نظر إلى عقارب الساعة وتستلهم من جريانها ضمن مضمارها بعض الحكمة التي تراها مفيدة لك في تجاربك الحياتية والعملية، فلكلٍ من عقاربها قدر من الحركة في إتمام مسيرته ومشروعه الزمني بما يتناسب مع الحجم والمهمة التي أنيطت به، وليس لكل منها أن يتقدم أو يتاخر عن القدر اللازم لإنجاز دورته الزمنية، أو يقفز بعض الأجزاء أو يهملها، وفي ذلك درس مهم يرتبط بخططنا وإدارتنا لأوقاتنا.
لقد نجح الأوربيون في بيان النظم الإدارية المتكاملة، وفي تعزيز مبادئ حرية الكلمة وفعالية الرأي العام في التغيير، واستغرق ذلك النجاح قروناً من الزمن عانت منها الشعوب الأوربية صراعات مريرة: أهلية وإقليمية حتى تشرب المجتمع بكامله قيمة رأي الفرد وأهميته في تقويم كيان المجتمع فنجحوا في بناء نظمهم الإدارية على أسس ديمقراطية حققت لهم كثيراً من التفوق والإبداع على الأمم والشعوب الأخرى، ولكن ذلك النجاح استغرق زمناً لكي ينمو ويترعرع وينضح ويؤتي أكله، ولم يحدث بين عشية وضحاها.
وحينما حاول غورباتشوف (البروستريكا) أن يغير في مجتمع الاتحاد السوفيتي متجاوزاً عائق الزمن متناسياً عامل التهيئة والإعداد كانت النتيجة مرة مؤلمة أفنت كياناً سياسياً جباراً كان في يوم من الأيام عنصراً أساسياً في معادلات التغيير الاجتماعي والسياسي في الأمم والشعوب قاطبة.
إن الإشكالية التي يعاني منها كثير من صناع قرارات التغيير هي الخلط الواضح بين بريق الأهداف والنظريات وبين قابلية البيئة وكفاءة آليات التطبيق، فإغفال عامل الزمن في بناء أدوات التغيير المناسبة، وفي تهيئة المجتمع لتقبل التغيير واستيعابه ومن ثم التفاعل الإيجابي المثمر معه ربما أدى إلى هدر في الوقت والجهد والمال يصحبه عادة آثار سلبية استراتيجية واجتماعية.
وفي ميدان التربية والتعليم، يعد التغيير الاجتماعي الإيجابي مطلب التربية الأساس، فعبر المدرسة تنطلق موجة التطوير والتغيير لصناعة جيل المستقبل وتحديد ملامح الشخصية الفردية، وصياغة المجتمع ورسم معالم الهوية المجتمعية بمكوناته المتجددة والثابتة، غير أن ذلك كله يحتاج إلى عامل الزمن في صناعته وتسويقه وتوجيهه.
وتشير كتابات كثيرٍ من المهتمين بالتربية والتعليم إلى وجود ظاهرتين متناقضتين في الميدان التربوي كل منهما ذات صلة بمتغير الزمن: أولاهما الشكوى المستمرة من بعد المدرسة عن واقع لطالب، وعدم تلبيتها لحاجاته اليومية المعاصرة، واستمراريتها في معالجة قضايا ربما لم يعد لها وجود في حياة الطالب، وتوصف المدرسة في هذه الحالة بأنها تعيش زمناً ولى ولم يعد له وجود في حياة الطالب.
أما الشكوى الأخرى فهي تبني القيادات التربوية لمشروعات تربوية تطويرية في الميدان تتصف بالحداثة والتقدمية ربما لم تطبق في كثيرٍ من الدول المتقدمة، من مثل المعامل الافتراضية، والمدارس الذكية،.. وغيرها، في الوقت الذي تعاني فيه المدراس من نقص في أساسيات ربما كان الأولى تسديد النقص فيها قبل إشغال المجتمع التربوي (المنهك) بمشروعات بريقها جميل وواقعها صعب تحقيقه في ظل الظروف الحالية.
إن هذا التناقض الظاهر بين الواقع العملي في الميدان، والمثالية الجامحة في مراكز صنع القرار التربوي لتوحي بأن عامل الزمن والاهتمام به غير موجود لدى عددٍ من صناع القرار والقياديين في ميدان التربية والتعليم، فالمدارس تعيش في زمنٍ ماض، والقيادة تحلم في زمن غائب والتطوير الحقيقي غير موجود.
ومن خلال استقراء التجارب التربوية يذكر (سنايدر 2003) (1) أن افتقاد التخطيط الاستراتيجي، وعدم تهيئة الميدان التربوي لأهداف الإصلاح والتطوير التربوي، وعدم إجراء الدراسات التحليلية للواقع التربوي، وعدم القدرة على تحديد التعقيدات التربوية والمشكلات الناتجة عنها عوامل تؤدي إلى أن النظم التربوية غالباً ما تواجه نواتج مغايرة لأهدافها، وبالتالي دخولها في أزمات حادة يصعب عليها مواجهتها والسيطرة عليها).
ويمكن الإشارة إلى بعض الأسس المعينة على إنجاح مشروعات التطوير في ميدان التربية ومنها:
1- أن نحرص على الإنجاز وأن نوفر له كل المقومات شريطة أن لا يكون ذلك على حساب الجودة، وبالتالي فعامل الزمن حاسم في حالات كثيرة في تحقيق الجودة، فالأمور ولو بدت نظرياً أنها ممكنة لمن يملك إصدار القرار فقد لا تكون كذلك لمن يقوم بتنفيذ القرار، وللبيئة المستهدفة به.
2- التأكيد على وضوح الرؤية لدى صناع القرار ومنفذيه، ومن ثم دراسة البيئة المستهدفة دراسة متأنية، وتحقيق المهنية في العمل، وعدم الخلط بين التخصص المهني والقرار الإداري الإستراتيجي، سعياً إلى إنجاح العمل، وسرعة الإنجاز وتجويده، وحماية للعاملين في الميدان من التغيير العشوائي في الإستراتيجيات والآليات، نتيجة لتغير الآراء والتوجهات، وقد قيل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
3- أهمية إشراك الميدان في القرار، وتهيئته لتقبل التغيير والتفاعل معه والعمل على إنجاحه، والتأكيد على مبدأ ضبط جودة المدخلات والإجراءات والمخرجات ركائز أساسية في تحقيق الأهداف التربوية المنشودة.
4- تجنب النظرة الشكلية للمتغيرات الاجتماعية التي عادة ما تكون قاصرة في كثيرٍ من الحالات عن الغوص في أبعاد المتغير والتنبؤ بالآثار الناجمة عن إحداث التغيير، وكثيراً ما تفشل جهود توصف بأنها نظرياً مكتملة غير أن تطبيقها في الواقع قد لا يستند إلى تقييم سليم للبيئة المستهدفة، وقد لا يتبع مرحلية منطقية واقعية، وربما افتقد إلى معايير عملية للتقويم والمحاسبية، كل ذلك قد يترتب عليه آثار أكثر سلبية من الواقع قبل أن تتم عليه عملية التطوير أو التغيير!.
5- البعد عن سياسة قفز المراحل واختصار الزمن التي ربما أفلحت عندما يكون المنتج مادياً والمستهدف شكلياً، أما في التعامل مع التغيير الاجتماعي والتنمية الثقافية فالأمر يختلف ومهما استطعنا من اختصار الزمن فلا بد من استكمال عناصر التغيير ومقوماته واتباع المرحلية في تحقيقه.
وحالياً تعيش وزارة التربية والتعليم بالمملكة العربية السعودية امتداداً لتجارب عديدة في مجال التغيير والتطوير، غير أن شكوى العاملين في الميدان والمتأثرين بمخرجاته مستمرة، كما أن جهود المعنيين بالأمر في وزارة التربية والتعليم دؤوبة مضنية، غير أن النتيجة الفعالة والمطمئنة على أرض الواقع غير محسوسة مما يشير إلى حاجة ماسة لاعتماد الأسس العلمية في صناعة القرار بدءا من دراسة الفكرة ومدى تلبيتها لحاجة الميدان وأهميتها في سلم الأولويات، وتهيئة البيئة المستهدفة وتجويد آليات التنفيذ ومعايير التقويم، واعتماد الزمن عاملاً حاسماً في عمليات التغيير الاجتماعي، وأخيراً التأكيد على مبدأ التعزيز والمحاسبية لكل من يسهم في إنجاح التطوير أو تعويقه.
د. عبدالإله بن عبدالله المشرف
مدير عام مدارس الرياض