المدح : هو الثناء الحسن .. تقول : مدح زيدٌ عَمراً إذا أثنى عليه بالخير , أو ذكر فيه صفة حسنة هي فيه .
والمدح لا يستلزم من وجوده وجود المحبة , فقد توجد المحبة للمدوح وقد لا توجد ، فتقول : أبو طالب كان شهماً , والوليد بن المغيرة كان فصيحاً , وفرعون اعتنى بموسى صغيراً .. وتقول : محمد رسولُ الله وأفضلُ خلقه , وأبو بكر بنُ أبي قحافة أصدقُ الصحابة وأكرَمُهم , والحسن بن علي خامس الخلفاء الراشدين ..
والمدح قد يستعمل عند قوم حباً وثناءً , وقد يستعمل عند قوم آخرين تكسباً ورياءً .
هذا وللمدح أخطار غير محمودة , ونوافذ غير معدودة , ومن جملتها :
1_ الإفراط في المدح.. فإذا أفرط المادح في مدح الناس انقلب مدحه إلى نفاق وكذب ؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( البَذاء والبيان شعبتان من النفاق )) رواه أحمد والترمذي .
والبَذاء : هو الفحش في القول , والبيان : هو التوسع والتفصح في مدح الناس بما لا يرضي الله .
2_ أن المادح قد يدخل في إطار الرياء ؛ لأنه عندما يمدح أحداً فقد يظهر له بمظهر المُحِب ، بينما لا يضمر له إلا البغض والكره ..
3_ أن المادح ربما يقول أشياء لا سبيل للإنسان إلى معرفة ما يخفى من نقيضها ، لأن الرجل الذي مدح إنساناً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له عليه الصلاة والسلام :
« ويحك ! قطعت عنق صاحبك ، قطعت عنق صاحبك » مراراً .. ثم قال : « من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل : أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه » متفق عليه .
فالشرع حدد المسألة وقال : إن كان لابد للإنسان أن يمدح أحداً ، فليقل : أحْسِب فلاناً كذا , أي : أظنه صالحاً , أو فيه من الخير كذا وكذا ولا أعلم ما في الغيب , فالله وحده من يعلم , فلذلك لا أزكي على الله أحداً , وإنما أنا أحسِبه في الخير كذا والله حسيبه والعليم بحقيقته .
4_ أن المادح يُدخل بما يقول الفرحةَ على الممدوح ، وقد يكون هذا الذي يُمدح ظالماً أو فاسقاً .. قال الحسن البصري رحمه الله : من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يُعصى الله تعالى في أرضه .
ومعنى كلام الحسن : هو أن الظالم الفاسق يجب أن يُذم حتى يغتم ، لا أن يُمدح ليفرح ؛ لأن الظالم أو الفاسق إذا مُدح فلن يعلم أنه ظالم .
5_ أن الممدوح قد يصاب بالكبر في طبعه والإعجاب بنفسه ، وإذا أصيب الإنسان بالكبر والإعجاب ، هلك وضاع . ومن الخطورة بمكان أن يُمدح إنسان فيظن أنه على خير وصلاح وتقوى ، بينما هو على خلاف ذلك , كما كان الشعراء يمتدحون بعض الناس بما ليس فيهم ، ويأخذون على مدحهم لأولئك أموالاً طائلة ؛ وقد ذَمَّهم ربنا سبحانه وتعالى في كتابه حيث قال : (( وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ 224 أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ 225 وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ 226 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا 227 )) الشعراء . فقد استثنى ربنا سبحانه منهم المؤمنين الصالحين الذين يعملون الصالحات فقال : (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا )) .
فإذا مُدح الإنسان فوق العادة , فقد يفتر عن العبادة , وذلك بسبب ما أصابه من العجب بنفسه ، ثم يظن أنه - طالما انطلقت الألسنُ بالثناء عليه - قد وصل إلى ما لم يصل إليه غيره ..
وكارثة الممدوح أنه يكون قريباً من آفة العجب ، وقريباً أيضاً من آفة الرياء والعمل لغير الله ؛ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال : « إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب » إنما لسبب هذا , أو لأن هذا من جملة الآثار المترتبة من جراء الإفراط في المدح والله أعلم ..
وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا مُدح قال : ( اللهم اغفر لي مالا يعلمون , ولا تؤاخذني بما يقولون , واجعلني خيراً مما يظنون ) .
والمدح على إطلاقه له عواقب أخرى تظهر عند التمايز في مدح الأشخاص , حيث إن غير الممدوح مع وجود الممدوح ربما يلجأ إلى الحقد والضغينة على الغير .
فانظر إلى الناس عندما يتجادلون في التمايز فيما بينهم , ويُمدح طرف دون الآخر ، فانظر إلى التيه والخيلاء الذي يشعر به من مُدح ، وانظر إلى الحسرة والأسى التي دخلت على قلب من لم يُمتدح ، كما قال تعالى : (( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ٌ)) آل عمران : 188.
فلذلك حاذروا من المدح المنهي عنه ؛ وهو أن أطلق ألفاظي في توسيع أو في تكبير أفعال الآخرين أمامهم ، أو على مرأى أعينهم , أو في وجوههم , وذلك حتى أنال حظوة عندهم ، أو زيادة وسام , أو درجة إشراف ؛ حتى يرى هذا الممدوح نفسه أنه فوق الناس فيتكبر عليهم , أو أنه قد يُفتن بمدحك له فيُعجبُ بنفسه , والعجب بالنفس إحدى المهلكات ؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح : « ويحك قطعت عنق صاحبك » .
أخيراً أتمنى أن نستفيد من هذا الموضوع