فبأي هذه الأقوال الثلاثة، نأخذ؟ نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، فالله - عز وجل - يقول: {يخرج منهما} وهو خالقهما وهو يعلم ماذا يخرج منهما، فإذا كانت الآية ظاهرها أن اللؤلؤ يخرج منهما جميعاً وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا شك أن اللؤلؤ من الماء المالح أكثر وأطيب، لكن لا يمنع أن نقول بظاهر الآية، بل يتعين أن نقول بظاهر الآية، وهذه قاعدة في القرآن والسنة: إننا نحمل الشيء على ظاهره، ولا نؤول، اللهم إلا لضرورة، فإذا كان هناك ضرورة، فلابد أن نتمشى على ما تقتضيه الضرورة، أما بغير ضرورة فيجب أن نحمل القرآن والسنة على ظاهرهما {فبأي ءالاء ربكما تكذبان } لأن ما في هذه البحار وما يحصل من المنافع العظيمة، نِعم كثيرة لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً.
{وله الجوار المنشئات في البحر كالأَعلام } أي لله - عز وجل - ملكاً وتدبيراً وتيسيراً {الجوار} بحذف الياء للتخفيف، وأصلها الجواري جمع جارية، وهي السفينة تجري في البحر كما قال الله - عز وجل -: {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله} {المنشئات} أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: {في البحر} متعلق بالجواري أي الجواري في البحر، وليست فيما يظهر متعلقة بالمنشآت، يعني الجواري التي تصنع في البحر، لأن السفن تصنع في البر أولاً، ثم تنزل في البحر، وقوله: {كالأَعلام } تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل، كما قال الشاعر:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
كأنه جبل، ومن شاهد السفن في البحار رأى أن هذا التشبيه منطبق تماماً عليها، فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله - عز وجل -، وإنما نص الله عليها لأنها تحمل الأرزاق من جانب إلى جانب، ولولا أن الله تعالى يسرها لكان في ذلك فوات خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها، وفي هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى، لكنها تجري في الجو، كما تجري هذه في البحر، وهي الطائرات، فهي منة من الله - عز وجل - كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن السيارات أيضاً من جواري البر، فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحرية، وبرية، وجوية، وكلها من نعم الله - عز وجل -، ولهذا قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } أي بأي: نعمة من نعم الله تكذبان، والخطاب للإنس والجن، ثم قال - عز وجل -: {كل من عليها} أي: كل من على الأرض {فان } أي: ذاهب من الجن والإنس والحيوان والأشجار، قال الله تبارك وتعالى: {إنا جعلنا ما على الأَرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي: خالية، وقال الله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً} أي: يذر الأرض قاعاً صفصفاً، أو يذر الجبال بعد أن كانت عالية شامخة قاعاً كالقيعان مساوية لغيرها، صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } أي: يبقى الله - عز وجل - ذو الوجه الكريم، وكان بعض السلف إذا قرأ هاتين الآيتين وصل بعضهما ببعض، قال: ليتبين بذلك كمال الخالق ونقص المخلوق (3) ؛ لأن المخلوق فانٍ والرب باقٍ، وهذه الملاحظة جيدة أن تصل فتقول: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وهذا هو محط الثناء والحمد على الله - عز وجل - أن تفنى الخلائق ويبقى الله - عز وجل - وقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فيه إثبات الوجه لله - سبحانه وتعالى - ولكنه وجه لا يشبه أوجه المخلوقين، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } يعني أنت تؤمن بأن لله وجهاً، لكن يجب أن تؤمن بأنه لا يماثل أوجه المخلوقين بأي حال من الأحوال، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ولما ظن بعض أهل التعطيل أن إثبات الوجه يستلزم التمثيل أنكروا أن يكون لله وقالوا: المراد بقوله {ويبقى وجه ربك} أي ثوابه، أو أن كلمة {وجه} زائدة، وأن المعنى: ويبقى ربك! ولكنهم ضلوا سواء السبيل، وخرجوا عن ظاهر القرآن وحرفوه وخرجوا عن طريق السلف الصالح، ونحن نقول: إن لله وجهاً، لإثباته له في هذه الآية، ولا يماثل أوجه المخلوقين لنفي المماثلة في قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وبذلك نسلم ونجري النصوص على ظاهرها، المراد بها، وقوله: {ذو الجلال} أي: ذو العظمة {والإكرام } أي: إكرام من يطيع الله - عز وجل - كما قال تعالى: {أولـئك في جنات مكرمون } فالإكرام أي أنه يكرم من يستحق الإكرام من خلقه، ويحتمل أن يكون لها معنى آخر وهو أنه يُكْرَم من أهل العبادة من خلقه، فيكون الإكرام هذا المصدر صالحاً للمفعول والفاعل، فهو مكرَم ومكرِم {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} وهذه الآية تكررت عدة مرات في هذه السورة، ومعناها أنه بأي نعمة من نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس، وهذا كالتحدي لهم، لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذه النعم، ثم قال سبحانه وتعالى: {يسأله من في السموات والأَرض كل يوم هو في شأن } أي: يسأل الله من في السماوات والأرض، والذي في السماوات هم الملائكة يسألون الله - عز وجل - ومن سؤالهم أنهم {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كـل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } إلى آخره، ويسأله من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله - عز وجل - قسمان: الأول: السؤال بلسان المقال، وهذا إنما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربه دائماً حاجاته، لأنه يعلم أنه لا يقضيها إلا الله - عز وجل - وسؤال المؤمن ربه عبادة، سواء حصل مقصوده أم لم يحصل، فإذا قلت: يا رب أعطني كذا. فهذه عبادة، كما جاء في الحديث: «الدعاء عبادة (4) ». وقال تعالى {وقال ربكـم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } فقال {ادعوني} ثم قال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} وهذا دليل على أن الدعاء عبادة، النوع الثاني: دعاء بلسان الحال، وهو أن كل مخلوق مفتقر إلى الله ينظر إلى رحمته، فالكفار مثلاً ينظرون إلى الغيث النازل من السماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحة الحيوان، وإلى كثرة الأرزاق وهم يعلمون إنهم لا يستطيعون أن يجدوا ذلك بأنفسهم، فهم إذن يسألون الله بلسان الحال، ولذلك إذا مستهم ضراء اضطروا إلى سؤال الله بلسان المقال {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين}. {كل يوم هو في شأن } من يحصي الأيام؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - ومن يحصي الشهور؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - {كل يوم هو في شأن }، يغني فقيراً، ويفقر غنيًّا، ويمرض صحيحاً، ويشفي سقيماً، ويؤمّن خائفاً ويخوف آمناً، وهلم جرا، كل يوم يفعل الله تعالى ذلك، هذه الشئون التي تتبدل عن حكمة ولا شك، قال الله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى } فنحن نؤمن أن الله لا يقدر قدراً إلا لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلم، ولهذا قال: {كل يوم هو في شأن }، ولكن اعلم أيها المؤمن أن الله تعالى لا يقدر لك قدراً إلا كان خيراً لك، إن أصابتك ضراء فاصبر وانتظر الفرج، وقل: الحمد لله على كل حال. وكما يقال: دوام الحال من المحال، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس هذا لأحد إلا للمؤمن {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } نقول فيها ما قلنا في الآيات السابقة أن المعنى بأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ والجواب: لا نكذب بشيء من نعم الله، بل نقول: هي من عند الله، فله الحمد وله الشكر، ومن نسب النعمة إلى غير الله فهو مكذب. وإن لم يقل إنه مكذب قال الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } وهذه الآية يعني بها قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه على إثر مطر كان، قال لهم بعد صلاة الصبح: «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب» (5) .