرجح أم ربما السقف يتساقط؟! شيء عجيب ! حسنا... لا وقت عندي للحديث! اتركوا الجرائد.. يكفيكم ما قرأتم.. أنتم هكذا اذكياء أكثر من اللازم، كما انكم تتلفون ابصاركم. واهم ما في الامر انني لا اريد انتهينا.
ووضع الخادم الصينية علي الطاولة، وطوي الفوطة علي ذراعه ووقف بجوار الباب. وشرعت السيدتان فورا في تناول النبيذ الاحمر.
وقال الرجل ذو ريش الطاووس وهو يصب لنفسه ليكيرا:
* كيف يوجد اناس اذكياء يعتبرون الجرائد أفضل من هذه المشروبات، اما انا فأري أيها السادة المحترمون انكم تحبون الجرائد لانكم لا تملكون ما تشربون به، اليس كذلك؟ ها * ها! .. انهم يقرأون! حسنا وما هو المكتوب هناك؟ أيها السيد ذو النظارة، اية وقائع تقرأ؟ ها * ها! دعك من ذلك! كفاك تمنعا. اشرب أفضل.
ونهض الرجل ذو ريش الطاووس وانتزع الجريدة من يدي السيد ذي النظارة، فامتقع هذا، ثم تضرج ونظر بدهشة الي بقية المثقفين، ونظر هؤلاء اليه.
وانفجر قائلا:
* انك تتجاوز حدودك يا سيدي المحترم. انك تحول قاعة المطالعة الي حانة.. انك تسمح لنفسك بالعربدة واختطاف الجرائد من الايدي! لن اسمح لك! انت لا تعرف مع من تتحدث يا حضرة المحترم! أنا جيستياكوف، مدير البنك!
* طظ، فلتكن جيستياكوف! أما جريدتك فها هي قيمتها...
ورفع الرجل الجريدة ومزقها قطعا.
ودمدم جيستياكوف مصعوقا:
* ما هذا يا سادة؟ هذا شيء غريب... هذا... هذا غير معقول...
فضحك الرجل قائلا:
* سيادته زعلان! آي، آي اخفتني! اقدامي ترتعش، اسمعوا أيها السادة المحترمون! كفي مزاحا.. أنا لا ارغب في الحديث معكم.. ولما كنت اريد أن ابقي هنا مع الموزمزيلات علي انفراد واريد أن امتع نفسي، لذلك ارجوكم الا تحرنوا ولتخرجوا.. تفضلوا من هنا! يا سيد بيليبوخين اخرج من هنا في ألف داهية ما لك تقلب سحنتك؟ اقول لك اخرج يعني تخرج! هيا عجل والا اهويت علي قفاك!
فتساءل بيليبوخين صراف المحكمة وهو يحمر ويهز كتفيه:
* كيف! ما معني هذا؟ أنا حتي لا أفهم .. شخص وقح يقتحم علينا المكان.. وفجأة يتفوه بهذه الاشياء!
فصاح الرجل ذو ريش الطاووس غاضبا، ودق بقبضته علي المائدة حتي تراقصت الاكواب علي الصينية:
* ماذا تقول؟ وقح؟ لمن تقولها؟ اتظن انني ما دمت في القناع فبوسعك أن توجه لي مختلف الكلمات؟ يا لك من مشاغب! اخرج من هنا اقول لك ! يا مدير البنك، انكشح من هنا بالمعروف! اخرجوا جميعا، اياكم أن يبقي منكم لئيم هنا! غوروا في الف داهية!
فقال جيستياكوف الذي غامت نظارته من شدة الانفعال:
* حسنا، سنري الآن! سأريك! ايه، استدع الشاويش المناوب!
وبعد دقيقة دخل شاويش صغير أحمر الشعر بشريط ازرق علي ياقة سترته وهو يلهث من الرقص، وقال:
* تفضلوا بالخروج، ليس هذا مكانا للشرب! تفضلوا في البوفيه!
وسأل الرجل ذو القناع:
* من أين جئت أنت؟ هل أنا دعوتك؟
* أرجو أن تخاطبني باحترام وتفضل بالخروج!
* اسمع يا عزيزي.. سأمهلك دقيقة.. وطالما أنت شاويش وشخصية مهمة، فلتسحب هؤلاء الممثلين من أيديهم، مزموزيلاتي لا يعجبهن وجود غرباء هنا.. يشعرن بالخجل، وأنا اريد مقابل نقودي ان يكن في حالتهن الطبيعية..
وصاح جيستياكوف:
* يبدو أن هذا المأفون لا يفهم انه ليس في حظيرة. استدعوا يفسترات سبيريدونتش!
وترددت في النادي:
* يفسترات سيبيريدونتش! أين يفسترات سبيريدونتش؟
وسرعان ما ظهر يفسترات سبيريدونتش، وهو عجوز يرتدي حلة شرطي. وصاح بصوت مبحوح وهو يبحلق بعينيه المرعبتين ويحرك شواربة المصبوغة:
* تفضل بالخروج من هنا!
فقال الرجل وهو يقهقه من المتعة:
* آه، لقد ارعبتني! أي والله ارعبتني! اقسم لكن انني لم أر شيئا رهيبا كهذا! شواربة كشوارب القط، وعيناه جاحظتان.... ها * ها * ها ! ها * ها! فصاح يفسترات سبيريدونتش بكل قوته واهتز بدنه:
* ممنوع الكلام! اخرج من هنا! سآمر بطردك!
وارتفع في قاعة المطالعة صخب لا مثيل له. كان يفسترات سبيريدونتش يصرخ ويدق بقدميه وقد احمر كسرطان البحر. وكان جيستياكوف يصرخ.، وكان بيليبوخين يصرخ. كان جميع المثقفين يصرخون، ولكن غطي علي أصواتهم جميعا صوت الرجل ذي القناع الغليظ الاجش. وبسبب الهرج العام توقف الرقص، وتقاطر الناس من الصالة إلي قاعة المطالعة.
ولكي يظهر يفسترات سبيريدونتش هيبته استدعي جميع رجال الشرطة الموجودين في النادي، وجلس ليكتب محضرا.
فقال ذو القناع زهر يدس اصبعه تحت القلم.
* اكتب، اكتب، يالي من مسكين، تري ماذا سيحدث لي الآن؟ يا لحظي البائس! حرام عليكم ما تفعلونه بيتيم مثلي!
ها * ها * ها حسنا، ماذا؟ هل محضرك جاهز؟ هل وقع الجميع؟ فلنتظروا الآن اذن! واحد.. اثنان... ثلاثة!
ونهض الرجل ومد قامته بطولها ونزع القناع عن وجهه، وبعد ان كشف وجهه الثمل وطاف بنظرة علي الجميع مستمتعا بما احدثه من تأثير، تهاوي علي الكرسي وقهقه بفرح. وبالفعل كان التأثير الذي أحدثه غير عادي. تبادل المثقفون النظرات في ارتباك وامتقعت وجوههم، وحك بعضهم قفاه، وتحشرج يفسترات سبيريدونتش كالشخص الذي ارتكب عفوا حماقة كبيرة.
لقد عرف الجميع في هذا الرجل الهائج المليونير المحلي صاحب المصانع والمواطن العريق المحترم بيتيجوروف، المعروف بفضائحه وبأعماله الخيرية، وكما ذكرت الجريدة المحلية غير مرة، بحبه للمعرفة.
وبعد دقيقة من الصمت سأل بيتيجوروف:
* حسنا هل ستنصرفون أم لا؟
وخرج المثقفون من غرفة المطالعة علي اطراف اصابعهم في صمت، دون أن يتفوهوا بكلمة، فأوصد بيتيجوروف الباب خلفهم.
وبعد دقيقة كان يفسترات سبيريدونتش يفح هامسا وهو يهز كتف الخادم الذي حمل الخمر إلي قاعة المطالعة:
* لقد كنت تعلم انه بيتيجوروف، لماذا سكت؟
* امرني ألا أقول!
* أمره ألا يقول.. سأسجنك أيها الملعون شهرا وعندئذ ستعرف ما معني 'أمرني الا أقول' أخرج! * وقال مخاطبا المثقفين * وأنتم أيضا يا سادة ما أحلاكم.. أعلنوا العصيان! لم يكن في استطاعتكم أن تخرجوا من قاعة المطالعة لعشر دقائق!
حسنا، تحملوا اذن مسئولية ما صنعتم! آه يا سادة، يا سادة.. غير سليم..
وسار المثقفون في النادي مقهورين، ضائعين، مذنبين يتهامسون ويتوقعون شرا.. وعندما عرفت زوجاتهم وبناتهم بالحادث! اخلدن الي السكون وتفرقن عائدات الي بيوتهن. وتوقف الرقص.
وفي الساعة الثانية خرج بيتيجوروف من قاعة المطالعة كان ثملا يترنح. وعندما دخل الصالة جلس بقرب الاوركسترا ونعس علي انغام الموسيقي. ثم امال رأسه بحزن وعلا شخيره.
واشاح الشاويشية بأيديهم للعازفين:
* لا تعزفوا ! هس!.. يجور نيليتش نائم
وسأل بيليبوخين وهو ينحني علي اذن المليونير:
* هل تأمرون بتوصيلكم الي البيت يا يجور نيليتش؟
وندت عن شفتي بيتيجوروف حركة وكأنه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده.
وعاد بيليبوخين يسأل:
* هل تأمرون بتوصيلكم إلي البيت؟ أم باستدعاء العربة؟
* هه؟ من ؟ أنت... ماذا تريد؟
* اريد أن اوصلكم .. حان وقت النوم...
* اريد أن اذهب.. اوصلني!
وتهلل بيليبوخين من الرضا وشرع ينهض بيتيجوروف. واسرع اليه بقية المثقفين، وانهضوا المواطن الاصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر الي العربة.
وقال جيستياكوف بمرح وهو يجلسه:
* لا يستطيع أن يضحك علي جماعة كاملة الا ممثل موهوب. أنا مأخوذ حقا يا يجور نيليتش! حتي الآن مازلت اضحك... ها * ها ... كنا نغلي ونتلمظ! ها * ها! هل تصدقون؟ لم اضحك ابدا في المسرح مثلما ضحكت اليوم. فكاهة بلا حدود! سأظل طول عمري اذكر هذه الامسية التي لا تنسي!
وبعد أن اوصل المثقفون بيتيجوروف عاودهم المرح والاطمئنان.
وقال جيستياكوف وهو سعيد جدا:
*لقد مد لي يده عند الوداع. اذن فليس غاضبا.
فتنهد يفسترات سيبيريدونتش:
* يسمع منك ربنا! انه رجل وغد، حقير، ولكنه محسن!
لا يصح!