لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    Post انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي






    انطون بافلوفيتش تشيخوف ( 1860 – 1904 م )



    كاتب روسيا المبدع , وسيد القصة القصيرة في العالم بلا منازع



    وُلد انطون بافلوفيتش تشيخوف في سنة 1860 في بلدة ( تاجانروج ) الفقيرة المُعدمة الواقعة على بحر الخرز جنوبى العاصمة الروسية موسكو لأسرة يعمل أفرادها في خدمة الطبقة الاقطاعية ؛ وقد نجح جده في تحرير أفراد أسرته من القنانة ؛ وتمكن والده بعد التوفير والإقتصاد لسنوات من شراء حانوت للبقالة ؛ وانهارت سريعا تجارة الأب القاسى المهووس دينيا ؛ لتدخل الأسرة فى نفق مظلم من الفقر والتعاسة ؛ إلاّ أن الاوضاع

    الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي عاشها انطون في طفولته ؛ ولّدت لديه نوعا من التحدي قاده إلى النجاح مستعينا بما كان يسميه : ( العمل...العمل...العمل , طالما أن أحداً لن يمد لك يد العون والمساعدة ) .

    وقد اكتسب موهبته في الكتابة من أمه ( ايفجينيا تشيخوف ) ؛ الحكاءة راوية القصص ؛ رغم كونها لم تحصل على قدر كاف من التعليم .

    وفي سنة 1879 التحق تشيخوف بكلية الطب التابعة لجامعة موسكو وخلال تلك المرحلة بدأ بنشر عدد من القصص القصيرة في صحيفة ( سانت بطرس بيرج ) ليذيع صيته ككاتب معروف في سنة 1886. وبعد تخرجه عمل في مهنة الطب حتى سنة 1892.

    كانت أعراض مرض السل قد ظهرت عليه وهو في سن الرابعة والعشرين ؛ وتمكن منه المرض اللعين ، لينتهى بموته وهو فى سن الأربعة والأربعين .



    بعد مرور كل هذه السنوات علي رحيل تشيخوف يظل هذا الرجل في الإبداع العالمي , حالة فريدة عبّرت عن الكينونة الإنسانية , فتشيخوف هو أحد الكتاب الذين تلمسوا الحزن الإنساني واستطاع أن يمسح عن وجه المهمشين والفقراء , وسكان الأحياء الصغيرة في المدن المزدحمة آلامهم , واستطاع أن يرسم أمامهم حلماً بديعاً عن المستقبل , وهو القائل عن نفسه أنه عاش أربعين عاما ليعتصر من عروقه دماء العبودية .



    ولقب مؤسس القصة القصيرة لم يأت من فراغ , بل لأنه استطاع تحطيم الأعراف الأدبية وغير الأدبية , وذلك بخروجه علي القواعد , مثل البداية والنهاية ومواصفات الشخصية والحبكة القصصية ؛ كذلك البساطة والاختصار والغموض فى آن واحد ؛ التي كانت أهم سمات جماليات أسلوب تشيخوف .

    وتميز إنتاجه القصصي بالشمول وروح الفكاهة المشوبة بالحزن ؛ شخوصه حية ترزق تقابلها أينما ذهبت ، تشعر بأنفاسها حارة على وجهك وأنت تسير في الشوارع ، وربما تقابل أحدها لو نظرت في المرآة .

    كان الوجود الانساني مأساة عبّرعنها تشيخوف وصوّرها في قصصه القصيرة , وفعل ذلك بنظرة دقيقة واضحة وعطوفه ؛ ولم يكن أبطال قصصه ملوكاً أو أمراء , إنما هم بشر من السائرين في الطرقات .

    تُشبه مؤلفات تشيخوف فيضاناً من الابتكار المستحدث والتنوع الدائم , ليس هناك من وتيرة واحدة , وليس هناك من قصتين متشابهتين لا في الأشخاص ولا في الحوادث .

    لقد كانت معرفته بالرجال والنساء عميقة وواسعة , أيضاً كانت قدرته على التركيز مُدهشة ؛ فالفكرة الغامضة العويصة التي يحتاج بعض الكتاب لإظهارها الى قصة طويلة , يستطيع تشيخوف إخراجها في صفحات قليلة . كان يدرس أبطاله جيداً , وكان يفهمهم تماماً , وكان يستطيع ببساطة ان يُعبّر عن شخصياتهم , وقد عرف كيف ينفذ الى أعماق النفس الانسانية.



    ليست العشرات من قصصه وحدها هي التي أخذت شكلا جديدا ؛ بل مسرحياته أيضا , فقد تمرّد علي كل الأسس المسرحية التي كان المساس بها يُعد من المحرمات ؛ وتميّزت مسرحيات تشيخوف باللمسات الخافتة اللمّاحة ، وبجوّ مُفعم بالحنين والشاعرية ؛ تجلّى ذلك في الابتعاد عن المواقف الجاهزة واجتناب العنف ، والخلو من وسائل الإثارة .

    مسرحياته لا تتضمن من الأحداث إلا القليل ، وقد كتب للمسرح أربع مسرحيات هي :

    ( النُورس ) ؛ و( العَم فانيا ) ؛ و( الأخوات الثلاث ) ؛ و( بُستان الكَرز ) ؛ وكان له أسلوبه المتميز في الدراما السيكولوجية التي يلعب فيها الانفعال الداخلي دوراً مهماً .



    كان متواضعا حين تصور أن أعماله ستُقرأ لسبع سنوات فقط بعد وفاته ؛ ولكنه أصبح ظاهرة في الثقافة العالمية بزيادة عدد قرائه بمضي الوقت .



    واعْتُبِرَ تشيخوف الى جانب الفرنسي جي دي موباسان والأمريكيين إدجار ألآن بو وأرنست هيمنجواي ؛ من أقوى القوى الفاعلة في القصة المصرية القصيرة خُصوصاً في الفترة من الأربعينات الى السبعينات ؛ حين بدأت القصة تولّي وجهها شطر مصادر أخرى للإلهام كأدب أمريكا اللاتينية ؛ ففي رأي عدد من المُترجمين والنُقاد المصريين ؛ أنّ الرُوسي انطون تشيخوف كان الكاتب الأكثر تأثيراً على أجيالٍ من الأدباء المصريين مثل يوسُف إدريس ونجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب .

    وكان يوسُف ادريس يُوَاجَه في حياته بأنه ( تشيخوف مصر ) ؛ ولكنه كان يُنفي التهمة

    قائلا : أنه تخلص من تأثير تشيخوف الذي ( جاءني فدَعَّم بواقعيته إدْرَاكي لحقيقة الاشياء ).

  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





    أنطون تشيخوف
    (الأديب الروسي)


    نجيب محفوظ



    في سن التاسعة عشرة بدأ نجيب محفوظ كتابة مجموعة من المقالات في مجلة السياسة الاسبوعية. كانت مقالاته تأملات حول الفلسفة والدين.. وغيرها من الموضوعات.
    وكان أول موضوع أدبي يقدم فيه أديبا عالميا، أو عملا ابداعيا هو تشيخوف، وعمله المسرحي 'الخال فانيا' ونشرهما علي التوالي: الأول في مجلة السياسة الاسبوعية في8 مايو 1933، والثاني في مجلة 'المعرفة' في عدد شهر يونيو من نفس العام.
    وفي استعراضه لبدايات نجيب محفوظ، قدم الدكتور عبدالمحسن طه بدر في كتابه (الرؤية والأداة) قائمة بمقالات أديب نوبل التي نشرها قبل أن يكتب القصة، وكان منها هذان المقالان اللذان عثرنا عليهما في أروقة دار الكتب.

    في 19 يناير سنة 1860 ولد أنطون تشكوف ببلدة تاجازوج في أسرة فقيرة تافهة التاريخ، إذا كان جده عبدا لأحد الموفرين وقد اشتري حريته بما وفره من مال سيده، ونشأ ابنه (والد أنطون) مقتصدا مديرا فاستطاع أن يترقي في وقت قصير من كاتب حقير إلي صاحب حانوت وعميد أسرة مكونة من أربعة أخوة وأخت واحدة، وكانت الأسرة محافظة شديدة المحافظة، عظيمة الرعاية للتقاليد الدينية، فتلقي الاطفال تربية دينية عن الأب وعن الأم وفي البيت وفي الكنيسة وبلغ من شدة غرام الوالد بموسيقي الكنيسة أن ألحق أطفاله جميعا بزمرة فاختلطت أصواتهم بأصواتهم الرفيعة وهي تنشد الأناشيد الدينية، علي أن هذه التربية الدينية وما بذل في سبيلها من شدة وعناية لم تأت إلا بعكس ما رجي منها وقد كتب أنطو في كهولته يقول 'عندما أستعيد ذكري طفولتي، نبدو في مخيلتي مروعة. وأني الآن بلا دين. ولما كنت أغني واخوتي في الكنيسة كان الناس يلقون علينا نظرات إعجاب وينفسوننا علي والدينا، ولكن كان يجرح نفوسنا احساس ذلة كأننا من عبيد السفن الصغار' ولكن هذه النشأة لم تضع هباء لأن الترتيلات الجميلة نقشت آثارا خالدة في نفس تشكوف وأشربت قلبه بالهيام بها: كانت نتيجته ميل الفتي إلي اللغة الروسية واهتمامه بها.
    ولما شب قليلا التحق بمدرسة الابريشية وهناك كابد مدرسا شديد القسوة ضحل الفطنة والمعرفة بما أضاع عليه هذا المعهد السعيد وربطه في ذاكرته بالجفاف والفقر وجعله يكرر دائما أنه ليست له طفولة!
    ثم التحق بمدرسة الأجرومية، وفي باديء عهده بها عرف بالكسل والغباء وإن كان إلي النفوس فذلك لنأيه بنفسه عن ميدان المنافسة ولابتسامة ساحرة لا تفارق شفتيه، إلا أنه في أواخر عهده بهذه المدرسة حدث انقلاب في نفس الفتي فقد زال خموله وانفض عنه الكسل وصقل مخه واحسر عنه الغباء وتدفق في عروقه دم النشاط والحيوية من غير أن يسلبه ذلك روح الفكاهة فبقي مرحا يقرأ الروايات بصوت مرتفع حتي يثير الضحك في الصدور ويغير من صوته ويحاكي مختلف الأصوات ويبدل من ملامح وجهه حتي لا يكاد يعرف وإخوانه من حوله يدهشون ويسرون.
    ثم كان أن التحق بمدرسة الطب. وكان أن عبس الحظ لأبيه فهوي إلي قرار الخراب حتي اضطر إلي العمل ككاتب بسيط ولكنه لم يكف الأسرة بما اضطر معه الفتي أن يعمل لينقذ الاسرة من الموت جوعا وفي الحق لقد كانت هذه الفترة من حياة الأديب من أشق ماعاناه في حياته فهو طالب طب وأنت تدري ما يقوم به طالب الطب من واجبات شاقة وهو كاتب قصصي يؤلف لتسلية القراء بعد الغذاء وأنت تعلم ما يعانيه الكاتب إذا كان دافعه إلي الكتابة التكسب وسد العوز لا الالهام والحب ثم أنه يعيش في حي حقير تختلط ضوضاء الاطفال بصراخ الفتيان مثل هذه الحياة أقرب إلي الفناء والعدم لأنا لا نتذوق جمال الوجود ونحس بالحياة إلا في الساعات التي نقف فيها قليلا لنتأمل ونتملي، وكان يعلم أن أدبه غثا وقد حاول أن يكتب كما يريد ويتمني ولكنه لمن يلق تشجيعا ما.
    وأخيرا رضيت الحياة أن ترفع عنه بعض اثقالها فنال دبلوم الطب والتحق بأحد المستشفيات للتمرين ولأول مرة أتيح له التعرف إلي لون من ألوان الحياة وهو الحياة الريفية واختلط بكثير من الريفين والضباط مما كان له كبير الأثر في خياله فيما بعد، ثم طلبه مدير جريدة نوفوفريميا ليكتب له قصصا محترمة ولعله سر غاية السرور لتخلصه من كتابة هذه القصص التافهة ونشط هنا لعمله نشاطا لفت إليه نظر بعض كبار الأدباء حتي أن خريجو رفتش كتب له يقول ' إن لك ملكة حقيقية، ملكة ترفعك إلي مكان يسمو علي دائرة أدباء الجيل الحديثين' فبعد أن كان غرضه المال أصبح يتطلع إلي الاجادة الفنية حتي فاز بجائزة بوشكين وأخذ صيته في الذيوع، إلا أن الاجهاد المستمر والعمل المواصل نالا من صحته كل منال وأنهكا قواه فبدت عليه علامات السل! وكم كان ارتياح لذلك عظيما! ولكنه أخفي الأمر وكتمه في صدره حذرا أن يتسرب إلي علم والدته التي يشفق عليها من الحزن والألم، ولم يكن هذا ولا غيره بمانعه من مواصلة عمله فكتب للمسرح روايات ناجحة مثل أيفانوف ' والخال فانيا' وقد صد عن التأليف للمسرح زمنا بسبب سقوط إحدي رواياته ولولا أن أعيد تمثيلها في موسكو ولاقت نجاحا باهرا لحرم المسرح من قلم تشكوف.
    زادت آفاق حياته وزخرت بالتجارب والفهم الصحيح للأمور وتحسنت أحواله المالية فرحل إلي موسكو إلا أن المرض كان يغالبه مغالبة شديدة حتي انكشف أمره وعلم به من كان يشفق عليه أن يعلم به واضطر إلي نفي نفسه من وطنه الحبيب إلي جنوب فرنسا وهو أسيف وهنالك لقي زمنا يكابد آلام المرض ويعالج لواعج الشوق الحنين إلي موسكو وأناس بموسكو وأحس بتحسن في صحته وسارع بالعودة إلي الوطن ولأول مرة نري حياته تصطبغ بذلك اللون الوردي الجميل فقد عرف ممثلة هي أولجاليو ناردوفنا، والف الحب بين قلبيهما فتزوجا وساحا ويا ينعمان بالحب، وعاد المرض يطارده ويحرمه من الطمأنينة وعاد هو إلي منفاه تاركا زوجة ترجع إلي موسكو لتباشر عملها وتستطيع أن تتصور حاله وهو صريع القلب والصدر بعيدا عن وطنه.
    واشتدت عليه وطأة المرض فرحل إلي ألمانيا حيث لحقت به زوجه، وتحدثت الزوجة عما كان يعانيه زوجها من الآلام وتشير إشارة خاصة إلي بقاء الصفاء مخيما علي روحه التي احتفظت بفكاهتها ودعابتها وهكذا لم تملك أن تضحك له وهي جد جزعة عليه. وأخيرا هزم ذلك الجسم الريفي القوي أمام المرض الخبيث وقضي صاحبه الأديب.
    كان في طبيعة تشكوف ما يمنعه عن الابانة الصريحة عن ذات نفسه فلم يخلف لنا مذكرات شخصية تنفع المؤرخ النفساني، حقا إن رسائله كثيرة وكأنها في الغالب تتناول مواضيع عامة أدبية وفلسفية وعليه فالمرجع الثقة لمن يريد أن يتعرف إلي هذه النفس الادبية هو مؤلفاته وبعض رسائله الخاصة ومن الحق علينا أن نتكلم عن إيمانه فإن الرجل أو عدمه أدق مقياس يزن أفعاله وتصرفاته وتشكوف يقول صراحة إنه فقد الايمان برب الكنيسة وهو صغير. وطال عهده بهذه الحرية الدينية وبقي يلهو ويعبث ويعمل من غير ما يكدر صفو قلبه بأسئلة الايمان الملحة التي قد تبلغ حد العذاب، وكأنك بعد ذلك تحس بالجد في كتابته فكأن نظرته إلي الحياة حالت وكأن الحياة في نظره كبرت، وتتوالي اسئلته عن الحياة والموت وتكاد تلمس المرارة التي يفيض بها قلبه المرهف الحس، وخرج عن قبة نفسه ليواجه المشاكل الاجتماعية الكثيرة واستحوذ عليه اهتمام كبير بها، اغراه بالتعرض لأهوال السفر لمجرد التعرف إلي أناس جددوا أخلاق جديدة، ويظهر لنا اهتمامه هذا واضحا في حادث تنازله عن لقب العضوية بأكاديمية العلوم احتجاجا علي الغاء انتخاب ما كسيم جوركي بسبب مذهبه السياسي وقد أهتم كبقية الكتاب الروس بمسائل العمل ونحن ننقل هذه الكلمة له لنتعلم منها شيئا عن خياله الاصلاحي قال 'إذا كنا جميعا سواء من يسكن المدن أو من يقيم في الارياف نرضي بأن نقتسم فيما بيننا العمل الذي يبذله البشر في اشباع حاجاته الطبيعية فإن أحدا منا لا يمكن أن يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث كل يوم. ونبقي بعد ذلك أحرارا بقية اليوم، ونهب هذا الوقت للعلوم والفنون. كلنا نبحث عن الحقيقة وعن معني الحياة هنالك وأني لو أثق أن ينكشف لنا وجه الحق. ويستطيع الانسان أن يخلص نفسه من فزع الموت الدائم الذي يصليه نار العذاب'
    وفي النهاية أهتدي الاديب الي الايمان وكان إيمانه بالانسان بمستقبله وبرقيه، وإنك لتحس بايمانه هذا إذا قرأت له إحدي رواياته ويتأكد إحساسك كلما أمعنت في القراءة، نعم أن حياة الإنسان الواقعية تثير سخطه ورحمته، وهو دائما يصور شقاء الانسان ويتهمه بأنه السبب في كل ما يحيق به من أسباب الالم بما تفيض به نفسه من ميول للتشاحن والبغضاء وعواطف الاثرة والشر ويخيل إليك وأنت تقرأ بعض رواياته أنك تقرأ 'البيت الكسير الفؤاد لبرنارد شو' إذا لاحظت الموضوع والغرض فهو يتخيل العالم أو أوروبا في أسرة كل فرد من أفرادها مصاب بما يضلله عن طريق السعادة فإذا قاربت الرواية النهاية سمعت نداء عذبا إلي السعادة وتفاؤلا صريحا بالمستقبل السعيد.
    علي أنه بقي وسط هذه المذاهب الاجتماعية والمشكلات الانسانية فنان خالص لوجه الفن وقد قال في ذلك : 'الميل جذوره في عجز الانسان عن أن يعلو عن التفاهات من الأمور، الفنان ينبغي أن يبقي شاهدا نزيها فقط، لست حرا ولست محافظات ولست مصلحا. أني أحب أن أكون فنانا فقط.'

  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي





    في مئوية سيد الساخرين :
    حياته قصة قصيرة.. نهايتها مفتوحة


    محمود الورداني



    'السبل التي فتحتها ستبقي سليمة وصامدة، وهنا تكمن كل قيمتي'.
    هكذا كتب أنطون تشيخوف في رسالة إلي مكسيم جوركي منذ أكثر من مائة عام، وكما تنبأ تشيخوف نفسه، مازالت السبل التي فتحها والأبواب التي طرقها والأساليب التي ابتدعها.. مازالت كلها سليمة وصامدة.
    مائة عام مرت علي رحيل تشيخوف ومازالت قصصه القصيرة ومسرحياته حية متألقة تلمس أعماقنا وتهدهدها بخفوت ورقة أوتار الكمان. من الصعب أن تجد في كل أعماله كلمة واحدة عالية نابية تخدش الأذن، فهو الكاتب الأقل إثارة والاخفت صوتا والأعمق تأثيرا..
    وهذا العام 2004 هو عام تشيخوف بلا منازع، علينا أن نحتفل به ونتذكره ونستعيد أعماله وسيرته الذاتية التي تشبه سيرة أصحاب الرسالات الكبري في تاريخ الانسانية من الكتاب والفنانين الذين كان عملهم منحة من السماء ومحاولة لتخفيف ألم الانسانية.

    ***

    ولد انطون تشيخوف في 17 يناير 1860 في بلدة صغيرة اسمها 'تاجا نروج' علي الشاطيء الشمالي الشرقي لبحر الخرز. كان جده المباشر قنا منذ مولده، إلا أنه بفضل براعته وعمله الدؤوب أفلح في أن يصبح مدير مصفاة السكر التي يملكها سيده، وكان قد تعلم القراءة والكتابة، واستطاع عام 1841 أن يشتري حريته وحرية زوجته وثلاثة من ابنائه بمبلغ كبير هو 700 روبل، وبقيت ابنته بعد أن دفع آخر نقوده، إلا أن مالكه كان كريما فمنحه ابنته كجزء من الصفقة. وما أن أصبح ييجور بافلونتشي تشيك حرا حتي استطاع أن يعمل 'الوكيل المسئول' عن أملاك الكونتيسة بلاتوفا الواسعة، وفي نفس الوقت، تخلي عن اسم العائلة 'تشيك' الذي كان يوحي بنغمة احتقار واتخذ لنفسه اسم تشيخوف.
    أما أبوه بافل فعمل كاتب حسابات لدي رئيس بلدية تاجا نزوج، وأمه يفجينا مثله تنتمي لأسرة من الأقنان. وبعد سنوات من التوفير والاقتصاد نجح الأب في تحقيق حلم حياته، حيث اشتري محل بقالة في تاجا نروج التي سماها البعض 'المدينة الصماء' بسبب فقرها وتعاستها.
    كتب تشيخوف عن ذكريات طفولته المبكرة: 'كان أول ما يخطر لي حين أستيقظ في الصباح هو: هل سأضرب اليوم؟' فقد بدأ أبوه في ضربه قبل ان يبلغ الخامسة من عمره، وهو الابن الثالث بين ستة أشقاء من بينهم شقيقته التي ستلعب دورا هاما في حياته واسمها ماريا.
    كانت قسوة الاب وبطشه بأبنائه وزوجته ليست أكثر من وسيلة ليغرس فيهم 'الحقائق المقدسة' علي حد تعبير الأب، وكمسيحي طيب كان عليه أن يستعمل العصا يوميا في تهذيب الجميع. أما أنطون فكان يقضي أغلب أيامه مصطحبا كتاب قواعد اللاتينية قابعا في دكان أبيه البارد ويراقب حركة البيع والشراء في المتجر مرتجفا يكاد يتجمد.
    ومن كابوس المتجر إلي كابوس الكنيسة، ينتقل ابناؤه، فالأب كان مهووسا بالدين، ويحرص علي أن يؤدي الجميع صلواتهم اليومية داخل الكنيسة، بل وقرر أن تشكل الاسرة جوقة للكنيسة يحفظون الترانيم بين العاشرة ومنتصف الليل في المتجر القارس البرودة، ويؤدون صلواتهم وترانيمهم في الفجر..
    الا أن كل هذا لم يحل دون أن ينهار متجر بافل ييجورفيتش في النهاية لتدخل الأسرة في نفق مظلم من الفقر والتعاسة.

    ***

    عمل أنطون واشقاؤه صبيانا في المتاجر، والتحقوا بالمدارس في نفس الوقت، ويمكن تخيل كيف سارت الحياة بالأسرة، لكن عام 1873 شهد صدمة أنطون الاولي حين اصطحبه أحد أصدقائه ليشاهد المسرح فأصابه الجنون تقريبا! كان عليه أولا أن يرتدي معطف أبيه الفضفاض ويخفي عينيه خلف نظارة زرقاء، وبعد هذا التنكر يلجأ للتسلل لأن التلاميذ كانوا ممنوعين من ارتياد المسارح دون موافقة مديري المدارس، كما كان عليه أن يصل إلي شباك التذاكر قبل افتتاحه بساعتين ليرسم خطة التسلل المحكمة! وسرعان ما لجأ بدلا من كل هذه المتاعب لتكوين فرقة مسرحية خاصة من أشقائه وشقيقاته، حيث ينتهزون فرصة غياب الأب ويمثلون مسرحياتهم المرتجلة أمام الجيران والأصدقاء.
    لكن سياسة القبضة الحديدية للأب، دفعت الشقيقين الأكبرين لانطون وهما الكسندر ونيقولاي للهرب إلي موسكو عام .1875 كان الأول ينوي دراسة الرياضيات والثاني دراسة الرسم. ازداد الأب عنفا وبطشا ببقية ابنائه، وكرد فعل علي هذا الجو الخانق انغمس انطون في تحرير مجلة من نسخة واحدة مكتوبة بخط اليد سماها 'المتأتيء'، وتتكون من صور قلمية موجزة تدور حول الحياة المحلية للمدينة الصغيرة.
    وفي نفس الوقت كانت المصاعب المادية تتزايد علي الأب، بل وأعلن أفلاسه وهرب قبل أن يزج به في السجن، بينما بقيت الأم تحاول بيع البيت أو التصرف في قطع الأثاث دون جدوي. وهكذا سرعان ما تفرقت العائلة، حيث رحلت الأم مع ابنيها ميخائيل وماريا إلي موسكو لتلتحق بزوجها المعدم، بينما بقي أنطون ثلاث سنوات يستكمل تعليمه معتمدا علي اعطاء الدروس الخصوصية.
    منذ السادسة عشرة كان علي أنطون أن يتحمل مسئولية إعالة نفسه ودراسته وحيدا، ولم يعد هناك ما يربط بينه وبين أسرته سوي الرسائل المتقطعة، وأغلبها شكاوي واستغاثات من الأم التي كانت قد تركت بعض قطع الأثاث القليلة وطلبت من انطون أن يبيعها ويرسل لها الثمن. من بين هذه الرسائل ما كتبته الأم في 25 نوفمبر 1876، وفقا لما جاء في كتاب هنري تروايا 'أنطون تشيخوف' والذي صدرت له ترجمتان إلي العربية، الاولي ترجمة خليل الخوري عن الشئون الثقافية ببغداد عام 1987، والثانية ترجمة حصة منيف عن المجلس الاعلي للثقافة في مصر عام ..2000 كتبت الأم:
    'تلقينا منكم رسالتين مليئتين بالنكات والسخرية في وقت لم نكن نملك فيه إلا أربع كوبيكات لشراء الطعام والشموع، كما كنا نتوقع أن ترسل لنا نقودا فوضعنا صعب للغاية، وقد لاتصدق ذلك، ماشاليس لديهما معطف، وأنا لا أملك حذاء مبطنا بالفرو، ولذا فإننا نبقي في البيت باستمرار، وليس لدي ماكينة خياطة تمكنني من الحصول علي قدر ضئيل من المال، كما أنك لم تخبربنا متي سترسل النقود المستحقة لنا.. بحق الله ارسل لنا النقود بسرعة حتي لا أموت كمدا'.
    واستطاع أنطون الذي كان يمتلك ارادة حديدية استكمال دراسته ليحصل علي الدبلوم ويحقق حلم حياته بدراسة الطب، وفي نفس الوقت استطاع خلال أيام الأحاد والعطل ان يقرأ في مكتبة المدينة العامة آلاف الكتب الأدبية والفلسفية.

    ***

    وفي عام 1877 أرسل له شقيقه الكسندر في عطلة عيد الفصح تذكرة قطار ليلحق بهم في موسكو التي تبعد 1200 كيلومتر. وعندما وصل أنطون وجد العائلة تعيش في غرفة مفروشة لا أكثر، ينامون جنبا إلي جنب علي مرتبة يفرشونها علي الأرض عندما يحل الليل، انه بؤس ما بعده بؤس في جو موسكو القارس. وسرعان ما أدرك أنطون إلي أي حد انحدرت احوال العائلة، وأدرك في نفس الوقت أنه الوحيد الذي يمكنه انقاذها لأن أخوته الأكبر لايمكن الاعتماد عليهم.
    غير أن هذه الزيارة القصيرة فتحت عين أنطون لأول مرة علي المدينة العريقة الضخمة، وقارن بينها وبين تاجروج التي عاد اليها ليفكر للمرة الاولي في الكتابة، وفي نوفمبر 1877 أرسل لأخيه الكسندر بعض القصص القصيرة ليعرضها علي المجلات الهزلية في موسكو، الا أن كل قصصه رفضت. وفي أغسطس من العام التالي 1879 كان قد أنهي امتحاناته وحصل علي الدبلوم بدرجات ممتازة، وسافر إلي موسكو ليلحق بأسرته ويدرس الطب.
    كانوا عشرة أشخاص يعيشون فوق بعضهم في غرفة سيئة التهوية، بعد التحاق طالبين من الاصدقاء ويدفعان 60 روبلا، بينما كان انطون يحصل علي منحة قدرها 25 روبلا شهريا، وصمم انطون علي أن ينهض بعائلته ويتحمل مسئوليتها. وبعد شهر واحد انتقلت الأسرة إلي شقة أكثر اتساعا وبدأت الأمور تتحسن، فقد عكف انطون علي كتابة عشرات القصص الهزلية بهدف واحد هو الحصول علي دخل منها. وبحلول عام 1883 كان قد كتب 129 مقالة وقصة وكلها بأسماء مستعارة.
    أما الحياة الاجتماعية للأسرة فقد تميزت بملمح سيظل مسيطرا حتي رحيل تشيخوف، وهو أن البيت مفتوح طوال الليل والنهار لضيوف لاينقطعون: يأكلون ويشربون ويثرثرون ويسكرون، حتي أن تشيخوف كان يشتكي من أنه لايجد زاوية يكتب فيها، لكنه كان مع ذلك يسعد باستضافة كل هؤلاء البشر.
    وعندما عرض عليه أن ينشر قصصا هزلية لقاء 8 كوبيكات للسطر الواحد لم تسعه الدنيا من الفرحة، لكن المجلة التي اتفق معها رفضت عشرات القصص بسبب طولها، فظل تشيخوف يوجز ويستبعد من سطور قصصه حتي وافقوا أخيرا..
    وظلت القصص بالنسبة إليه حتي ذلك الوقت مجرد وسيلة للحصول علي ما ينفق منه علي أسرته، وبقي عشقه الاول هو الطب وشغفه الأساسي ربما حتي نهاية حياته، ولم يكن مهما أن يحصل علي أجر من مرضاه ماداموا فقراء، إلا أنه في ديسمبر 1884 تلقي الانذار الاول للمرض الذي ما لبث أن أودي به، وهو عبارة عن سعال جاف ونفثات دم. ولم يكن خافيا عليه معني هذه الانذارات، الا أنه آثر تجاهل الأمر، بل وبدا كأنه يدفن رأسه في الرمل، ويمضي في عمله سواء كطبيب أو كقاص، ويكفي أنه كتب بين 1880 و 1884 ما يزيد علي 300 نص تحت أسماء مستعارة.

    ***

    وفي أحد أيام ديسمبر 1885 استقل القطار ليزور للمرة الأولي عاصمة روسيا بطرسبورج التي يعيش فيها كبار الكتاب مثل شيدرين وواسبنسكي وبليشيفه. قضي أسبوعين تعرف خلالهما علي شخصية ستلعب دورا مؤثرا في حياته وهو الكسي سيفورين أحد أقطاب الصحافة ورئيس تحرير أكبر الصحف اليومية 'الأزمنة الحديثة'، واتفقا علي أن يكتب تشيخوف لهذه الصحيفة الواسعة الانتشار، وعلي الرغم من الحاح سيفورين علي أن يتخلي انطون عن اسمه المستعار ويكتب باسمه الحقيقي الا أنه رفض تماما حتي جاءته من الناقد الكبير جريجورو فيتش رسالة شخصية مطولة. واذا علمنا ان هذا الناقد هو نفسه الذي سبق له أن قدم ديستويفسكي إلي الحياة الأدبية منذ 40 عاما لأدركنا أهمية الرسالة التي تقول سطورها:
    'لقد قرأت كل ما هو موقع باسم تشيخونتي (وهو الاسم المستعار لتشيخوف)، وان كنت أشعر بغيظ داخلي من انسان يقلل من شأن نفسه بحيث يجد أن استعماله اسما مستعارا هو أمر ضروري، ان لديك موهبة حقيقية، موهبة ترفعك إلي موقع أعلي بكثير من الكتاب المعاصرين' وأضاف.. دعك من مواعيد تسليم محددة. لست أعرف عن دخلك شيئا، فان كان قليلا فإن عليك أن تجوع كما فعلنا في سني شبابنا.. اكتب فقط خلال ساعات الهامك السعيدة، لادفعة واحدة'.
    شكلت هذه الرسالة انقلابا في حياته، ودفعته لأن ينشر مجموعته القصصية الاولي 'قصص منوعة' إلا أن الصحافة لم تستقبلها استقبالا حسنا، لكن مجموعته الثانية 'عند الغسق' علي العكس نالت اعترافا به.
    أما مسرحيته الاولي 'ايفانوف' فكتبها خلال عشرة أيام وعرضت باسمه الحقيقي 'تشيخوف' في نوفمبر 1887 لكنها سقطت سقوطا ذريعا، ولم ينقذه من الاكتئاب إلا جائزة بوشكين التي منحت له علي مجموعته الثانية..
    وبعد ثماني سنوات من ممارسة الكتابة كان مايزال يعتبر القصص في المرتبة الثانية بعد الطب. انه طبيب أولا وكاتب ثانيا، لكنه كان قد توصل إلي عدد من القناعات، من بينها رفضه أن يضيف: كتب 'لست ليبراليا ولا محافظا، كما أنني لست من أنصار التدرج ولست راهبا أو عديم الاكتراث. كل ما أوده أن أكون فنانا حرا ولاشيء غير ذلك.. انني أكره الكذب والعنف بكل أشكالهما، فالرياء وبلادة الذهن لايحتلان مكان الصدارة في منازل التجار ومراكز الشرطة فقط، بل أراهما ايضا في مجال العلم والأدب بين جيل الشباب' كتب ايضا 'ليست مهمة الكاتب في رأيي أن يحل مشاكل تتعلق بأمور مثل الله والتشاؤم، بل يسجل ما يقوله أو يفكر فيه شخص ما في وضعية ما حول الله أو التشاؤم. ليست مهمة الكاتب أن يكون قاضيا يصدر الاحكام علي أبطاله، بل يكون شاهدا محايدا.. مهمتي فقط أن أكون موهوبا أي أتمكن من التمييز بين الشهادات المهمة وعديمة الأهمية'.
    كتب الناقد كورني تشوكوفسكي في كتاب (أ. ب. تشيخوف) الذي ترجمه أحمد القصير: 'أي فضاء مهما كان اتساعه يستطيع ان يتسع لكل هؤلاء: رجال البوليس، القابلات، الممثلين، الترزية، المساجين، الطباخين، العجائز المتدينات، المدرسين، العاهرات، ملاك الأراضي، الرهبان، السيرك، الموظفين، التافه والمهم، الفلاحين في الريف الشمالي والجنوبي، قادة الجيش، خدم الحمامات، المهندسين، اللصوص، الشماسين، التجار، منشدي الترانيم في الكنائس، الجنود، الخاطبات، ضابطي الايقاع، رجال المطافيء، القضاة، سدنة الكنائس.. الخ'.
    هذا هو ما أضافه تشيخوف الذي كان معروفا لدي أصدقائه بتدبير المقالب المهلكة، كأن يدس بطيخة ثقيلة ملفوفة بعناية في ورق بني في يد رجل البوليس قائلا له: 'قنبلة.. أذهب بها إلي مركز البوليس ولاتنس أن تكون حريصا!.. كان مسلكه صبانيا تماما حتي وهو كاتب كبير، وفي نفس الوقت كان قادرا علي أن يجعل عشرات الآلاف من القراء يذرفون الدمع علي الواقع الروسي البشع. جوركي مثلا كانت قصص تشيخوف تجعله يجهش بالبكاء، بل وكتب له عندما شاهد الخال فانيا: 'شاهدت الخال فانيا أمس. شاهدتها وبكيت كأني امرأة مع أني أبعد ما أكون عن العاطفية'.
    والحقيقة أن جوركي لاينفرد بهذا، فحتي الممثلون الذين يمثلون المسرحية كل ليلة كانوا ينخرطون في البكاء مع الجمهور..

    ***

    من جانب آخر، وكما عبر صلاح عبدالصبور في كتابه 'في مدينة العشق والحكمة' كان تشيخوف عدوا للتفاهة وظل العمل هو لذته الكبري، وطوال العشرين عاما الاخيرة من حياته بقي يهتم بشئون الآخرين، كان وحده مؤسسة أدبية كبري، فقد عمل علي طبع عشرات الأعمال الادبية للكتاب الشباب، بل وكانت ترسل له مئات القصص التي يعلق عليها كتابة ويرسلها لأصحابها، وخدعه ناشرو أعماله وسرقوه في وضح النهار، ومع ذلك ظل يساعد الكثيرين في سرية.
    يكفي أن أشير إلي أنه في يونيه 1904 وهو علي فراش الموت كان يحاول مساعدة ابن شماس الكنيسة في التحويل من جامعة إلي أخري! أما معاصره وصديقه الكاتب الكسندر كوبرين فيذكر أنه حينما ضرب بلطجي حمالا علي ظهر احدي البواخر في حضور تشيخوف، صرخ الحمال بأعلي صوته: من الذي تضربه؟ هل تعتقد أنك تضربني؟ انظر إلي من تضربه' وأشار إلي تشيخوف وكأنه أدرك أن آلام الآخرين انما هي آلام تشيخوف نفسه!!
    وفي عام 1889 اتخذ قرارا، ساعد فيما بعد علي أن يلقي حتفه وهو في هذه السن المبكرة 44 عاما حين أصر علي أن يزور جزيرة سخالين، وهي مستعمرة في المحيط الهاديء استعملت كمركز للعقاب للمجرمين ومنفي للسياسيين، ليري بعينه ما الذي يجري في هذه الجزيرة الاسطورة والابعد حتي من سيبريا وهو في هذه الحالة الصحية الهشة.
    لن أسهب كثيرا في وصف تفاصيل ما تعرض له تشيخوف في رحلته المرعبة داخل مستعمرة العقاب، وجلسات الجلد التي حضرها والحياة التي يحياها السجناء، والدعارة والاهانة التي تلحق بهم. ولم يكن كل هذا التعب من أجل الفرجة فقط، بل أجري احصاء رسميا وأبحاثا حول الأمراض المنتشرة، وكتب عددا كبيرا من المقالات التي تصف جحيم سخالين من أجل انقاذ، ما يمكن انقاذه وتوفير الشروط الضرورية لحياة هؤلاء البؤساء.
    لم تحقق قصصه فقط كل هذه الشهرة، فقد كان واحدا من أعمدة المسرح الحديث عبر بستان الكرز والخال فانيا والنورس والشقيقات الثلاث، كانت كلها فتحاجديدا في عالم المسرح، حيث كتب عن أولئك المنسيين الذين علي وشك الانهيار المادي والمعنوي والباحثين عن لحظات قليلة من السعادة دون جدوي. ولعل انجازه الحقيقي يكمن في امكانية أن يقدم مسرحا لا يحتاج للزعيق أو الأحداث الكبري، بل مسرح شجي خافت الصوت، والمعروف ان تشيخوف كان كثيرا ما يعارض المخرجين الذين يحبون المؤثرات الصوتية والضوئية ويصر علي عدم استخدامها.
    واذا كان تشيخوف قد زار بلادا عديدة في أوربا وآسيا، إلا أن ولاءه الاول ظل لمسقط رأسه تاجنروج التي بني بها المدارس والمكتبات، إلي جانب انشائه أول ناد للشعب بموسكو وعيادة مجانية للأمراض الجلدية ثم ثلاث مدارس لابناء الفلاحين ومحطة مطافي، وكان يعالج في مقره الريفي ما يزيد علي ألف مريض سنويا بالمجان فضلا عن تقديم الدواء لهم.

    ***

    أما حياته العاطفية، فقد ظل حريصا علي أن يبتعد عن الارتباط بامرأة معينة، وظلت كل علاقاته خاطفة سريعة، وان كانت الكثيرات زعمن أنه وقع في هواهن مثل ليديا ايفانوفا التي ظلت تحاول استدراجه قرابة سبع سنوات. لكنه اضطر للزواج اضطرارا قرب نهاية حياته بناء علي الحاح من احدي بطلات مسرحياته أولجا كيير.
    وفي السنوات الأخيرة من حياته كان السل قد نهش رئتيه، ولم يعد قادرا علي الاقامة في موسكو، واضطر لشراء بيت في يالطا حيث الجو أدفأ، وبعد محاولات مستميتة من جانبه للافلات من الزواج، وعلي الرغم من حالته الصحية المتدهورة، الا أن زواجهما تم في نهاية الأمر. وكانت أولجا تعمل كممثلة علي أحد مسارح موسكو، ولذلك لم يتح لهما الاقامة معا فترات طويلة، وهو ما أثر عليهما، فمن جانبه كان يريدها معه لكنه لايستطيع أن يقف في طريقها كفنانة، ومن جانبها كانت تريد البقاء معه، وظلت حسبما يتبين من مراسلاتهما تتهم نفسها بالجحود.
    وفي مارس 1903 كتبت له أولجا أنها فقدت جنينها وأجهضت أصابه هذا الخبر بالحزن الشديد، فقد كان أحد آماله الكبري أن يري طفلا من صلبه.
    واذا كان تشيخوف حريصا علي الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، وكان يرفض دائما توقيع البيانات السياسية، إلا أنه في لحظة معينة قرر الاستقالة من الاكاديمية الروسية احتجاجا علي فصل صديقه مكسيم جوركي، ونشر خطاب استقالته في الصحف السرية ووزع خارج البلاد، وتلقي تقديرا علي موقفه الشجاع وتحية من المثقفين، خصوصا أن تولستوي كان قد تهرب من الموضوع!
    وفي يونيو 1904 وبعد ان ازدادت حالته الصحية تدهورا أصر الأطباء علي ضرورة سفره إلي ألمانيا للعلاج. صحبته أولجا زوجته وقضت معه شهرا تقريبا في منتجع صحي هناك. وفي احدي الليالي فوجئت أولجا به بعد منتصف الليل يجلس منتصبا في فراشه ويطلب الطبيب للمرة الأولي. وعندما وصل الطبيب، استجمع تشيخوف كل معلوماته في اللغة الألمانية وقال معتذرا للطبيب الذي جاء في الساعات الاولي من الفجر، قال له بالالمانية: انني أموت!
    كان الطبيب علي وشك ان يطلب اسطوانة اوكسجين، الا أن تشيخوف الذي ظل صافي الذهن حتي اللحظة الاخيرة قال له: 'ما الفائدة لن تصل إلا بعد أن أكون قد أصبحت جثة هامدة'.. لذلك طلب الطبيب زجاجة شمبانيا. واحتسي تشيخوف بالفعل كأسا والتفت إلي أولجا مبتسما وقال لها: 'لم أشرب الخمر منذ وقت طويل'.
    أفرغ كأسه ببطء وتمدد علي جانبه الايسر، وبعد لحظات قليلة توقف تنفسه وانتقل ببساطة إلي العالم الآخر.
    ولأن تشيخوف كان ساخرا عظيما في حياته، فان جنازته أيضا لم تخل من السخرية. كان جثمانه قد نقل من ألمانيا بالقطار، وفزع مستقبلوه عندما وجدوا النعش ينقل في عربة شحن قذرة كتب علي بابها بأحرف كبيرة 'لشحن المحار'. وكانت هناك فرقة عسكرية اصطفت علي الرصيف لتعزف لحنا جنائزيا، واعتقد المشيعون ان الحكومة رأت أخيرا أنه من المناسب أن يتم دفن تشيخوف علي نحو لائق، إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذه الفرقة جاءت لتشييع نعش أحد الجنرالات، بينما مضي نعش تشيخوف خاليا من كل المظاهر، ولايتبعه أكثر من مائة شخص.
    تلك هي الملامح السريعة لحياة تشيخوف التي لم تستمر إلا أربعة وأربعين عاما، لكنه غير خلالها شكل ومضمون القصة القصيرة عالميا، وأضاف للمسرح اضافة لايستهان بها..
    واذا كان يوسف ادريس قد صرح قبل وفاته بأشهر قليلة بأن حياته ليست اكثر من قصة قصيرة طالت قليلا، فان تشيخوف كان قصة قصيرة.. وظلت قصيرة..

  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    قصة قصيرة........


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي






    القناع



    اقيم في نادي 'س' الاجتماعي حفل تنكري لغرض خيري.
    كانت الساعة الثانية عشرة ليلا. وجلس المثقفون غير الراقصين * وكانوا خمسة *في قاعة المطالعة الي طاولة كبيرة ودسوا أنوفهم ولحاهم في الجرائد وراحوا يقرأون وينعسون، و'يفكرون' علي حد تعبير المراسل المحلي لجرائد العاصمة، وهو سيد ليبرالي جدا.
    وتناهت من الصالة العامة أنغام رقصة 'فيوشكي' . ومن حين لأخر كان الخدم يهرولون بجوار الباب وهم يدقون عاليا باقدامهم ويثيرون رنين الاواني. بينما كان الصمت العميق يسود قاعة المطالعة.
    وفجأة تردد صوت غليظ مكتوم بدا وكأنه صادر من المدفأة.
    * يبدو أن المكان هنا سيكون مناسبا.، تعالوا هنا يا أولاد! تعالوا، تعالوا!
    وفتح الباب، ودخل قاعة المطالعة رجل عريض، ربعة، يرتدي حلة حوذي وقبعة بريش طاووس وقناع، وتبعته سيدتان مقنعتان وخادم يحمل صينية. وكان علي الصينية زجاجة ليكير منبعجة وثلاث زجاجات نبيذ أحمر وبضعة أكواب.
    وقال الرجل:
    * تعالوا! الجو هنا بارد.. ضع الصينية علي الطاولة..
    اجلسن يا موزمزيلات! جي فو بري أما انتم يا سادة فلتفسحوا.. هيا من هنا!
    وتمايل الرجل وازاح بيده عدة مجلات من علي الطاولة.
    * ضع هنا! اما انتم ايها السادة القراء. فلتفسحوا، لا وقت هنا لقراءة الجرائد والسياسة.. دعوا عنكم هذا!
    فقال أحد المثقفين وهو ينظر الي صاحب القناع من خلال نظارته:
    * الزم الهدوء من فضلك، هذه قاعة مطالعة وليس بوفيه.. ليس هذا مكانا للشرب....
    * ولماذا ليس مكانا؟ هل الطاولة تتأرجح أم ربما السقف يتساقط؟! شيء عجيب ! حسنا... لا وقت عندي للحديث! اتركوا الجرائد.. يكفيكم ما قرأتم.. أنتم هكذا اذكياء أكثر من اللازم، كما انكم تتلفون ابصاركم. واهم ما في الامر انني لا اريد انتهينا.
    ووضع الخادم الصينية علي الطاولة، وطوي الفوطة علي ذراعه ووقف بجوار الباب. وشرعت السيدتان فورا في تناول النبيذ الاحمر.
    وقال الرجل ذو ريش الطاووس وهو يصب لنفسه ليكيرا:
    * كيف يوجد اناس اذكياء يعتبرون الجرائد أفضل من هذه المشروبات، اما انا فأري أيها السادة المحترمون انكم تحبون الجرائد لانكم لا تملكون ما تشربون به، اليس كذلك؟ ها * ها! .. انهم يقرأون! حسنا وما هو المكتوب هناك؟ أيها السيد ذو النظارة، اية وقائع تقرأ؟ ها * ها! دعك من ذلك! كفاك تمنعا. اشرب أفضل.
    ونهض الرجل ذو ريش الطاووس وانتزع الجريدة من يدي السيد ذي النظارة، فامتقع هذا، ثم تضرج ونظر بدهشة الي بقية المثقفين، ونظر هؤلاء اليه.
    وانفجر قائلا:
    * انك تتجاوز حدودك يا سيدي المحترم. انك تحول قاعة المطالعة الي حانة.. انك تسمح لنفسك بالعربدة واختطاف الجرائد من الايدي! لن اسمح لك! انت لا تعرف مع من تتحدث يا حضرة المحترم! أنا جيستياكوف، مدير البنك!
    * طظ، فلتكن جيستياكوف! أما جريدتك فها هي قيمتها...
    ورفع الرجل الجريدة ومزقها قطعا.
    ودمدم جيستياكوف مصعوقا:
    * ما هذا يا سادة؟ هذا شيء غريب... هذا... هذا غير معقول...
    فضحك الرجل قائلا:
    * سيادته زعلان! آي، آي اخفتني! اقدامي ترتعش، اسمعوا أيها السادة المحترمون! كفي مزاحا.. أنا لا ارغب في الحديث معكم.. ولما كنت اريد أن ابقي هنا مع الموزمزيلات علي انفراد واريد أن امتع نفسي، لذلك ارجوكم الا تحرنوا ولتخرجوا.. تفضلوا من هنا! يا سيد بيليبوخين اخرج من هنا في ألف داهية ما لك تقلب سحنتك؟ اقول لك اخرج يعني تخرج! هيا عجل والا اهويت علي قفاك!
    فتساءل بيليبوخين صراف المحكمة وهو يحمر ويهز كتفيه:
    * كيف! ما معني هذا؟ أنا حتي لا أفهم .. شخص وقح يقتحم علينا المكان.. وفجأة يتفوه بهذه الاشياء!
    فصاح الرجل ذو ريش الطاووس غاضبا، ودق بقبضته علي المائدة حتي تراقصت الاكواب علي الصينية:
    * ماذا تقول؟ وقح؟ لمن تقولها؟ اتظن انني ما دمت في القناع فبوسعك أن توجه لي مختلف الكلمات؟ يا لك من مشاغب! اخرج من هنا اقول لك ! يا مدير البنك، انكشح من هنا بالمعروف! اخرجوا جميعا، اياكم أن يبقي منكم لئيم هنا! غوروا في الف داهية!
    فقال جيستياكوف الذي غامت نظارته من شدة الانفعال:
    * حسنا، سنري الآن! سأريك! ايه، استدع الشاويش المناوب!
    وبعد دقيقة دخل شاويش صغير أحمر الشعر بشريط ازرق علي ياقة سترته وهو يلهث من الرقص، وقال:
    * تفضلوا بالخروج، ليس هذا مكانا للشرب! تفضلوا في البوفيه!
    وسأل الرجل ذو القناع:
    * من أين جئت أنت؟ هل أنا دعوتك؟
    * أرجو أن تخاطبني باحترام وتفضل بالخروج!
    * اسمع يا عزيزي.. سأمهلك دقيقة.. وطالما أنت شاويش وشخصية مهمة، فلتسحب هؤلاء الممثلين من أيديهم، مزموزيلاتي لا يعجبهن وجود غرباء هنا.. يشعرن بالخجل، وأنا اريد مقابل نقودي ان يكن في حالتهن الطبيعية..
    وصاح جيستياكوف:
    * يبدو أن هذا المأفون لا يفهم انه ليس في حظيرة. استدعوا يفسترات سبيريدونتش!
    وترددت في النادي:
    * يفسترات سيبيريدونتش! أين يفسترات سبيريدونتش؟
    وسرعان ما ظهر يفسترات سبيريدونتش، وهو عجوز يرتدي حلة شرطي. وصاح بصوت مبحوح وهو يبحلق بعينيه المرعبتين ويحرك شواربة المصبوغة:
    * تفضل بالخروج من هنا!
    فقال الرجل وهو يقهقه من المتعة:
    * آه، لقد ارعبتني! أي والله ارعبتني! اقسم لكن انني لم أر شيئا رهيبا كهذا! شواربة كشوارب القط، وعيناه جاحظتان.... ها * ها * ها ! ها * ها! فصاح يفسترات سبيريدونتش بكل قوته واهتز بدنه:
    * ممنوع الكلام! اخرج من هنا! سآمر بطردك!
    وارتفع في قاعة المطالعة صخب لا مثيل له. كان يفسترات سبيريدونتش يصرخ ويدق بقدميه وقد احمر كسرطان البحر. وكان جيستياكوف يصرخ.، وكان بيليبوخين يصرخ. كان جميع المثقفين يصرخون، ولكن غطي علي أصواتهم جميعا صوت الرجل ذي القناع الغليظ الاجش. وبسبب الهرج العام توقف الرقص، وتقاطر الناس من الصالة إلي قاعة المطالعة.
    ولكي يظهر يفسترات سبيريدونتش هيبته استدعي جميع رجال الشرطة الموجودين في النادي، وجلس ليكتب محضرا.
    فقال ذو القناع زهر يدس اصبعه تحت القلم.
    * اكتب، اكتب، يالي من مسكين، تري ماذا سيحدث لي الآن؟ يا لحظي البائس! حرام عليكم ما تفعلونه بيتيم مثلي!
    ها * ها * ها حسنا، ماذا؟ هل محضرك جاهز؟ هل وقع الجميع؟ فلنتظروا الآن اذن! واحد.. اثنان... ثلاثة!
    ونهض الرجل ومد قامته بطولها ونزع القناع عن وجهه، وبعد ان كشف وجهه الثمل وطاف بنظرة علي الجميع مستمتعا بما احدثه من تأثير، تهاوي علي الكرسي وقهقه بفرح. وبالفعل كان التأثير الذي أحدثه غير عادي. تبادل المثقفون النظرات في ارتباك وامتقعت وجوههم، وحك بعضهم قفاه، وتحشرج يفسترات سبيريدونتش كالشخص الذي ارتكب عفوا حماقة كبيرة.
    لقد عرف الجميع في هذا الرجل الهائج المليونير المحلي صاحب المصانع والمواطن العريق المحترم بيتيجوروف، المعروف بفضائحه وبأعماله الخيرية، وكما ذكرت الجريدة المحلية غير مرة، بحبه للمعرفة.
    وبعد دقيقة من الصمت سأل بيتيجوروف:
    * حسنا هل ستنصرفون أم لا؟
    وخرج المثقفون من غرفة المطالعة علي اطراف اصابعهم في صمت، دون أن يتفوهوا بكلمة، فأوصد بيتيجوروف الباب خلفهم.
    وبعد دقيقة كان يفسترات سبيريدونتش يفح هامسا وهو يهز كتف الخادم الذي حمل الخمر إلي قاعة المطالعة:
    * لقد كنت تعلم انه بيتيجوروف، لماذا سكت؟
    * امرني ألا أقول!
    * أمره ألا يقول.. سأسجنك أيها الملعون شهرا وعندئذ ستعرف ما معني 'أمرني الا أقول' أخرج! * وقال مخاطبا المثقفين * وأنتم أيضا يا سادة ما أحلاكم.. أعلنوا العصيان! لم يكن في استطاعتكم أن تخرجوا من قاعة المطالعة لعشر دقائق!
    حسنا، تحملوا اذن مسئولية ما صنعتم! آه يا سادة، يا سادة.. غير سليم..
    وسار المثقفون في النادي مقهورين، ضائعين، مذنبين يتهامسون ويتوقعون شرا.. وعندما عرفت زوجاتهم وبناتهم بالحادث! اخلدن الي السكون وتفرقن عائدات الي بيوتهن. وتوقف الرقص.
    وفي الساعة الثانية خرج بيتيجوروف من قاعة المطالعة كان ثملا يترنح. وعندما دخل الصالة جلس بقرب الاوركسترا ونعس علي انغام الموسيقي. ثم امال رأسه بحزن وعلا شخيره.
    واشاح الشاويشية بأيديهم للعازفين:
    * لا تعزفوا ! هس!.. يجور نيليتش نائم
    وسأل بيليبوخين وهو ينحني علي اذن المليونير:
    * هل تأمرون بتوصيلكم الي البيت يا يجور نيليتش؟
    وندت عن شفتي بيتيجوروف حركة وكأنه يريد أن ينفخ ذبابة عن خده.
    وعاد بيليبوخين يسأل:
    * هل تأمرون بتوصيلكم إلي البيت؟ أم باستدعاء العربة؟
    * هه؟ من ؟ أنت... ماذا تريد؟
    * اريد أن اوصلكم .. حان وقت النوم...
    * اريد أن اذهب.. اوصلني!
    وتهلل بيليبوخين من الرضا وشرع ينهض بيتيجوروف. واسرع اليه بقية المثقفين، وانهضوا المواطن الاصيل المحترم وهم يبتسمون بسرور، وساروا به بحذر الي العربة.
    وقال جيستياكوف بمرح وهو يجلسه:
    * لا يستطيع أن يضحك علي جماعة كاملة الا ممثل موهوب. أنا مأخوذ حقا يا يجور نيليتش! حتي الآن مازلت اضحك... ها * ها ... كنا نغلي ونتلمظ! ها * ها! هل تصدقون؟ لم اضحك ابدا في المسرح مثلما ضحكت اليوم. فكاهة بلا حدود! سأظل طول عمري اذكر هذه الامسية التي لا تنسي!
    وبعد أن اوصل المثقفون بيتيجوروف عاودهم المرح والاطمئنان.
    وقال جيستياكوف وهو سعيد جدا:
    *لقد مد لي يده عند الوداع. اذن فليس غاضبا.
    فتنهد يفسترات سيبيريدونتش:
    * يسمع منك ربنا! انه رجل وغد، حقير، ولكنه محسن!
    لا يصح!

  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    وفاة موظف






    ذات مساء رائع كان ايفان ديمتريفيتش تشرفياكوف ، الموظف الذي لا يقل روعة، جالساً في الصف الثاني من مقاعد الصالة ، يتطلع في المنظار إلي ( أجراس كورنيفيل ). وراح يتطلع وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة ، وفجأة... وكثيرا ما تقابلنا (وفجأة) هذه في القصص. والكُتّاب علي حق ، فما أحفل الحياة بالمفاجآت ! وفجأة تقلص وجهه ، وزاغ بصره ، واحتبست أنفاسه... وحول عينيه عن المنظار وانحني و... آتششش!!! عطس كما ترون ، والعطس ليس محظورا علي أحد في أي مكان ، اذ يعطس الفلاحون ، ورجال الشرطة ، بل وحتي أحيانا المستشارون السريون . الجميع يعطس ، ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج ، ومسح أنفه بمنديله ، وكشخص مهذب نظر حوله ليري ما إذا كان قد ازعج أحدا بعطسه ، وعلي الفور أحس بالحرج . فقد رأي العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما . وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك الحديدية .

    وقال تشرفياكوف لنفسه : - لقد بللته... انه ليس رئيسي ، بل غريب ، ومع ذلك فشيء محرج ينبغي أن اعتذر .

    وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلي الامام وهمس في اذن الجنرال :

    - عفوا يا صاحب السعادة ، لقد بللتكم.. لم أقصد .

    - لا شيء ، لا شيء .

    - أستحلفكم بالله العفو . انني.... لم أكن اريد !

    - أووه، اسكت من فضلك ! دعني أصغي !

    وأحْرَج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة ، وراح ينظر إلي المسرح . كان ينظر ولكنه لم يعد يحس بالمتعة ، لقد بدأ القلق يعذبه ، وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشي قليلا بجواره ، وبعد أن تغلب علي وجله دمدم :

    - لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذروني.. انني لم أكن اقصد أن...

    فقال الجنرال:

    - أوووه كفاااك ! أنا قد نسيت وأنت مازلت تتحدث عن نفس الامر ! .

    وحرّك شفته السفلي بنفاد صبر .

    وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلي الجنرال بشك :

    ( يقول نسيت بينما الخبث يطل من عينيه... ولا يريد أن يتحدث... ينبغي أن أوضح له انني لم أكن أرغب علي الاطلاق... وأن هذا قانون الطبيعة ، وإلاّ ظن أنني أردت أن أبصق عليه ، فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد ! ) .

    وعندما عاد تشرفياكوف الي المنزل روي لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف . وخُيِّل إليه أن زوجته نظرت الي الأمر باستخفاف ، فقد جزعت فقط ، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن بريزجالوف ( غريب ) .

    - ومع ذلك اذهب اليه واعتذر... وإلاّ ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات ! .

    - تلك هي المسألة ! لقد اعتذرت له ، ولكنه... كان غريبا... لم يقل كلمة مفهومة واحدة... ثم انه لم يكن هناك متسعا للحديث .

    وفي اليوم التالي ارتدي تشرفياكوف حُلّة جديدة ، وقص شعره ، وذهب الي بريزجالوف لتوضيح الامر... وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأي هناك كثيراً من الزوار ورأي بينهم الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار ، وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه الي تشرفياكوف . فراح الموظف يشرح له :

    - بالامس في ( اركاديا ) لو تذكرون يا صاحب السعادة عطست و... بلّلتكم من غير قصد.. اعذر..

    - يا للتفاهات.. الله يعلم ما هذا ! .

    وتوجه الجنرال الي الزائر التالي : - ماذا تريد ؟ .

    وفكر تشرفياكوف ووجهه يشنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ( لا يريد أن يتحدث ... اذن فهو غاضب.. كلاّ ، لا يُمكن أن ادع الامر هكذا.. سوف اشرح له...) .

    وبعد أن أنهي الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه الي الغرفة الداخلية ، خطا تشرفياكوف خلفه ودمدم :

    - يا صاحب السعادة ! إذا كنت أتجاسر علي ازعاج سعادتكم فإنما من واقع الاحساس بالندم !. لم أكن أقصد ، كما تعلمون سعادتكم ! .

    فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب :

    - انك تسخر يا سيدي الكريم ! .

    وفكر تشرفياكوف : ( أية سُخرية يمكن أن تكون ؟ ... لييس هنا أية سخرية علي الاطلاق ! جنرال ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم ! ... إذا كان الامر كذلك فلن اعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب الي الشيطان ! ...سأكتب له رسالة ، ولكن لن آتي اليه... أقسم لن أتي ) ! .

    هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد الي المنزل . ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة . فقد فكر وفكر ولم يستطع أن يدبّج الرسالة . واضطر في اليوم التالي الي الذهاب بنفسه لشرح الامر . ودمدم عندما رفع اليه الجنرال عينين متسائلتين :

    - جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة ، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم. بل كنت اعتذر لاني عطست فبللتكم... ولكنه لم يدر بخاطري أبدا أن أسخر وهل أجسر علي السخرية ؟ فلو رحنا نسخر ، فلن يكون هناك احترام للشخصيات اذن..

    وفجأة زار الجنرال وقد ارتعد وأرعد :

    - أخرج من هنااا !! .

    فسأل تشرفياكوف هامسا وهو يذوب رعبا :

    - ماذا ؟ .

    فردد الجنرال ودق بقدمه :

    - أخرج من هنااا !! .

    وتمزّق شيءٌ ما في بطن تشرفياكوف . وتراجع الي الباب وهو لا يري ولا يسمع شيئا ، وخرج الي الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آليا الي المنزل استلقي علي الكنبة دون أن يخلع حُلته... ومات

  6. #6
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    فانكا


    في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي فانكا جوكوف ابن الاعوام التسعة والذي اعطوه منذ ثلاثة أشهر للاسكافي الياخين ليعمل صبيا لديه. وانتظر حتي انصرف أصحاب البيت والاسطوات الي الصلاة فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلما بسن صديء، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن يخط أول حرف نظر الي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه الي الأيقونة الداكنة التي امتدت عن جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيرا متقطعا. كانت الورقة مبسوطة علي الاريكة، أما هو فقد جثا علي ركبتيه أمامها. وكتب:
    'جدي العزيز قسطنطين مكاريتش! أنا اكتب اليك خطابا. اهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك'.
    وحول فانكا بصره الي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده قسطنطين مكاريتش الذي يعمل حارسا ليليا لدي السادة لدي السادة آل جيفارف. هو عجوز صغير نحيل الا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائما وعينين ثملتين. كان نهارا ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثرا بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأي الرأسين الكلبة العجوز 'كاشتانكا' والكلب 'فيون' الذي سمي هكذا للونه الاسود وجسده الطويل كالنمس.
    كان هذا ال 'فيون' مهذبا ورقيقا بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء لاصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظي بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثا غادرا الي أقصي حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل الي المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا يضربونه كل أسبوع حتي الموت، ولكنه كان يبعث من جديد.
    وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع الي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر مع الخدم وهو يدق الارض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة الي خصره،. ويشيح بيديه ثم يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري.
    ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:
    * الا ترغبن في استنشاق التبغ؟
    وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد اعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:
    * بقوة والا لزقت!
    ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس 'كاشتانكا' وتلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. اما 'فيون' فلا يعطس تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هاديء، وشفاف ومنعش.
    والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، والاشجار وقد كساها الثلج ثوبا فضيا، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو درب التبانة واضحا وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد فانكا، وغمس الريشة في الحبر ومضي يكتب:
    * 'بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري الي الحوش وضربني بقالب الاحذية لاني كنت اهز ابنه في المهد فنعست غصبا عني. وفي هذا الاسبوع امرتني المعلمة ان اقشر فسيخة، فبدأت اقشرها من ذيلها، فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني الي الخمارة لشراء الفودكا ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزا، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزا، اما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني ان أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام ابدا وأهز المهد. يا جدي العزيز، اعمل معروفا لله وخذني من هنا الي البيت في القرية. لم اعد احتمل ابدا... اتوسل اليك وسوف اصلي لله دائما، خذني من هنا والا سأموت..
    وقلص فانكا شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء واجهش.
    ومضي يكتب: 'سأطحن لك التبغ، واصلي لله، واذا بدر مني شيء اضربني كما يضرب الكلب.
    واذا كنت تظن انه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو اعمل راعيا بدلا من فيدكا. يا جدي العزيز، لم اعد احتمل ابدا، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب الي القرية ماشيا ولكن ليس لدي حذاء واخشي الصقيع، وعندما اصبح كبيرا فسوف اطعمك مقابل هذا ولن اسمح لاحد أن يمسك، واذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي بيلاجيا.
    وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والاولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جدا، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطا وزنه بوذ. ورأيت دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها.
    يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة أولجا اجناتيفنا انها من أجل فانكا'.
    وتنهد فانكا وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائما يذهب للغابة لاحضار شجرة عيد الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح وفانكا يتنحنح مثلهما. وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلا وهو يضحك من فانكا المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف ملفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:
    * امسك، امسك.. امسك!
    آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطعوة الي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. وكانت الآنسة اولجا اجتاتيفنا التي يحبها فانكا، هي التي تشغله اكثر من الجميع، وعندما كانت أم فانكا بيلاجيا علي قيد الحياة وتعمل خادما لدي السادة، كانت اولجا اجتناتيفنا تعطي لفانكا الحلوي، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتي مائة، بل وحتي رقصة الكادريل، ولما ماتت بيلاجيا، ارسلوا فانكا اليتيم الي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ الي موسكو عند الاسكافي الياخين...
    ومضي فانكا يكتب: 'احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. اشفق علي أنا اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جدا، ولا استطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتي وقعت ولم افق الا بالعافية. ما أضيع حياتي، اسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي لاليونا ويجوركا الاحول، والحوذي، ولا تعط الهارمونيكا لأحد. حفيدك دائما ايفان جوكوف، احضر يا جدي العزيز'.
    وطوي فانكا الورقة المكتوبة اربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل بكوبيك.. وفكر قليلا ثم غمس الريشة وكتب العنوان:
    إلي قرية جدي
    وحك رأسه وفكر، ثم أضاف: 'قسطنطين مكاريتش'. وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحدا لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق الي الخارج بالقميص فقط...
    كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه ان الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل الي جميع انحاء الارض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة.
    وركض فانكا الي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.
    وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالسا علي الفرن مدليا ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير 'فيون' ويهز ذيله...


    1886

    البود * وحدة وزن روسية تساوي 16.38 كيلو جراما. المعرب.

  7. #7
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي




    زودها


    وصل قياس الأراضي جليب جافريلوفتش سميرنوف إلي محطة 'جنيلوشكي'. وكان أمامه لكي يبلغ الضيعة التي استدعي اليها لوضع حدود المزارع حوالي ثلاثين أو أربعين فرسخا.
    فاذا لم يكن الحوذي ثملا والحصان عجوزا فلن تزيد المسافة عن ثلاثين فرسخا، أما إذا كان الحوذي ثملا والحصان منهكا فستصل المسافة إلي خمسين'.
    اتجه القياس بالسؤال إلي شرطي المحطة:
    * قل لي من فضلك، أين استطيع أن أجد هنا خيول بريد؟
    * خيول ماذا؟ بريد؟ لن تجد هنا علي مدي مائة فرسخ كلبا محترما وليس خيول بريد.. إلي أين تريد أن تذهب؟
    * الي ديفكينو، ضيعة الجنرال خوخوتوف.
    فقال الشرطي متثائبا:
    * طيب. اذهب خلف المحطة، فهناك يوجد أحيانا فلاحون يحملون الركاب.
    تنهد القياس ومضي خلف المحطة. وهناك، وبعد بحث طويل ومباحثات وتردد، وجد فلاحا ضخما، عابسا، مجدور الوجه، يرتدي قفطانا خشنا ممزقا وحذاء لابتي.
    وأمتعض القياس وهو يصعد الي العربة وقال:
    * الشيطان يعلم أية عربة هذه! لا تعرف أين مؤخرتها وأين مقدمتها...
    * وهل هو صعب أن تعرف؟ المقدمة حيث ذيل الحصان، والمؤخرة حيث يجلس جنابكم....
    كانت الفرس شابة ولكنها عجفاء، بقوائم نافرة وأذنين معضوضتين. وعندما همٌ الحوذي وضربها بسوط من الحبال هزت رأسها فقط، وعندما سبها وضربها مرة أخري صرٌت العربة وارتعشٌت كأنها محمومة. وبعد الضربة الثالثة تمايلت العربة، أما بعد الرابعة فقد تزحزحت من مكانها.
    * وهل سنسير هكذا طوال الطريق؟
    * سأل القياس وهو يشعر بهز شديد ويدهش من قدرة الحوذية الروس علي الجمع بين السير البطيء كسير السلاحف، وبين الهز الذي يكاد يطرد الروح من البدن.
    فقال الحوذي مطمئنا:
    * سنصل! الفرس شابة، سريعة.. انتظر فقط حتي تنطلق، وبعد ذلك لن تستطيع ايقافها... هيا، يا ملعونة!..
    عندما غادرت العربة المحطة كان المغيب قد حل. وعلي يمين القياس امتد سهل مظلم متجمد لا نهاية له ولا حدود.. اذا سرت فيه فربما وصلت الي العالم الآخر. وعند الافق، حيث اختفي السهل متحدا مع السماء تلاشت علي مهل آخر أضواء الغسق الخريفي البارد.. وإلي يسار الطريق ارتفعت في الهواء المظلم اكوام لا يعرف ما إذا كانت أكوام دريس العام الماضي أم قرية. ولم يستطع القياس أن يري ما كان في الامام، فقد سد مجال الرؤية كله من هذه الناحية ظهر الحوذي العريض الاخرق. وكان الجو هادئا ولكنه بارد، قارس.
    وفكر القياس وهو يحاول أن يغطي اذنيه بياقة المعطف:
    'يا له من مكان قفر! لا أثر لحي. من يدري، فلو هجم عليك الاشقياء ونهبوك فلن يعرف أحد ولو أطلقت المدافع... نعم والحوذي أيضا لا يوحي بالثقة.. انظر الي ظهره المهول! ابن الطبيعة هذا لو لمسك باصبعه لأزهق روحك! وسحنته أيضا وحشية، مريبة'.
    وسأل القياس:
    * اسمع يا أخي، ما اسمك؟
    * أنا كليم.
    * وكيف الحال عندكم هنا يا كليم؟ أليس خطرا؟ هل هناك من يتشاقي؟
    * لا، والحمد لله.. ومن هنا ليتشاقي؟
    * حسن انهم لا يتشاقون... ولكني علي كل حال أخذت معي ثلاثة مسدسات، * قال القياس كاذبا * والمسدس كما تعلم شيء لا يحب المزاح، استطيع أن أقضي علي عشرة أشقياء.
    هبط الظلام، وفجأة صرت العربة وأنٌت وارتعشت وانعطفت الي اليسار ببطء كأنما عن غير رغبة.
    وقال القياس لنفسه: 'الي أين يذهب بي؟ كان يسير طوال الوقت مباشرة وها هو ينعطف الي اليسار فجأة. ماذا لو أن هذا الوغد أخذني الي دغل ما و.... و...... و........ مثل هذه الحوادث تقع!'
    فقال مخاطبا الحوذي:
    * اسمع.. تقول أن الحال هنا ليس خطرا! خسارة.. اني أهوي منازلة الاشقياء.. أنني أبدو من منظري نحيلا، ضعيفا، ولكن عندي قوة كقوة الثور... في مرة هجم عليَّ ثلاثة أشقياء.. فماذا تظن؟ ضربت واحدا منهم حتي انه.. حتي انه، أتعرف، طلعت روحه، أما الآخران فقد حكما بالاشغال الشاقة في سيبيريا بسببي.. من أين تأتيني هذه القوة، لا أعرف... بيد واحدة أمسك بأي رجل ضخم، من امثالك، و..... واقضي عليه.
    ونظر كليم خلفه الي القياس، وطرف بوجهه كله، وهوي بالسوط علي الفرس.
    واستطرد القياس:
    * نعم يا أخي، كفي الله المرء شر الاشتباك معي، فعلاوة علي أن الشقي يبقي بلا قدمين أو ساقين فانه يقدم الي المحاكمة... كل القضاة ومأموري الشرطة معارفي. انني رجل موظف، مطلوب، ها أنا مسافر ولكن رؤسائي يعرفون أين أنا.. وأعينهم تراقب، حتي لا يلحق بي أي ضرر.. وعلي طول الطريق حشروا رجال الدرك والخفراء وراء الخمائل....
    وفجأة صرخ القياس:
    * قف! إلي أين تذهب؟ الي أين تأخذني؟
    * ألا تري الي أين؟ إلي الغابة!
    وقال القياس لنفسه: 'فعلا.. إنها غابة، ولكني خفت! لا ينبغي أن اكشف اضطرابي.. لقد لاحظ أنني خائف. لماذا أصبح ينظر الي كثيرا؟ لابد أنه يدبر أمرا.. كان قبلا يسير بالعربة ببطء، قدما وراء قدم، أما الآن فانظر كيف يطير'!
    * اسمع يا كليم، لماذا تحث الفرس؟
    * أنا لا احثها. هي التي أسرعت. إذا انطلقت فلا وسيلة لايقافها.... هي نفسها تشقيها هذه السيقان.
    * كذاب يا أخي! أري انك تكذب! لكني انصحك بعدم الاسراع. اكبح الفرس.. أتسمع؟ اكبحها!
    * لماذا؟
    * لانه.. لانه من المفروض أن يلحق بي من المحطة رفاق أربعة. ينبغي أن يلحقوا بنا. لقد وعدوني أن يلحقوا بي عند هذه الغابة... ستكون الرحلة معهم أكثر مرحا... فهم رجال أصحاء، أشداء... كل منهم يحمل مسدسا.. لماذا تتطلع إلي كثيرا وتتململ كأنك جالس علي جمر؟ هه؟ أنا يا أخي يعني.. اسمع.. لا داعي للتطلع نحوي.. ليس في أي طرافة... اللهم الا المسدسات.. تفضل، اذا شئت استخرجتها وأريتك إياها.. تفضل.
    وتظاهر القياس أنه يبحث في جيوبه، وفي تلك اللحظة حدث ما لم يتوقع حدوثه رغم كل جبنه. فقد ألقي كليم بنفسه من العربة وزحف علي أربع نحو غيضة أشجار. ثم صرخ:
    * النجدة! النجدة! خذ الفرس والعربة أيها الشقي، لكن لا تقتلني! النجدة!!
    وتردد وقع خطوات سريعة مبتعدة، وطقطقة غصون جافة، ثم ساد السكون... وكان أول شيء فعله القياس، الذي لم يتوقع هذا التطور المفاجيء، أن أوقف الفرس، ثم اعتدل في جلسته متخذا وضعا أكثر راحة، وأخذ يفكر.
    'هرب.. خاف الاحمق.. فما العمل الآن؟ لا يمكن أن أواصل السير بمفردي، فأنا لا أعرف الطريق، ثم قد يظن أحد انني سرقت فرسه.. فما العمل؟' * يا كليم! يا كليم!
    * كليم! * ردد الصدي.
    أقشعر القياس، كأنما مروا علي ظهره بمبرد بارد من فكرة انه سيضطر الي قضاء الليل كله في الغابة المظلمة، في البرد، فلا يسمع سوي عواء الذئاب، والصدي، وشخير الفرس العجفاء.
    فصاح:
    * كليموشكا!ہ يا عزيزي! أين أنت يا كليم وشكا!
    وظل القياس يصيح حوالي ساعتين، وفقط بعد أن بح صوته واستسلم لفكرة المبيت في الغابة، حملت اليه الريح أنينا ضعيفا.
    * كليم، أهو أنت يا عزيزي؟ هيا بنا!
    * ستقتلني!
    * كنت أمزح يا عزيزي! أي والله كنت أمزح! أية مسدسات معي! لقد كذبت عليك من خوفي! أرجوك هيا بنا! أنني بردان!
    واذ فطن كليم علي ما يبدو الي أن الموظف، لو كان شقيا حقيقيا لاختفي بالفرس والعربة منذ زمن بعيد، فقد خرج من الغابة، واقترب مترددا من الراكب.
    * لماذا خفت أيها الاحمق؟.. أنا... أنا كنت أمزح.. واذا بك تخاف.. اجلس!
    فدمدم كليم وهو يصعد الي العربة:
    * ربنا يسامحك يا سيد.. لو كنت ادري ما اخذتك ولو مقابل مائة روبل. كدت أموت من الخوف...
    وضرب كليم الفرس بالسوط. وارتعشٌت العربة. وضرب كليم مرة أخري فتمايلت العربة.
    وبعد السوط الرابع، عندما تزحزحت العربة من مكانها، غطي القياس أذنيه بالياقة واستغرق في التفكير، ولم تعد الطريق أو كليم يبدوان له خطرين.



    1885

    كليموشكا * تدليل لاسم كليم. المعرب

  8. #8
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عبدالله الحلوي
    قبس المنتدى
    تاريخ التسجيل
    10 2003
    الدولة
    النون ..
    المشاركات
    7,449

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    دائما

    تُخضعنا لحاله من الاستمتاع ..


    بقيت هنا طويلا وحتماً سأعود يا مجاهد ..



    ما اجملك ..



    مع حبي
    القبس

  9. #9
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية مجاهد اليامي
    مشــرف سابق
    تاريخ التسجيل
    08 2003
    المشاركات
    1,268

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )






    شكرأ أيها الحلوي

    لمرورك الذي أسعدني





    تحياتي الجحفانية




  10. #10
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية عبدالله الحلوي
    قبس المنتدى
    تاريخ التسجيل
    10 2003
    الدولة
    النون ..
    المشاركات
    7,449

    رد : انطون تشيخوف ( رائد القصة القصيرة )

    اظنها ستطول


    فأنا هنا تحت مخدر الاستمتاع ...



    لله درك يا ابا عليان ...



    سأعود مع وقفة مطوله لكل ما كتبت ...



    مع حبي
    القبس

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •